الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2015-06-10

تفسير القرآن بالقرآن «الشَّهر النَّسيء» - بقلم: د. محمد عناد سليمان

وضَّحنا في مقال سابق أنَّ «الأشهر الحرُم» التي ذكرها الله تعالى في «القرآن الكريم» هنَّ أشهر متتاليات متتابعات، وأنَّ اعتماد المفسِّرين على «الرِّوايات» و«الأخبار» دفعهم إلى الاختلاف في تحديدها، ومعرفتها معرفة دقيقة. كما بيَّنا أنَّ هذا الاختلاف أدَّى في مجمله إلى تفسير خاطئ لمعنى «النَّسيء» الوارد في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ التوبة: 37. حيث أخرجوه من السِّياق الذي ورد فيه، وحمَّلوه معنًى لا يتَّصل بما قبله من الآيات.

       لذلك رأينا ضرورة دراسة الآية، وتفسيرها تفسيرًا يتَّفق مع السِّياق الذي وردت فيه في السَّورة ذاتها التي اختصَّت بالحديث عن «الأشهر الحرُم»، وهل يتوافق ما ذهب إليه الأقدمون مع هذا السِّياق أم لا؟ وهل اتفَّقوا على تفسير واحدٍ له أم اختلفوا؟ وما هي الآثار النَّاتجة عن هذا الفهم؟ وهل هناك دليل قاطع على ما ذهبوا إليه؟ أم أنَّ الاجتهاد اعتمادًا على «الرِّوايات» ذاتها كان سبيلهم ومبتغاهم؟

       وقبل الدَّخول في تفسيرها بناء على ذلك، لا بدَّ لنا من التَّنبيه على أمرين:

الأوَّل: أنَّ الآية التي قبلها وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ التَّوبة:36. تثبتُ بما لا يدعُ مجالا للشَّكِّ أنَّها جاءت لتحديد «عدَّة» الشُّهور، وأنَّ منها «أربعة» حملتْ صفة «التَّحريم»، منذ خلق الله السَّموات والأرض، وهو ما كنت عليه العرب قبل بعثة النَّبيّ e، وأكاد أجزم أنَّه سار عليه حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ، كما حملت الآيةُ أمرًا بالنَّهي عن «الظُّلم» فيهنَّ، وهو دين الله «القيِّم». وقد بيَّنا في مقال سابق الرَّاجح في تحديد هذه «الأربعة» اعتمادًا على تفسير «الشَّهر الحرام» نفسه الوارد في «القرآن الكريم». أي: أنَّ السِّياق في عامَّته يختصُّ بالحديث عن حرمتها وأهميَّتها.

الثَّاني: أنَّ العرب كانت تعتمد في تقويهما على الحساب «القمريّ» لمعرفة توقيت الأشهر، وتحديد مواعيدها،  وكانت تتنبَّه على أنَّ هناك نقصًا وتأخيرًا في كلِّ سنة «قمريَّة»، وكانت تزيدُ هذا النَّقص في مواضعه، تزيدُ «شهرًا» قمريًّا كلَّ اثنين وثلاثين شهرًا، وهو ما يسمَّى بـ«الكبيس»؛ لتستقرَّ الشٌّهور في فصولها، ولا تتغيّر، أو تتبدَّل، وتحافظ على المسمّيات التي وُضعت من أجلها لتدلَّ عليه في كلِّ فصل من فصول السَّنة، ولم تكن تزيدها كلَّ سنة حفاظًا على «الأهلَّة» التي يعرفون بها حلَّ دينهم، وعدَّة نسائهم، ووقت حجِّهم.

ولم يكن العرب في وقتها بدْعًا من غيرهم، في تعويض النَّقص الحاصل؛ بل هم سواء معهم، وما زلنا نشاهد العالم في عصرنا من غير «العرب» ممَّن يعتمدُ التَّقويم «الشَّمسيّ»، ولا حظوا أنَّ الحركة الفلكيَّة تنحرف بمقدار «ربع» يوم كلَّ عام، واستقرَّ الأمر بهم أن يزيدوا «يومًا» واحدًا على شهر «شباط» كلَّ أربع سنوات، وتعرف هذه السَّنة بالسَّنة «الكبيسة»، وهو ما يسمَّى بـ«النَّسيء».

والجدير ذكرُه  أنَّ هذا التَّقويم قد طرأت عليه تعديلات على حسب التَّطوُّر العلميّ الفلكيّ لمعرفة المقدار الدَّقيق لحركة الأرض حول «الشَّمس» و«القمر»، إذ زيدَ عليه دفعة واحدة «67» يومًا كبيسًا لتقويم الأيَّام بعد انحرافها نتيجة الحساب الفلكيّ غير الدَّقيق، كما زيدَ أيضًا عشرة أيَّام، إذ نام النَّاس مساء «5 تشرين الأوّل» ليصحوا صباح «15 تشرين الأوَّل» من أجل التَّقويم، خوفًا عليه من الانحراف.

والظَّاهر أنَّ العرب «المسلمين» قبل بعثة النَّبي e لم تكن متَّفقة على تحديد نظام التَّقويم «النَّسيء» لديها بدقَّة، ممَّا أدَّى إلى اختلافها في تحديد بعض الشُّهور دون بعض على نحو ما ذكرنا في مقالة أخرى «الحديث» الوارد في «البخاريّ» حيث روى قوله e: «وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»، وبيَّنا أنَّ «رجب» «ربيعة» هو «رمضان».

ونظيره اختلافهم في حجَّة «أبي بكر» رحمه الله قبل حجَّة الوداع، حيث ذهب بعضهم إلى أنَّها حصلت في «ذي القعدة»، بينما ذهب آخرون إلى أنَّها حدثت في «ذي الحجَّة»، وقد فصَّل «ابن حجر» في شرحه لـ«لصَّحيح» في هذه المسألة فقال: «وقلتُ: والحقُّ أنَّه لم يختلف في ذلك، وإنَّما وقع الخلاف في أي شهر حجَّ أبو بكر، فذكر ابن سعد وغيره بإسناد صحيح عن مجاهد أنَّ حجَّة أبي بكر وقعت في ذي القعدة، ووافقه عكرمة بن خالد فيما أخرجه الحاكم في الإكليل. ومن عدا هذين، إمَّا مصرِّح بأنَّ حجَّة أبي بكر كانت في ذي الحجَّة، كالدّاودي، وبه جزم من المفسِّرين الرُّمانيّ، والثَّعلبيّ، والماورديّ، وتبعهم جماعة، وإمَّا ساكت. والمعتمد ما قاله مجاهد، وبه جزم الأزرقي».

يظهر من هذا النَّقل أنَّ حجَّ «أبي بكر» رضي الله عنه كان في «ذي القعدة»، وإسناده «صحيح»، وبه جزم «الأزرقيّ»، وهو «المعتمد». وإذا كان الأمر كذلك: فهل هذا يعني أنّ أعمال «الحجِّ» كانت في غير شهر «ذي الحجَّة»؟ أم أنَّ اختلافهم في «النَّسيء» أدَّاهم إلى الاختلاف فيه؟ والصَّواب أنَّ «أبا بكر» قد حجَّ في شهر «ذي الحجَّة» على نظام «النَّسيء» الذي كان معمولا به. يؤيِّدُه قول «الزَّمخشري»: «ولا خلاف في الحجّ، وذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدّمون الحجّ سنة، ويؤخّرونه سنة وهو النّسيء، فرّد إلى وقت واحد، وردّ الوقوف إلى عرفة، فأخبر اللَّه تعالى أنّه قد ارتفع الخلاف في الحجّ».

وأدَّى اختلافهم أيضًا إلى عدم تحديد مواقيت «الحجّ»، وهو اختلاف حسمه «القرآن الكريم» في قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ البقرة: 197، فلا «جدال» في مواقيتها، فقد «بطل الجدال في الحجّ ووقته، واستقام أمرُه ووقته على وقت واحد، ومناسك متِّفقة غير مختلفة، ولا تنازع فيه، ولا مراء» كما يقول «الطَّبريُّ».

والسُّؤال للمتعصَّبين والرَّافضين: إذا كان التَّقويم الهجريّ قد بدأ في عهد «عمر بن الخطَّاب» رحمه الله، واعتمد هجرة النَّبيّ e كبداية له، فما هو التَّقويم الذي كان معتمدًا قبل ولادة النَّبي e؟ وما هو التَّقويم الذي كان يعتمده النَّبيّ e في حياته؟ ألم يُولد النَّبيّ e قبل هجرته بثلاث وخمسين سنة؟ ألا تدلُّ حياته e من ولادته وحتى وفاته إلى أنَّ نظام «النَّسيء» كان ساريًا؟ ألم تُشر بعضُ «الرِّوايات» إلى أنَّ أمَّه «آمنة» رحمها الله قد حملت به بـ«منى» في «أيَّام التَّشريق»؟ ألم تكن ولادته في «ربيع الأوَّل»؟ هل يعقل أنَّها حملت به ثلاثة أشهر؟ أم سنة وثلاثة أشهر؟ ألم يكن إهمال البحث في مسألة «النَّسيء» بابًا للتَّعريض بالنَّبيّ e من حيث فترة حمله وولادته؟ ألم يفتح إبطالُ «التَّقويم» الباب واسعًا أمَّام الطَّاعنين بالتاريخ الحوادث التَّاريخيَّة؟ أيعقلُ أننَّا لا نكاد نجدهم متَّفقين على تاريخ واحد لحادثة واحدة؟!

نقول: إنَّ الرُّواة قد ذكروا أنَّ العرب قد أخذت من «يهود» الحجاز نظام التَّقويم «القمريّ»، حيث كانت «تكبس» كلَّ تسعة سنة قمريَّة بـ«سبعة أشهر قمريَّة» لتتطابق مع «تسعة عشر سنة شمسيَّة».

ويظهر إذن  أنَّ «النَّسيء» كانت تستعمله العرب من أجل مطابقة التَّقويم «القمريّ» مع التَّقويم «الشَّمسيّ»، أي: هو عبارة عن عمليَّة فلكيَّة حسابيَّة، تقوم على زيادة «شهر» كلّ «اثنين وثلاثين شهرًا»، بحيث تبقى الشُّهور في مواعيدها، وأزمانها، ويكون «الحجُّ» ثابتًا في وقت معلوم لا يتسنَّه.

فهل هذه العمليَّة هي التي جاء التَّشريع لإبطالها؟ وهل «النَّسيء» المذكور في الآية السَّابقة هو ذاته ما كانت تعتمده العرب قبل نزول «القرآن»؟ أم أنَّ هناك معنى مختلفًا كما سيظهر من أقوال المفسِّرين والرُّواة؟
لتبيان ذلك كان لا بدَّ من تتبِّع ما قاله العلماء في تفسيرها، من ذلك قول «الطَّبري»: «معناه: إنَّما التَّأخير الذي يؤخِّره أهل الشِّرك بالله من شهور الحرم الأربعة، وتصييرهم الحرام منهنَّ حلالًا، والحلال منهنَّ حرامًا، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكام الله وآياته».

وروى أيضًا عن «ابن عبَّاس» و«الضَّحَّاك»: «النَّسيء: المحرِّم، وكان يحرّم المحرّم عامًا، ويحرِّمُ صفرًا عامًا، فالزّيادة: صفر، وكانوا يؤخِّرون الشُّهور حتى يجعلون صفر المحرَّم، فيحلُّون ما حرَّام الله. وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يعظمونه، هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهليَّة».

ونظيره قول «القرطبيّ»، و«البغويّ» في تفسيره، وفي «شرح السُّنَّة»: «ومعنى النَّسيء: هو تأخير شهر إلى شهر آخر» ثمَّ بيَّن سبب فعلهم هذا فقال: «وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك ممَّا تمسَّكت به من ملَّة إبراهيم عليه السَّلام، وكانت عامَّة معايشهم من الصَّيد، والغارة، فكان يشقُّ عليهم الكفّ عن ذلك ثلاثة أشهر على التَّوالي، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم، فنسأوا: أي: أخَّروا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخِّرون المحرَّم إلى صفر، فيحرِّمون صفر ويستحلُّون المحرَّم، فإذا احتاجوا تحريم صفر أخَّروه إلى ربيع، هكذا شهرًا بعد شهر حتى استدار التَّحريم على السَّنة كلِّها».

وهو ما يؤكِّدُه «ابن كثير» إذ يقول: «فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرَّم، وتأخيره إلى صفر، فيحلُّون الشَّهر الحرام، ويحرِّمون الشَّهر الحلال؛ ليواطئوا عدَّة الأشهر الأربعة».

وأورد «البيهقيّ» في «السُّنن الكبرى» ما يشير إلى هذا التَّأويل فقال برقم /9774/: «أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ, ثنا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُوسٍ, ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ, ثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ, حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ التوبة: 37 قَالَ: النَّسِيءُ أَنَّ جُنَادَةَ بْنَ عَوْفِ بْنِ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيَّ كَانَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلَّ عَامٍ وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا ثُمَامَةَ فَيُنَادِي أَلَا إِنَّ أَبَا ثُمَامَةَ لَا يُحَابُ وَلَا يُعَابُ, أَلَا وَإِنَّ عَامَ صَفَرٍ الْأَوَّلِ الْعَامَ حَلَالٌ, فَيُحِلُّهُ لِلنَّاسِ فَيُحَرِّمُ صَفَرًا عَامًا وَيُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ عَامًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾ التوبة: 37 إِلَى قَوْلِهِ {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} البقرة: 264».
وقد أجمل «النَّووي» في شرحه على «مسلم» ذلك فقال: «قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيُحِلُّونَهُ، وَيُنْسِئُونَ الْمُحَرَّمَ، أَيْ يُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمَهُ إِلَى مَا بَعْدِ صَفَرٍ؛ لِئَلَّا يَتَوَالَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ مُحَرَّمَةٍ تُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ مِنَ الْغَارَةِ وَغَيْرِهَا فَأَضَلَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى إِنَّمَا النسيء زيادة في الكفر الْآيَةَ».

وأوردَ «الرَّازيّ» في تفسره كلامًا فيه نظر، إذ قال: «والحاصل من هذا الكلام: أنَّ بناء العبادات على السَّنة القمريَّة يخلُّ مصالح الدُّنيا، وبناءها على السَّنة الشَّمسيَّة يفيد رعاية مصالح الدنيا.والله تعالى أمرهم من وقت إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام ببناء الأمر على رعاية السَّنة القمريَّة، فهم تركوا أمر الله في رعاية السَّنة القمريَّة، واعتبروا السَّنة الشمسيَّة رعاية لمصالح الدُّنيا، وأوقعوا الحجَّ في شهر آخر سوى الأشهر الحرم».

وما أدري أين أمر الله تعالى من وقت «إبراهيم» و«إسماعيل» عليهما السَّلام ببناء الأمر على رعاية السَّنة القمريّة؟ وبما أنَّه أمْرٌ إن - ثبتْ - فكيف يكون مخلاًّ بمصالح الدُّنيا؟ وهل تشير النُّقول السَّابقة إلى أنَّهم اعتبروا «السَّنة الشمسيَّة»؟ أو أنَّها كانت سببًا في تغير التَّقويم؟!

ألا يثبتُ من هذه النُّقول أنَّ «الزِّيادة في الكفر» إنَّما حاصلة من تأخير المحرَّم ليصبح حلالًا؟ ألا يثبتُ ذلك أنْ لا علاقة لـ«النِّسيء» بالتَّقويم «القمريّ» لا من قريب ولا من بعيد؟ ألم يختر «الرَّازيّ» هذا المعنى وقرَّره فقال: «وهذا القول عندنا هو الصَّحيح على ما قرَّرناه»! ألم يختصر المسألة كلَّها بسطر واحد فقال: «كان النَّسيء في الشُهور عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة»؟! ألم يوثِّق شعراء العرب «النَّسيء» بمعنى «التَّأخير» في أشعارهم، وهي بخلاف «الزَّيادة» التي تعني «التَّقويم»؟! ألم يوضِّح شعراؤهم المراد منه وهو تحريم المحلّل كقولهم:
ألسنا النَّاسئين على معدٍّ


شهورَ الحلِّ نجعلُها حرامَا

وقول الآخر:
نسؤوا الشُّهور بها وكانوا أهلها

من قبلكم والعزُّ لم يتحوَّلِ

يترجَّح عندنا ممَّا سبق أنَّ «النِّسيء»: التَّأخير، وثبتَ أنَّ «التَّأخير» هو «تحليل المحرَّم»، و«تحريم المحلَّل»، وهو ما سبَّب زيادة في كفرهم، وهذا ما تؤكِّدُ الآية نفسها في قوله تعالى: : ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ التوبة: 37.



وللتَّسهيل على القارئ نقول:
﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ : أي: إنَّ «النَّسيء» الذي هو «التَّأخير» يحدث بسبب تحليل المحرَّم، وتحريم المحلَّل، وإنَّما بدأنا بـ«التَّحليل» -كما نصَّت عليه الآية - لأنَّه تأخير، وثبتَ أنَّهم فعلوا ذلك؛ لئلا «تُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ مِنَ الْغَارَةِ وَغَيْرِهَا» بتوالي ثلاث محرَّمات، فيقولون بتحليلها، فينتج عن ذلك بالضَّرورة «تحريم المحلّل»، وهذا هو سبب زيادة كفرهم؛ لعلمهم المسبق بأنَّها «محرَّمة» منذ عهد «إبراهيم» عليه السلام.

﴿يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾: الهاء في «يحلُّونه» و«يحرِّمونه» تعود على «الشَّهر» أي: «المؤخَّر» الذي كان سببًا في زيادة الكفر، لكن ما هو «الشَّهر» الذي كانت تحلُّه العرب عامًا، وتحرِّمُه عامًا؟! والذي كان سببًا في زيادة كفرها؟

إنَّه بلا ريب «الشَّهر الحرام» الذي بيَّناه في مقال سابق، وأوضَّحنا أنَّ المراد منه «اسم الجنس»: أي: «الأشهر الحرم» بكليِّتها، وليس شهرًا بعينه، والهدف من فعلهم هذا، وكان سببًا في زيادة كفرهم ﴿لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ﴾: ليوافقوا عدَّة ما حرَّمه الله من الأشهر الحرم الأربعة بأن يجعلوا حرمتها حلالا في عام، يؤكِّده قوله تعالى في نهاية الآية نفسها: ﴿فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ﴾.

وقد أشار (السِّيوطيّ» في «الدرُّ المنثور» إلى تفصيل ذلك ونسبه إلى «ابن عبَّاس»، فقال: «وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت النّسأة حيًّا من بني مالك من كنانة من بني تميم، فكان أخراهم رجلا يقال له: القلمس، وهو الذي أنسأ المحرّم، وكان ملكا، كان يحلّ المحرّم عامًا، ويحرّمه عامًا، فإذا حرّمه كانت ثلاثة أشهر متوالية ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، وهي العدّة التي حرّم الله في عهد إبراهيم عليه السّلام، فإذا أحلّه دخل مكانه صفر في المحرّم ليواطئ العدّة. يقول: قد أكملت الأربعة كما كانت؛ لأنّي لم أحلّ شهرًا إلا وقد حرّمت مكانه شهرًا، فكانت على ذلك العرب من يدين للقلمس بملكه، حتى بعث الله محمدا e، فأكمل الحرم ثلاثة أشهر متوالية ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان».

إذن: قضيَّة «النَّسيء» تنحصر في تحليل الأشهر الحرم التي جعلها الله حرامًا فصيَّروها حلالاً، ولا علاقة له بما درج عليه النَّاس عامَّتهم وخاصَّتهم من أنَّ المراد من «النَّسيء» إلغاء عمليَّة «التَّقويم» التي كانوا عليها، ومعرفة مواعيد «الشُّهور»؛ بل كانت عمليَّة متقنة، لها أهلها العارفون بها الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ﴾ المؤمنون: 113، وهو مروي عن «قتادة»، وقال «الطَّبريّ»: «وأولى الأقوال في ذلك بالصَّواب أن يقال كما قال الله جلَّ ثناؤه: فاسأل العادين، وهم الذين يعدون عدد الشَّهور والسِّنين غير ذلك». حتى إنَّ «ابن عاشور» قد ربط بينهما فقال: «وأرى في تفسير ذلك أنَّهم جاؤوا في كلامهم بما كان معتادهم في حياتهم الدُّنيا من عدم ضبط حساب السِّنين؛ إذ كان علم موافقة السِّنين القمريَّة للسِّنين الشَّمسيَّة تقوم به كنانة، الذين بيدهم النَّسيء، ويلقبون بالنّسأة».

وأشار إلى «النَّسأة» وعملهم «ابن كثير» في «البداية والنِّهاية»: فقال: «قال ابن إسحاق فلمَّا تحدّثت العرب بكتاب أبرهة إلى النّجاشي غضب رجل من النّسأة من كنانة الذين ينسئون شهر الحرام إلى الحلّ بمكة أيام الموسم». ونظيره ما أورده «ابن الأثير» في كتابه «الكامل»، وقال «المسعوديّ»: «وقد كان العرب في الجاهلية تنسئ لأجل اختلاف الزّمان والمواقيت، وما بين السّنَة الشّمسيّة والقمريّة».

فإذا كانت العرب في «جاهليِّتها» تحرصُ على تعويض اختلاف الزَّمان والتَّوقيت، ومراعاة الفرق بين السَّنة القمريَّة، والسَّنة الشمسيَّة، فهل ما نفعله من تجاهلنا وتعطيلنا لذلك أكثر «حكمة»، أم أشدُّ «جهلاً»؟!

ألم يقل رسول الله e إن صحَّ: «إلا إنَّ الزَّمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا»، وفسَّره الشُّرَّاح على أنَّ «الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها» من حيث التَّحريم بعد العبث الذي حصل لها، وليس من حيث زمانها؟!

والذي أراه أنَّ من كان بيدهم «النَّسيء» والذي كان يُستخدم من أجل «التَّقويم»، لتتوافق السَّنة القمريَّة مع السَّنة الشمسيَّة، قد أدخلوا عملا آخر مستغلِّين معرفتهم بالأزمان والمواقيت، أدَّى إلى زيادة كفرهم، وهو تحليلهم ما حرَّمه الله، فنتج عن ذلك إبطاله، ممَّا أدَّى إلى اختلاط النَّهي عنه في «القرآن الكريم» بين إبطال «النسيء» الذي هو تحليل المحرَّم، وبين إبطال «النَّسيء» الذي هو «التَّقويم».

وهذا الخلط هو الذي ولَّد معنى جديدًا لا علاقة له به، فجعلوا «النَّسيء» محرًّما، وحمَّلوه معنى «التَّقويم»، فوقع العرب في أمر لا أظنُّ أنَّ الخروج منه سيكون سهلاً، حتَّى إنَّ «ويل ديورانت» في كتابه «قصَّة الحضارة» قد بنى رأيه على هذا الفهم، فقال في الفصل الخاصَّ بـ«انتصارات النَّبيe» : «وكانت أعمال الحكومة تشغل وقته كلّه، فقد كان يُعنى أشدَّ العناية بكلّ صغيرة وكبيرة في شؤون التّشريع والقضاء، والتّنظيم المدنيّ، والدّينيّ، والحزبيّ. وحتّى التّقويم نفسه قد عني بتنظيمه لأتباعه، فقد كان العرب يقسّمون السّنَة كما يقسّمها اليهود إلى اثني عشر شهراً قمرياً، وكانوا يضيفون إليها شهراً كل ثلاث سنوات لكي تتفق مع السّنة الشّمسيّة. فأمر النّبيّ أن تكون السّنة الإسلاميّة اثني عشر شهراً على الدّوام، كلّ منها ثلاثون يوماً، أو تسعة وعشرون على التوالي، وكانت نتيجة هذا أن أصبحت السّنة الإسلاميّة فيما بعد غير متّفقة مع فصول السّنة، وأن تقدم التّقويم الإسلاميّ سنة كاملة على التّقويم الجريجوري كل اثنتين وثلاثين سنة».

ولا شكَّ أنَّ الكاتب لم يعلم أنَّ رسول الله e لم يفعله، ولم يقله، وبيَّن أنَّ العرب كانت تعتمد في تقويمها على ما تفعله «اليهود»، وكانت تزيد «شهرًا» تعويضًا لما ينقصُ كلَّ عام من أيَّام، لتتوافق السَّنة القمريَّة مع السَّنة الشمسيَّة.

وجزم الكاتب أنَّ السادس عشر من تموز عام 622م هو البداية الرِّسميَّة للتَّاريخ الإسلاميّ، فقال: «وبعد سبعة عشر عاماً من ذلك الوقت اتخذ الخليفة عمر اليوم الأول من السَّنة العربيّة التي حدثت فيها تلك الهجرة، وكان هو في ذلك العام يوم 16 يولية من سنة 622، البداية الرسمية للتاريخ الإسلامي».
وهنا يظهر التَّناقض الذي وقع فيه «ويل ديورانت» حيث نسب الفعل إلى النَّبيّ e، بينما يجزم هنا بأنَّ من فعل ذلك هو «عمر بن الخطاب» رحمه الله، يؤكِّدُ ذلك ما أورده «البخاريُّ» في «صحيحه» برقم /3934/ في باب «مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ».

ولنضرب مثالاً على عدم صحَّة دعوى كاتب «قصِّة الحضارة»، ولعلَّ العذر له في أنَّه يعتمدُ مصادر قد قالت بما ذهب إليه، وهي ولادة النَّبيّ e، ومدَّة حياته التي عاشها.

تذكر المصادر أنَّ ولادة النَّبيّ e كانت في الثاني عشر من ربيع الأوَّل على المشهور من عام «الفيل»، وهذا العام يوافق سنة 570م، وعاش كما تشير المصادر ذاتها ثلاثة وستين عامًا، أي: أنَّ وفاته كانت e عام 633م كما في «البخاريّ» برقم /3903/، و«مسلم» برقم /88/.

وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أنَّ التقويم حينها كان ما يزال يعتمد زيادة الشَّهر في مكانه لتعويض النَّقص الحال كلَّ سنة، إذ لو لم يكن كذلك لكان عمر النَّبيّ e خمسًا وستِّين عامًا ونيِّفا؛ لأنَّ السَّنة القمريَّة تزيد على الشمسيَّة سنةً كلَّ اثنتين وثلاثين سنة.

ولهذا نجدُ اختلافًا في «الأخبار»، و«الرِّوايات» حول كثير من الأحداث التي جرت في زمنه e، وما أرى سببًا لها إلا تجاهل «الشهر المقوِّم».

وثمَّة مثال آخر عرضه بعضُ من درس هذه الظَّاهرة؛ ليثبتَ أنَّ «الشَّهر المقوِّم» كان مستخدمًا بعد وفاة النَّبيّ  e، وهو تاريخ معركة «اليرموك»، حيث وردت فيها ثلاث روايات، الأولى عن «ابن عساكر» أنَّها جرت سنة 15 هجريَّة، لكنَّ «محمد بن إسحاق» حدَّد أنَّها في السَّنة ذاتها في شهر «رجب»، ثمَّ حدَّد «الكلبيّ» أنّها جرت في الخامس من شهر «رجب» من السَّنة ذاتها. وأثبتَ أنَّ هذا التَّاريخ يقابل 20 آب من عام 636م، أي: أنَّ عدد الأشهر القمريَّة مطابق لعدد الأشهر الشمسيَّة بعد إضافة الشَّهر المقوِّم في مكانه، مما يدلُّ على أنَّ «العرب» كانت ما تزال تسير على تقويمها الصَّحيح حتى السَّنة الخامسة عشرة للهجرة.

معركة اليرموك
التَّقويم
اليوم
الشهر
السَّنة
الهجري
5
رجب
15
الميلادي
20
آب
636
ولزيادة التَّوضيح:
التَّقويم
اليرموك
الهجري
0
1
+
14
15
الميلادي
621
622
+
14
636

بالمحصِّلة: أرى أنَّه من الضَّرورة بمكان أن يعود «العادُّون» في هذا العصر وهم «الفلكيُّون» إلى عملهم، وأن يفرَّغوا من أجل معرفة «التَّقويم»، وتحديد مواعيد الأشهر؛ لتتناسب مع فصولها، وأن تعود «الأشهر الحرُم» إلى مواضعها، وما يرتبط بها من تحريم صيد البرّ، لتتوافق مع زمان تكاثر الحيوانات ووضْعها، والحفاظ عليها من الانقراض؛ نتيجة الخلل الحاصل في عدم تحديد أوقات وأزمنة ذلك، وما نتج عنه من آثار أُخرى، من الصُّعوبة تداركُها. والله تعالى أعلم.

د. محمد عناد سليمان

8 / 6 / 2015م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق