الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2016-10-21

في ذكرى الهجرة... دروس للسوري الشريد – بقلم: د. محمد حبش

هاجر....والهجرة درس حياة....لقد سماها الرسول هجرة ولم يقل إنها نزوح ولا لجوء....
النزوح قهر وعذاب، واللجوء كره واضطرار، ولكن الهجرة خيار آخر، إنها مشروع حياة جديد تختاره عن بصيرة ويقين وترسم شكله ودربه وبرنامحه بيديك بعد رضا وتأمل تتسامى فيه فوق القهر وفوق الجبر.
ولذلك فإنه لم يعتبر مهاجره في المدينة قاعة انتظار كئيبة ينتظر فيها الإياب، لقد كانت بالنسبة له مشروع حياة جديد، وكان يقول للانصار المحيا محياكم والممات مماتكم يا معاشر الأنصار.

لم يسكن في المدينة الخيام والملاجئ، وإنما بنى البيوت والمساجد، ولم يزرع في المدينة البقل والبقدونس وإنما زرع النخيل والزيتون، وأسكن الوافدين الجدد من العزاب في صفة المسجد ولكنه علم الصحابة كيف يتخذون البيوت في العوالي حيث الاستقرار والنماء، وأسس بنفسه أكثر الشركات التضامنية نجاحاً بين خبرات الأنصار وزنود المهاجرين، حتى صار سوق المدينة بورصة مال واعمال تؤسس لعاصمة اقتصادية حقيقية في جزيرة العرب.
لم يبحث عن هيئات الإغاثة يتسول إحسانها ورحمتها، وإنما اشترى بنفسه شباك الصيد وفؤوس الحطابين ومناجل الأرض، وشاركهم زراعتهم وحصادهم وسنابلهم وطحينهم، وغرس بيده وسقى بيده وحصد بمنجله، وحين أنكر عليهم تأبير النخل وأدرك أنه كان على خطأ وقف بكل شجاعة وقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
لم يتاجر بمأساته، ولم يلق نفسه على أبواب الملوك يستصرخ ضمائرهم في تحصيل حقوقه من يد قومه، لقد قام بنفسه يطارد ما سرقوه من ماله ومال أصحابه، وكان يتابع بوعي وبصيرة أين يتحرك المال الذي سرقوه وحين تأكدت أخباره سار بجيش كبير من أصحايه الى قافلة قريش يسترد ما سرقوه بسيفه الحازم وحقه الظاهر ويمينه المتينة.
لقد عاش في المدينة وعاشت فيه، وهو من علم الناس أن العمل في الغربة وطن، وأن الكسل في الوطن غربة، وأن الأرض أرض الله، والرزق رزق الله، والكل عباد الله، وما لأرض على أرض فضل ولا مزية إلا بما يقوم فيها من عدل وعلم، وأن الأرض لا تقدس الإنسان وأن الإنسان هو الذي يقدس الأرض.

كان قلبه يتفطر شوقاً إلى مكة ولكنه لم يجعلها كعبة الأحزان ومذرف الأشجان، لقد سماها البلد الحرام، ولكنه عرف كيف ينقل أروع ما فيها إلى المدينة الجديدة وسماها أيضا طيبة البلد الحرام، وقال بشجاعة: ان الله حرم مكة وانا حرمت المدينة..!!

كان واعياً تماما لما يريد، إنه أول انتقال في جزيرة العرب من القرية الى المدينة، لم يكن في جزيرة العرب كلها بلد يسمى المدينة بعد، حتى مكة وهي أم البلاد فقد كان اسمها ام القرى وليس أم المدائن، ولكنه اختار بالفعل أن يسميها المدينة، إنها أول انتقال واع من حياة البداوة والقبائل والعشائر الى حياة المدينة والديمقراطية والأغلبية والمعاهدات والمواثيق.
لم يرد في التاريخ مصطلح (مدينة يثرب) فليس في جزيرة العرب مدينة أخرى تحتاج أن تميزها من المدينة الأولى، وحتى اليوم فإن استخدام مصطلح المدينة في اي بلد إسلامي كشعار تجاري أو صناعي أو سياحي لا يزال يحمل أول ما يحمل من دلالة مدينة رسول الله، تلك الرغبة الواضحة أن تكون المدينة المنورة مشروع الانتقال من حياة العشيرة (ما قبل الدولة) إلى حياة المدينة.
لقد رسم فيها مشروع مدينة ناهضة وأنفق فيها قرة قلبه ونور عينيه، وحتى حين فتحت مكة المكرمة بكل ما تشتمل عليه من حمولة إيديولوجية وما ترمز إليه من مركزية دينية وقبائلية وسياسية، وبكل ما فيه من ذكريات طفولته وكفاح أجداده من قصي غلى عبد المطلب فإنه لم يشأ أن يعود إليها في مشروعه المدني الذي تأسس في يثرب، وكأنه أراد أن يقول فلتكن مكة مدينة الله، ولتكن المدينة حضارة الإنسان، وكأنه يقول اجعلوا صلاتكم وضراعتكم في مكة واجعلوا أسواقكم وأرزاقكم وبساتينكم وحقولكم في المدينة، وعلى عكس كل التوقعات فقد أنجز الفتح العظيم في يوم مرحمة أبيض، وزار قبر شريكة كفاحه خديجة ونصب عند قبرها خيمة الانتصار، ثم عاد أدراحه إلى المدينة!!
وحين راودت هذه المخاوف الرجال الذين عملوا معه بإخلاص لبناء المدينة، وقال بعضهم لبعض ها قد فتحت مكة ولعل الرسول يفارقنا ويعود إلى ارض آبائه وأجداده قال لهم بصفاء وطهر: المحيا محياكم والممات مماتكم يا اهل المدينة، لولا الهجرة لكنت امرءأ  من الانصار اللهم بارك بالانصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
وحين قاربه الموت لم يشأ أن يكون رحيله عند الجبال المقدسة في عرفة أو المزدلفة أو منى أو أبي قبيس أو جبل النور، ولم يشأ أن يحمل رفاته إلى الملتزم والحطيم وميزاب الرحمات، وكان له ذلك كله، ولكنه اختار أن يزرع جسده حيث زرع مشروعه الكبير، وأن يدفن في قلب نهضته المدنية الهائلة التي احتضنتها يثرب القرية الوادعة والتي صارت بعطائه وبرنامجه المدينة المنورة.
الأرض لم تكن بالنسبة له شراداً وتيهاً، لقد كانت آفاق خصب وعطاء، وهو من علم السوري التائه: مثل المؤمن كمثل الغيث أينما وقع نفع.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق