الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2017-05-13

نهاية الصراع - بقلم: د. أحمد محمد كنعان

الاختلاف بين البشر سنة إلهية عبر عنها قوله تعالى : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا مارحم ربك ولذلك خلقهم ... الآية ) سورة هود١١٨، واقتضت حكمة الخالق عز وجل أن يقوم بين البشر نوع من التدافع منعاً لاستفحال الشر واستشراء أذاه الذي يمكن أن يفضي إلى فساد الخليقة ، وهذه أيضاً سنة إلهية ماضية في الخلق إلى يوم القيامة عبر عنها قوله تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) سورة البقرة ٢٥١ ، ولابد أن نلاحظ هنا اختيار البيان القرآني لهذا المصطلح " التدافع" ولم يعبر عنه بالصراع ، وفرق كبير بين المصطلحين ، فالصراع لغةً يعني أن يصرع أحد الطرفين الطرف الآخر، أما التدافع فإنه بريء من هذا المعنى، فالله عز وجل أراد أن يدفع أحد الطرفين الطرف الآخر ليمنعه من الشر دون أن يقضي عليه بالضرورة، وما دام التدافع سنة إلهية،
فإننا استناداً لرحمته وحكمته سبحانه لم يكن هدف هذه السنة التدمير والقتل، فالله عزوجل خلقهم للقيام بعمارة الأرض، لا ليقضي بعضهم على بعض، وهذا المعنى نستشفه من رد الخالق عز وجل على الملائكة الذين ظنوا أن الإنسان سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكان الرد الإلهي الحاسم :( إني أعلم ما لا تعلمون ) ما يوحي أن مشيئة الله ليس الصراع والتدمير وإنما التدافع الذي  يطامن من غلواء الشر ويمنعه من إفساد الأرض كما ورد في الآية المذكورة من سورة البقرة ،
ونلاحظ أن هذا التدافع بين البشر قد تهدأ حدته حيناً من الدهر حتى ليخيل إليك أن البشرية بلغت أخيراً سن الرشد وآمنت بأن الصلح خير ، إلا أن الأحداث اللاحقة سريعاً ما تكشف خطأ هذه النظرة ، وتؤكد أن فترات الهدوء ليست سوى وقفات عابرة كاستراحة المحارب بين معركتين ، والظاهر أن هذه العلة سوف تظل تنخر في الجسد البشري حتى آخر الزمان ، ربما بوتيرة أخف ، لكنها لن تختفي نهائياً كما يحلم الفلاسفة المحلقون في عالم المُثُل الذين تعوزهم القراءة العميقة لسنن التاريخ، فقد شاءت حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يقوم بين الناس شيء من التدافع ليكون هو المحك الواقعي للخير والشر ، ولكي يميز الخبيث من الطيب ، ولابد أن نلاحظ هنا كذلك أن التدافع بين البشر حتى عندما كان في أوج جنونه ـ كما جرى في بعض الحروب القديمة وفي الحربين العالميتين في العصر الحديث ـ ظل محصوراً في بقاع محدودة من الأرض ، ولم يثنِ بقية المجتمع البشري عن مواصلة رحلة الحياة، ونعتقد أن هذه كذلك سنة من سنن الله في خلقه ، فليس للبشر ـ مهما بلغ بهم الجنون والحماقة ـ أن يدمروا الأرض ومن عليها، لأن للأرض رباً هو وحده الذي يملك وضع النهاية متى شاء ، وكيف شاء .. سبحانه !!
ويخبرنا التاريخ أن أخطر مراحل الصراع والحرب ليست لحظة الهزيمة ، بل لحظة النصر، فليس من شيء أخطر على المتحاربين من النصر الذي يبعث في النفس نشوة الغلبة، ويغري بمواصلة الصراع ، وهذا ما يفعله معظم القادة والزعماء ، غير عابئين بالنتائج التي غالباً ما تنقلب في غير صالحهم إذا ما واصلوا الحرب طمعاً بالمزيد من الغنائم، ولهذا فإن من الحكمة الإمساك عن الحرب في لحظة الانتصار الأولى، دون إفراط ولا تفريط ، كما فعل مثلاً الزعيم الألماني "بسمارك" في عام 1870 بعد أن ربح الحرب ضد فرنسا فوحَّد ألمانيا ، وكان بإمكانه أن يواصل غزو بقية أوروبا، لأن الطريق إلى الدول المجاورة كان خالياً أمامه ، لكنه ـ بسبب حنكته السياسية وخبرته الحربية ـ لم يفعل ، بل بقي عند هذا الحد ولم يتجاوزه لما هو أبعد .. ففاز !!!
على النقيض من الزعيم النازي "هتلر" الذي بعد احتلاله النمسا ـ بسهولة وخسائر قليلة نسبياً ـ طمع باحتلال غيرها فكان ذلك كارثة عليه وعلى ألمانيا .. وعلى العالم !
وباختصار .. تبقى الحرب كارثة بكل المعايير ، مهما قدَّم لها الناس من مبررات ومعاذير وحجج ، وما النصر في الحرب إلا وهم كبير ، ينتشي له تجار الحروب ، ويتغنى به الشعراء والفنانون ، ويعلي من شأنه الفلاسفة بعباراتهم البراقة، ويبرره الساسة بحججهم الخبيثة ، ويبدو هذا الوهم الكبير واضحاً حين نجمع الصور معاً ، صور النصر وصور الهزيمة ، حيث تبدو لنا نياشين النصر البراقة إلى جانب جثث القتلى وجراحات الناجين والعاهات التي سترافقهم طوال حياتهم ، وتبدو الصورة أكثر فداحة حين نرى في وقت واحد جنرالات الحرب وهم يلتقطون الصور التذكارية إلى جانب طوابير اليتامى والأيامى والثكالى والمشردين !!
ولا ريب بأن هذه الصور المفجعة تعني أنه ما من حرب رابحة على الإطلاق ، فما من نصر مزعوم إلا مقابله هزيمة مؤكدة وكوارث مفجعة، وهذا ما يجعل الصورة العامة للحرب كارثية بكل المقاييس!!
لكن مع كل هذه الكوارث فإن الصراعات والحروب ـ التي كانت أبشع الآفات التي ابتليت بها البشرية ـ فإن الصراعات والحروب كانت أيضاً هي المحرك الأهم للتطور العلمي ، فقد ظل الزعماء على مدار التاريخ يجندون خيرة العلماء لتطوير آلة الحرب ، ومع تطوير هذه الآلة الرهيبة ، وتطوير الوسائل المضادة لها ، ظهر الكثير من المخترعات والمكتشفات التي عادت على البشرية بفوائد لا تعد ولا تحصى، وبهذا تتكشف لنا جوانب جديدة للحكمة الإلهية من خلال سنة التدافع بين البشر، إلا أن هذه الحقيقة لا تعني تشجيع البشر على مواصلة الصراع والحروب ، فقد أصبح لدى البشر اليوم قاعدة علمية كفيلة بمواصلة التقدم العلمي دونما حاجة لصراع أو حروب ، وقد قامت في معظم أنحاء العالم مراكز علمية متطورة ، وأصبح هناك ملايين من العلماء المتخصصين في مختلف حقول العلم ، وهؤلاء يمكنهم مواصلة التقدم العلمي دونما حروب ولا صراع، فهل تدرك البشرية هذه الحقيقة وتودع الحروب والصراعات إلى غير رجعة ؟! أم تستمر في ضلالها وصراعاتها الحمقاء وحروبها العبثية غير عابئة بالقيم والأخلاق ؟!!!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق