الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2017-10-16

القرآن الكريم والعقلانية – بقلم: د. أحمد محمد كنعان

القرآن الكريم هو كتاب الرسالة الخاتمة التي نزلت على النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حوالي عام 622م في مكة المكرمة، والقرآن الكريم هو معجزة الله الباقية حتى آخر الزمان، لما فيه من شواهد ودلائل، مازلنا نكتشفها بين الحين والآخر، مصداقاً لقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) سورة فصلت 53 ،
وقد انفرد القرآن الكريم بصفات لا نجدها في الكتب السماوية التي سبقته، منها أن الرسالات السماوية السابقة كانت موجهة لقوم الرسول دون غيرهم من العالمين أما القرآن الكريم فقد كان رسالة للعالمين جميعاً، كما ورد في آيات عديدة، منها قوله تعالى : (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) سورة الفرقان 1 .

وبما أن القرآن الكريم نزل للعالمين، وكان آخر الرسالات السماوية إلى أهل الأرض، فقد مثل نقلة حاسمة في التاريخ البشري، سواء على مستوى الرؤية الكونية أو على مستوى التشريع.
فعلى مستوى الرؤية الكونية جاء القرآن الكريم فحسم الكثير من القضايا التي سكتت عنها الرسالات السابقة مراعاة لظروف المجتمعات الماضية التي كانت تنمو وتتوسع وتتطور عمرانياً وفكرياً، فأزال القرآن الكريم كثيراً من التصورات الخاطئة التي شهدتها تلك المجتمعات، وبهذا خطا القرآن بالعقل البشري خطوة حاسمة أراد لها تحرير العقل البشري من الأوهام والتصورات الماضوية .
وعلى سبيل المثال كانت المعجزات الخارقة للعادة تصاحب الرسالات السماوية، بهدف إقناع العقل البشري وإقامة الحجة على الناس لكي يؤمنوا بالرسالة وبالرسول، أما القرآن الكريم فلم تصاحبه معجزة خارقة على تلك الشاكلة، فكان كلما طلب الكفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - معجزة خارقة كما كانت الحال مع الأنبياء السابقين كان جواب القرآن حاسماً بالرفض (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً) سورة الإسراء 90 ـ 93 ، فقد كانت المعجزات تجعل العقل يذعن لها لما فيها من خارق للعادات، أما القرآن الكريم فلم تصاحبه معجزة خارقة احتراماً منه للعقل البشري، وتعبيراً منه عن إعطاء هذا العقل حرية تامة ليؤمن بالرسالة والرسول عن اقتناع ورضا لا عن خضوع كما تفعل الخوارق .
وبهذه النقلة النوعية دشن القرآن الكريم مرحلة جديدة حاسمة في تاريخ العقل البشري تقول له بكل وضوح : لقد أصبحت من الآن فصاعداً سيد نفسك، وبلغت سن الرشد، وأصبحت جديراً بالخلافة في الأرض وعمارتها والوصول إلى العلم الذي أشار له قول الحق تبارك وتعالى للملائكة عندما أخبرهم سبحانه عن خلق الإنسان فاستغربوا وظنوا بالإنسان الفساد وسفك الدماء، فكان رد الخبير العليم عليهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) سورة البقرة 30 .
فقد أصبح الإنسان - بعد نزول القرآن الكريم وختم الرسالات السماوية به -مؤهلاً لتحقيق علم الله فيه؛ لا ظن الملائكة فيه؛ فهو سيعمر الأرض، ولا يتوقف عندها، بل سيغادر إلى الأفلاك البعيدة ليعمرها، وهذا بالفعل ما بدأه الإنسان في عصرنا !!
وهكذا نرى أن نزول القرآن الكريم، واختتام الرسالات به، وتوقف المعجزات، كلها تمثل التدشين الرسمي لاستلام العقل البشري زمام الأمور، وهذا ما شكل قطيعة مع العصور الماضية التي كان العقل البشري يحتاج فيها بين الحين والآخر إلى وحي ورسول وكتاب ومعجزات، لكي يتدرب ويتأهل للمستقبل الذي نعيش اليوم بعضه وسوف تعيشه بقيته أجيالنا القادم .
فكأن الرسالات السماوية السابقة كانت للمجتمع البشري أشبه بمقررات المدارس التي تتغير مع كل مرحلة من المراحل الدراسية، إلى أن يتخرج الطالب حاملاً الشهادة العليا التي مثلتها الرسالة الخاتمة ـ رسالة القرآن الكريم ـ التي منحها الله عز وجل للعقل البشري معترفة بأهليته للمضي باستكمال عمارة الأرض، بل .. عمارة العوالم الأخرى .
وتكتمل هذه العقلانية بأن الله عز وجل لم يرسل أنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم ليكونوا أوصياء على رسالته الخاتمة (القرآن الكريم) ولا قائمين على إلزام البشر بهذه الرسالة، فقد أراد الله عز وجل للناس أن يؤمنوا بهذه الرسالة عن طواعية وقبول ورضا، لا عن إكراه ولا إجبار .
ومن مظاهر العقلانية التي أسسها القرآن الكريم أن الآيات التي تتضمن أحكاماً صريحة فيه هي آيات محدودة جداً إذا ما قورنت بآياته التي تتجاوز ستة آلاف !
وتبلغ العقلانية ذروتها بأن الله عز وجل لم يحصر العقل البشري بالقرآن، بل دعاه إلى النظر في كتاب آخر هو الكون العظيم، ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تحض على النظر في السموات والأرض وفي كل شيء في هذا العالم، من ذلك مثلاً قوله تعالى : (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) سورة يونس 101 ، وقوله تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) سورة العنكبوت 20 ،  وغيرها كثير .
  ·      القرآن عقلانية مفتوحة على المستقبل
ومن مظاهر العقلانية أن القرآن الكريم لا يحصر عقولنا وفعلنا بالأرض وحدها، وإنما يدعونا ويحضنا على الرحيل إلى الأفلاك الأخرى لكي نعمرها: ( فإن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا .. ) سورة الرحمن 33 ، بل يشجعنا على هذا السفر ويعدنا بالمساعدة في تحقيق هذا فيقول تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) سورة الشورى 29 .
فالآفاق كلها مفتوحة لكم أيها البشر، ولا وصاية على عقولكم.. هكذا يقول القرآن العظيم !
ومن مظاهر العقلانية في القرآن الكريم أن الله عز وجل جعله مفتوحاً على المستقبل، إذ جعل معظم آياته ظنية الدلالة، قابلة للتأويل بما يقدم الحلول والهداية للإنسان مهما تقادم الزمان ومهما تطور العلم ( انظر كتابنا : نظرات في علم أصول الفقه ـ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت 2011 ) أما الآيات قطعية الدلالة في القرآن فهي آيات قليلة تنحصر بصورة خاصة في الغيبيات وأمور العقيدة والأخلاق، أما ما يتعلق برؤية الكون والمعاملات فأغلبها آيات ظنية الدلالة مفتوحة على المستقبل، قابلة للتأويل بما يعطي العقل البشري مساحة رحبة جداً للتأمل والتفكر والتدبر والبحث والاجتهاد .
  ·      القرآن عقلانية تنبذ الخرافات :
ومن علائم احترام القرآن الكريم للعقل البشري أنه كشف طبيعة الكثير من الظواهر التي ظلت لعصور طويلة تحير العقل البشري وتضلله وتجعله أسيراً للخرافات والأساطير، ومن ذلك مثلاً بيان القرآن الكريم لطبيعة "السحر" فقد كان الرأي السائد قبل القرآن أن للسحر حقيقة، وأن الساحر قادر على قلب طبائع الأشياء، فجاء القرآن ليؤكد أن فعل السحرة لا يعدو أن يكون وهماً وخداعاً للبصر، كما جاء في خبر سحرة فرعون مع نبي الله موسى عليه السلام ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ، قال بل ألقوا، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) سورة طه 65 ـ 66 ، فلم يكن سحرهم إلا تخييل ووهم ، وقد أكد القرآن الكريم هذه الطبيعة الواهمة للسحر مرة أخرى في قوله تعالى : (قال ألقوا، فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم) سورة الأعراف 116. فلم تتحول العصي إلى ثعابين، بل خيل ذلك للعيون تخييلاً لا حقيقة !!
ومن المفاهيم الخاطئة التي كثيراً ما قيدت العقل البشري، وبنى الإنسان عليها الكثير من الضلالات، ظاهرة "الجن والشياطين" فقد كان البشر يظنون أن الجن قادرون على الاستماع لخبر السماء، وأنهم يعلمون الغيب، وأنهم يتمتعون بقدرات خارقة تجعلهم قادرين على فعل كل شيء، فجاء القرآن الكريم يؤكد ضعف الجن غير ما يظن الناس (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) سورة النساء 76 ، وأن الجن لا يعلمون الغيب، وضرب على هذاواقعة ملموسة من خلال قصة الجن الذين كانوا تحت سلطان نبي الله سليمان عليه السلام (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) سورة سبأ 14 ، كما بين القرآن الكريم أن الشياطين ليس لهم سلطان على الناس كما جاء على لسان إبليس (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة إبراهيم 22 .
وهكذا مضى القرآن بالعقل البشري خطوات واسعة حاسمة فهمش دور الشياطين والجن في حياة البشر، وحمل الإنسان المسؤولية كاملة عن أفعاله (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) سورة الشورى 30  .
وبهذا خطا القرآن الكريم بالعقل البشري خطوة واسعة نحو التحرر من كل ما أثير في الماضي من ضلالات وتصورات تتعلق بالجن والشياطين وأفعالهم .
  ·      القرآن وعقلانية حرية العقيدة :
ويبقى من أكبر دلائل العقلانية التي أسسها القرآن الكريم إعطاء العقل البشري حرية الاعتقاد التي قررها في آيات كثيرة، منها قوله تعالى : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) سورة البقرة 256 ، وقوله تعالى : (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) سورة الكهف 29، فهذه الآيات وأشباهها في القرآن الكريم تدل بصراحة وجلاء حرية الاعتقاد، وفي هذا أعلى درجات العقلانية التي أسسها القرآن الكريم .
  ·      القرآن عقلانية سياسية :
أما على المستوى السياسي فقد أسس القرآن الكريم وضعاً سياسياً مدنياً، يعترف للناس بحريتهم في اختيار الموقف الذي يريدون دون وصاية ولا إكراه من أية سلطة أرضية، وكان هذا واضحاً تماماً في خطاب الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم، فقد أكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً أنه ليس للأنبياء أن يفرضوا الدين على المجتمع، ولا إكراه الناس على الإيمان كما نجده يكرر في آيات عديدة خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم : (إن عليك إلا البلاغ ..  لست عليهم بمسيطر.. إن أنت إلا نذير .. فذكِّر إنما أنت مذكر .. وما أنت عليهم بوكيل) ... فتأمل !




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق