إنَّ حادثة «الإسراء
والمعراج» من المعتقدات البديهَّية التي تلقَّاها الخلَفُ عن السَّلَف، حتى أصبحتْ
جزءًا لا يتجزَّأ من أصول الدِّين، ولا يجوز المسَاس بها، أو الاقتراب من حماها؛
بل إنَّ مجرَّد العودة إليها، والبحث في مكنوناتها تجعل من الباحثِ عرضةً
للاتِّهام، وسببًا في التَّكفير، على اعتبار أنَّ مثل هذه الحوادث والقصص قد أصبحت
من مستلزمات الدِّين، ومن يتحدَّث عنها، ويبحث فيها، فكأنَّما يهدم الدِّين.
ولا شكَّ أنَّ
من يذهب هذا المسلكَ في رفْضِ دراستها، والقبول بقطعيِّة حدوثها، إنَّما هو إمَّا
مقلِّد أعمى، أو متعصِّب أهوج؛ لأنَّه يخشى معرفة سبل الهداية، والصِّراط المستقيم
الذي أثبته ربنَّا عزَّ وجلَّ في أعظم معجزة إلا وهي «القرآن الكريم»، وما يحيد
عنه إلا المفسدون والمستكبرون.
ولا ندِّعي
هنا التَّفرُّدَ في مثل هذه الأبحاث؛ بل سبقنا إليها كثيرون، إلا أنَّ غالبيتهم دَرَجوا
على نهجِ من سبقهم في القول وبناء الأحكامِ، إمَّا لانعدام المنهج العلميِّ في
البحث والنَّقد، وغياب سبُلِهِ ومستلزماته، وإمَّا لتقديسِ سابقٍ، وتنزيهِ ما وصل
إليه، على أنَّه الغاية المطلوبة، والنِّهاية المثوبة.
وليس المراد
في هذا المقال التَّفصيل في قصَّة «الإسراء»، أو الإشارة إلى الخلاف الذي وقع بين
أهل العلم من حيث «الإسراء» بروح النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، أم بجسده، أم
بكليهما معًا، فهي حادثة معروفة مشهورة، وقد أثبتها «القرآن الكريم»، وجعل سورةً
تحمل اسمها، تُتلى حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، ولا ينكرها إلا جاهلٌ ضالّ.
وإنَّما
المراد ما التصق بهذه الحادثة، حتى أصبح جزءًا لا يتجزَّأ منها، ألا وهو حادثة «المعراج»،
فما إن يُذكرُ «الإسراء» حتى يتسارع إلى الذِّهن ذكر «المعراج»؛ بل إنَّ بعضهم
يقدِّم الثَّانية على الأولى، وعامَّة الأمَّة يظنُّون أنَّهما حادثة واحدة،
ويعتقدون أنَّ «الإسراء» هو «المعراج» ذاته، وهو كما أراه من الأوهام التي عرضتْ
لهذه الأمَّة، وأُدخلت في الشَّريعة.
وكان مدخلي
للبحث فيها طرحُ عددٍ من الأسئلة:
أوَّلها: إذا
كانت حادثة «الإسراء»، وهي انتقال بين المسجدين، «الحرامِ» و«الأقصى»، من «مكّة»
إلى «القدسِ»، قد ذكرها «القرآن الكريم» صراحةً، وبسورة حملت اسم الحادثة نفسها،
ألا وهي سورة «الإسراء» فلمَ لم نجدْ نصًّا صريحًا، أو لفظًا واضحًا يبيِّن حادثة «المعراج»،
مع أنَّها أبلغ، وأشدُّ؛ لأنَّها انتقال من العالم السُّفلي، إلى العالم
العلْوِيّ؟!
ثانيها: إذا
كان «الإسراء» ذُكر للدَّلالة على عظمة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وتبيان
معجزته، ومكانته عند ربِّه جلَّ وعلا، فـ«المعراج» أولى بالذِّكر؛ لأنَّه أعظم
دلالة، وأقوى حجَّة؟!
ثالثُها: إذا
كانت أعظم معجزة، فلمَ اختلف العلماء في تحديد زمانها؟ ألم يختلفوا في «الإسراء»؟
وهل كان بالرُّوح، أم بالجسد، أم بكليهما معًا؟ ألا يدلُّ ذلك على أنَّ ثمَّة
عاملا أدَّى إلى الاختلاف في أعظم معجزة جرت للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم؟
وبما أنَّ
حادثة «الإسراء» واضحة ظاهرة، وقد ذُكرت في كتاب الله عزَّ وجلَّ، فلا مجال لردِّها
أو إنكارها، إلا أنَّ الواقع يشير إلى أنَّ العلماء اتَّخذوا منها أصلاً لإثبات
حادثة «المعراج»، ونسبة ذلك إلى «القُرآن الكريم»، فكانت سورة «النَّجم» مرادَهم
ومأواهم، وحاولوا جاهدين إخضاع الألفاظ، وعطف السِّياق ليوافق ما ذهبوا إليه؛ بل
أستطيع القول: إنَّ من فعل ذلك يعلم علم اليقين مراده وهدفه، من تشويهٍ للدِّين،
وحرْفِه عن صراطه، حيث عمل على تثبيت ذلك، ودسِّ ما يؤيّده من أحاديث وغيرها، ولن
نلتفت إلى من يرى في «الأحاديث الصَّحيحة» قدسيَّةً تُضاهي قدسيَّة «القرآن» نفسه،
أو تفوقُه عند بعضهم، ولا شكَّ أنَّ من فعل ذلك يدرك تمامًا عمله؛ بل هي عمليَّة
متكاملة ومُتقنة، فكيف لا، وقد وقعت في الشَّرائع السَّابقة، فانتهى بها المطاف
إلى التَّحريف والضَّلال، وما شريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم بدْعًا منها.
من أجل ذلك سنخصِّصُ
دراستنا هنا على سورة «النَّجم»، ومحاولة تفسيرها اعتمادًا على منهج تفسير «القرآن
بالقرآن»، ومعرفة السِّياق الذي عليه آياتها؛ لأنَّ من رأى في المعراج حقيقة،
اتَّخذ من هذه السُّورة دليلا، وسنبيِّن الأحاديث الواردة في ذلك، وإظهار تناقضها،
ولا غرو إن أسقطنا بعضها.
ونشير إلى
أنَّ أهل التَّفسير قد اختلفوا في تأويل آياتها، وذهب بعضهم مذهبًا يأباه كلام
الله عزَّ وجلَّ، وبعضهم نسب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز على الله
منه، وغير ذلك مما سنبيِّنه في موضعه، وإنَّما أردتُ من هذا أن أوضِّح اختلافاتهم
في ذلك، ونحن لنا أن نرجِّح بعضها، وأن نميل إلى ما نراه أقرب إلى الصَّواب، ولا
يتعارض مع كتاب الله سبحانه وتعالى، إضافة إلى أنَّه لم نجد ذكرًا لـ«لمعراج»،
إشارة أو تصريحًا، وإنَّما بعض تأويل ممن رأى فيه ذلك.
إنَّ سورة «النَّجم»
تستفتح آياتها بقسَمٍ عظيم يؤكِّدُ نفي الضَّلالة عن محمِّد صلى الله عليه وسلم؛
لأنَّ قريشًا أنكرت عليه نزول الوحيّ، وأنكروا لزامًا على ذلك نزول القرآن، يدلُّنا
عليه أواخر السَّورة التي قبلها في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ
بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}الطُّور 30. وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ
بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ}الطّور34.
فأقسم سبحانه وتعالى هنا في أوائل السُّورة بـ«النَّجم» إلى أنَّ محمَّدًا على الطّريق
القويم، وأنَّه لا يتكلِّم من تلقاء نفسه، أو عن نزعة هوى، وقد أكَّد سبحانه
وتعالى ذلك في غير موضع، فقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الْوَتِينَ}الحاقة46.
ثمَّ شرع
سبحانه وتعالى في الآيات التَّالية في وصف «جبريل» عليه السَّلام، وأنَّه الذي
ينزل على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بـ«القرآن»، فقال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَى{5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى {6} وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى
{7} ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى
{9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى {10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ
مَا رَأَى {11}.
وقد اتَّفق
معظم أهل العلم من المفسِّرين كـ«الطّبريّ» و«البغويّ» و«القرطبي»، و «ابن كثير»
منسوبًا إلى «قتادة» و«الرَّبيع» و«مجاهد» و«سفيان» و«ابن زيد» على أنَّ المقصود «جبريل»
عليه السَّلام، ولم نعلم أحدًا خالف في ذلك إلا «الحسن» فيما يذكره «الطَّبريّ»،
حيث ذهب إلى أنَّ المقصود هو الله سبحانه وتعالى.
وكذلك
اتفق غالبيتهم على أنَّ «الأفق
الأعلى» المراد به حقيقة الأفق حين طلوع
الشَّمس، والذي يأتي منه النَّهار، وأنَّ «جبريل» عليه السَّلام نزل ودنا وتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى من
النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأوحى إليه ما أوحى من كلام ربِّه سبحانه وتعالى.
وقد نزل في الصُّورة التي خلقه الله عليها، وكان قبل ذلك ينزل على صورة رجل،
والأحاديث في ذلك معروفة.
إلا
أنَّ «الطَّبريُّ» ذكر قولاً
تفرَّد به، فقال: «فاستوى هذا الشَّديد القوي
وصاحبكم محمَّد في الأفق الأعلى، وذلك لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم،
استوى هو وجبريل عليهما السّلام بمطلع الشَّمس الأعلى، وهو الأفق الأعلى».
وغالب
الظَّنَّ أنَّ مثل هذا الكلام دخيل على «الطَّبريّ» في تفسيره؛ لثلاثة
أسباب:
الأوَّل:
أنَّ «الطَّبري» في تفسيره
للآيات السَّابقة قد رجَّح أنَّ المقصود هو «جبريل» عليه السَّلام، وأنَّه نزل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم.
الثَّاني:
اختلاف الأسلوب في طرح الفكرة ومناقشتها على غير عادة «الطَّبريّ».
الثَّالث:
ما ذكره «ابن كثير» تعقيبًا على قول «الطَّبريّ» نفسه فقال: «وقد قال ابن
جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه عن أحد...ولم يوافقه أحدُ على ذلك، وهذا
الذي قاله من جهة العربيَّة متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك، فإنَّ هذه
الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء؛ بل قبلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في
الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السّلام، وتدلَّى إليه، فاقترب منه، وهو على الصَّورة
التي خلقه الله عليها، له ستمئة جناح».
بل
إنَّ ابن كثير يستطرد في كلامه ليورد أحاديث يبيِّن ضعفها، ثم يقول: «وهذا الذي قلناه من أنَّ هذا المقترب الدَّاني الذي صار بينه
وبين محمد صلى الله عليه وسلم، إنَّما هو جبريل عليه السَّلام، وهو قول أمّ
المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة، كما سنورد
أحاديثهم قريبًا إن شاء الله، وروى مسلم في صحيحه عن ابن عبَّاس أنَّه قال: رأى
محمَّد ربَّه بفؤاده مرَّتين، فجعل هذه إحداهما. وجاء في حديث شريك بن أبي نمير عن
أنس في حديث الإسراء: ثم دنا الجبَّار ربّ العزَّة فتدلَّى، ولهذا تكلَّم كثير من
النَّاس في متن هذه الرِّواية، وذكروا أشياء فيها من الغرابة، فإن صحَّ فهو محمول
على وقت آخر، وقصَّة أخرى، لا أنَّها تفسير لهذه الآية، فإنَّ هذه كانت ورسول الله
صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء».
فـ«ابن كثير» يشير إلى أمور
عديدة:
منها:
أنَّ من قال بأنَّ المتدلي والدَّاني هو الله سبحانه وتعالى هو «أنس» رضي الله عنه.
ومنها:
كثرة الكلام والتَّأويل في هذه الرَّاوية عن أنس حتى وصل إلى درجة الغرابة.
ومنها:
أنّ المراد منها قصَّة أخرى، ومكان غير هذا المكان من التَّفسير.
ومنها:
أنَّ النَّزول هنا في الأرض وليس في السَّماء، كما يظنُّ كثير من أهل العلم، وأنَّ
المراد هو «العروج»، لكن في الوقت نفسه أطرح سؤالا هنا: إن لم يكن هذا مكانها،
ولم تكن ليلة «الإسراء»، فأيُّ ليلة هي إذن؟ ومتى كانت؟! إضافة إلى أنَّه لا يمكن
بحال أن يكون الدَّاني والمتدلِّي هو الله سبحانه وتعالى، على الرَّغم من وجود
أحاديث صحيحة تقول بذلك، فكان القول بأنَّ «جبريل» عليه السَّلام هو المقصود أصح وأولى.
وتجدر
الإشارة إلى أنَّ هذا الحديث المروي عن «أنس»، والذي قال عنه «ابن كثير»: «إن صحَّ» مذكور في «البخاريّ» من حديث طويل،
فكيف يشترط ابن كثير صحِّته ليتكلَّم فيه؟! ونسبه «القرطبيّ» إلى «ابن عبَّاس».
والظَّاهر
والله أعلم أنَّ ثمَّة تصحيفًا حدث فيه، فـ«ابن كثير» يقول: «ثم دنا الجبَّار ربّ العزّة فتدلَّى»، والذي في «البخاريّ» كما وقعتُ عليه: «ودنا
للجبَّار ربِّ العزَّة فتدلى»، والمراد هنا النّبي
صلى الله عليه وسلم.
ودرج «ابن حجر العسقلانيّ» في شرح
الحديث بناء على لفظ «أنس»، وليس على لفظ «البخاريّ» نفسه فيما وقعتُ عليه، فقال في «الفتح»: «قوله: ودنا الجبّار ربّ العزة فتدلى حتى كان
منه قاب قوسين أو أدنى في رواية ميمون المذكورة، فدنا رُّبك عزَّ وجلَّ فكان قاب
قوسين أو أدنى. قال الخطابيّ: ليس في هذا الكتاب يعني صحيح البخاري حديث أشنع ظاهرًا
ولا أشنع مذاقًا، من هذا الفصل فإنَّه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين،
وبين الآخر، وتمييز مكان كلِّ واحدٍ منهما، هذا إلى ما في التَّدلّي من التّشبيه
والتّمثيل له بالشيء الذي تعلّق من فوق إلى أسفل».
ثم تابع ابن
حجر قوله: «ثم قال الخطّابيّ مشيرًا إلى رفع الحديث من
أصله، بأنَّ القصَّة بطولها إنَّما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه، لم يعزُها إلى
النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقلها عنه، ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في
النَّقل أنَّها من جهة الرّاوي. إمَّا من أنس، وإمَّا من شريك، فإنَّه كثير التّفرُّد
بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرّواة. انتهى. وما نفاه من أنَّ أنسًا
لم يسند هذه القصَّة إلى النَّبيَ صلى الله عليه وسلم لا تأثير له، فأدنى أمره
فيها أن يكون مرسل صحابيّ، فإما أن يكون تلقَّاها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم،
أو عن صحابيّ تلقّاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرّأي فيكون لها حكم الرّفع.
ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرّفع أصلا، وهو خلاف
عمل المحدثين قاطبة، فالتّعليل بذلك مردود. ثم قال الخطّابيّ: إن الذي وقع في هذه
الرّواية من نسبة التّدلّي للجبّار عزّ وجلّ مخالف لعامة السّلف والعلماء وأهل التَّفسير
من تقدّم منهم ومن تأخّر».
وبَنَا مَنْ ذهب
إلى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد صعد إلى السَّماء وهو خلاف المشهور على
قصَّة «المعراج» عددًا من الأمور:
الأوَّل:
رؤية النَّبيّ صلى الله وسلم لربِّه رؤية العين الباصرة، وإليه ذهب «ابن عبَّاس»، ولا شكَّ أنَّ هذا مما لا يمكن قبوله، لما ورد في «البخاريّ» /4854/ في قوله: «حَدَّثَنَا
يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا أُمَّتَاهْ
هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ
قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ
فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَمَنْ حَدَّثَكَ
أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ
ثُمَّ قَرَأَتْ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ} الْآيَةَ وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَتِهِ
مَرَّتَيْن».
لكن الغريب
أنَّ الإمام «النَّووي» في شرح «سنن التِّرمذيّ» قد مال إلى رأي «ابن عبَّاس» موافقًا رأي صاحب «التَّحرير»، وأجاز رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
لربَّه جلَّ وعلا، وهو خلاف ما عليه النَّصُّ
الصَّريح في «القرآن الكريم» وحديث «البخاريّ»
السَّابق.
قال «النّووي»: «وأمَّا صاحب التَّحرير فإنَّه اختار إثبات الرّؤية، قال:
والحجج في هذه المسألة وإن كانت كثيرة، ولكنَّا لا نتمسك إلا بالأقوى منها، وهو
حديث ابن عبَّاس رضيَ الله عنهما، أتعجبون أن تكون الخلَّة لإبراهيم، والكلام
لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ وعن عكرمة سئل ابن عبَّاس رضي الله
عنهما هل رأى محمَّد صلى الله عليه وسلم ربَّه؟ قال: نعم. وقد روى بإسناد لا بأس
به عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: رأى محمّد صلى الله عليه وسلم ربَّه.
وكان الحسن يحلف لقد رأى محمّد صلى الله عليه وسلم ربَّه، والأصل في الباب حديث
ابن عبّاس، حبر الأمّة، والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر رضي الله
عنهم في هذه المسألة، وراسله هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربَّه؟ فأخبره أنَّه
رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضي الله عنها؛ لأنَّ عائشة لم تخبر أنَّها سمعت
النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: لم أرَ ربِّي، وإنَّما ذكرت ما ذكرت متأوِّلة
لقول الله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل
رسولا. ولقول الله تعالى: لا تدركه الأبصار. والصَّحابيّ إذا قال قولاً وخالفه
غيره منهم لم يكن قوله حجَّة، وإذا صحَّت الرّوايات عن ابن عبَّاس في إثبات الرّؤية
وجب المصير إلى إثباتها، فإنَّها ليست مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظَّنّ، وإنَّما
يتلقّى بالسَّماع، ولا يستجيز أحد أن يظنَّ بابن عبَّاس أنَّه تكلّم في هذه
المسألة بالظَّنّ والاجتهاد، وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عبَّاس:
ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عبَّاس. ثم إنَّ ابن عبَّاس أثبتَ شيئا نفاه غيره،
والمثبت مقدّم على النَّافي. هذا كلام صاحب التَّحرير فالحاصل أنَّ الرَّاجح عند أكثر
العلماء أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بعيني رأسه ليلة الإسراء
لحديث ابن عبَّاس وغيره مما تقدَّم، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسَّماع من رسول
الله هذا لا ينبغي أن يتشكَّك فيه، ثم إنَّ عائشة رضى الله عنها لم تنفِ الرُّؤية
بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما
اعتمدت الاستنباط من الآيات».
ونقلتُ ما ذكره «النّوويّ» لنعلم مدى تعلُّق بعض أهل العلم بشخص دون شخص، فـ«ابن عبَّاس» مقدَّم عنده على «عائشة» رضي الله عنها، ولا يكون قولها مُبطلا لقول «ابن عبَّاس» بل العكس، وسواء أكان هذا أم لم يكن، أليس هذا دليلا على تناقض في حقيقة
الرّؤية إن حدثت؟ أم أنَّ الأمر برمَّته وهْمٌ ولا وقوع له؟! خاصَّة إذا علمنا
أنَّ «ابن عبَّاس» قد أخذ قوله السَّابق عن «كعب الأحبار» فيما يرويه «التَّرمذيّ» نفسه في الحديث /3270/.
الثَّاني:
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قد سمع «صريف الأقلام»، كما في صحيح «البخاريّ» برقم /349/
باب «كيف فرضت الصَّلاة في الإسراء»، يقول من حديث طويل: «فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَى
أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً». وكذلك الحديث بتمامه في صحيح «مسلم»، و«سنن التّرمذيّ». و«صريف الأقلام» صوتها حال الكتابة، والمراد: ما تكتبه الملائكة من أقضية
الله سبحانه وتعالى.
وثمّة أمر ثابت في سورة «النَّجم» وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}النّجم13. حيث يجتهد
كثيرون ليثبتوا أنَّ هذه الآية دليل على رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لـ«جبريل» عليه السَّلام في المرَّة الثّانية في السَّماء عند عروجه، وحتى
نستوضح حقيقة ذلك نسأل أنفسنا: إذا كانت هذه الرؤية الثَّانية، فأين هي الرُّؤية
الأولى؟ وأين مكانها؟ وأين مكان الرُّؤية الثَّانية؟
وللوصول إلى الإجابة التي تتوافق مع كتاب الله، نعود إلى الآيات نفسها في
هذه السُّورة لنعلم الرّؤية؛ لأنَّ سورة «الإسراء» لا دلالة فيها صريحة على رؤية النّبي صلى الله عليه وسلم لـ«جبريل» عليه السَّلام، وبناء على ذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى قد بيِّن الرّؤية
الأولى ومكانها في ردِّه على المشركين الذين أنكروا نزول الوحي على النَّبيِّ صلى
الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَهُوَ
بِالأُفُقِ
الأَعْلَى {7} ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى
{9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى {10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ
مَا رَأَى {11}.
ويدلُّ على ذلك حديث «البخاريّ» /3235/ حيث جاء: «حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ ابْنِ الْأَشْوَعِ
عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا فَأَيْنَ قَوْلُهُ {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنَى} قَالَتْ: ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ
وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ
فَسَدَّ الْأُفُقَ».
وقد أخرجه «مسلم» أيضًا /290/. فعُلم من هذا الحديث أنَّ النّزول الأول كان في الأرض، وقد
سدَّ «جبريل» بجناحه «الأفق» التي هي تظهر عند مطلع الشَّمس.
وباعتماد منهج تفسير «القرآن بالقرآن» نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن هذه الرُّؤية
الأولى في موضع آخر من كتابه العزيز، فقال تعالى في سورة التَّكوير: {وَلَقَدْ
رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}التّكوير23. وجاءت بعد قوله تعالى: {وَمَا
صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ}التّكوير22. ثم تلاها قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}التّكوير25. للرَّد على
ما قاله المشركون من جنونه وغير ذلك، وهو موافق لما ورد في سورة «النَّجم» نفسها، والسَّبب الذي أُنزلت من أجله.
وإليه ذهب «ابن
كثير» وغيره من المفسِّرين، فقال: «وقوله تعالى: ولقد رآه بالأفق المبين، يعني:
ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرِّسالة عن الله عزَّ وجلَّ على الصورة التي
خلقه الله عليها، له ستمئة جناح. بالأفق المبين: أي البين، وهي الرؤية الأولى التي
كانت بـالبْطحاء وهي المذكورة في قوله: علمه شديد القوى، ذو مرَّة فاستوى، وهو
بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى».
فـ«ابن كثير»
يؤكِّدُ أنَّ المقصود هو «جبريل» عليه السَّلام، وأنَّ النُّزول كان في الأرض،
فكيف رآه بعضهم معراجًا؟ وأنَّ الرُّؤية كانت في السَّماء؟
وقد ذكر بعض
المفسِّرين ومنهم «الطَّبريّ» و«الماورديّ» و«البغويّ» و«القرطبيّ» و«أبو حيَّان»
و«ابن عاشور» مكان هذه الرُّؤية، وهي في «مكَّة المكرَّمة»، من ناحية المشرق في «أجياد»؛
بل إنَّ «أبا حيَّان» قد أشار إلى مكان الرّؤيتين فقال: «ولقد رآه: أي رأى النَّبي
صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السّلام، وهذه الرؤية بعد أم غار حراء، حين رآه على
كرسيٍّ بين السَّماء والأرض في صورته له ستمئة جناح، وقيل: هي الرؤية التي رآه
فيها عند سدرة المنتهى، وسمي الموضع أفقًا مجازًا، وقد كانت له عليه السلام رؤية
ثانية بالمدينة، وليست هذه. وقيل: في أفق السَّماء الغربيّ، حكاها ابن شجرة، وقال
مجاهد وقتادة: رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكَّة». واعتمادًا على هذه الأقوال يثبت
لدينا أنَّ من ذهب إلى أنَّ الرُّؤية هذه كانت في السَّماء قد أخطأ ووهِم.
أمَّا الرٌّؤية الثَّانية
فقد وردت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}النّجم13. ولا
شكَّ أن المقصود هنا رؤيته لـ«جبريل» عيه السَّلام،
وليس لله سبحانه وتعالى كما مرَّ، وإليه ذهب «مجاهد» و«الرَّبيع» وذكره «الطَّبريّ» و«القرطبيّ» و«البغويّ» حيث يقول: «رأى جبريل في
صورته التي خلق عليها، نازلاً من السَّماء نزلة أخرى، وذلك أنَّه رآه في صورته
مرَّتين، مرَّة في الأرض، ومرَّة في السَّماء. والظَّاهر أنَّ «البغويّ» يقصد بالمرة التي في السَّماء هي عند «الأفق الأعلى» ثم «دنا فتدلَّى».
وقال «ابن مسعود» في تفسير هذه الآية: «رأى جبريل في رفرف قد ملأ ما بين السَّماء والأرض». ويؤيّد قول «ابن مسعود» ما ورد في
صحيح «مسلم» و«التّرمذيّ» /5063/: «حدثنا أحمد بن
منيع، أخبرنا إسحاق بن يوسف الأزرق، أخبرنا داود بن أبى هند، عن الشعبي عن مسروق
قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهنَّ فقد
أعظم الفرية على الله: من زعم أنَّ محمدا رأى ربَّه فقد أعظم الفرية على الله،
والله يقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وما كان لبشر
أن يكلّمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب. وكنت متكئًا فجلست فقلت: يا أم
المؤمنين، انظريني ولا تعجليني، أليس الله تعالى يقول: ولقد رآه نزلة أخرى، ولقد
رآه بالأفق المبين؟ قالت: أنا والله أوَّل من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
هذا، قال: إنَّما ذلك جبريل، ما رأيته في الصُّورة التى خلق فيها غير هاتين
المرتين، رأيته منهبطًا من السَّماء سادًّا عظم خلقه ما بين السَّماء والأرض، ومن
زعم أنَّ محمَّدا كتم شيئًا مما أنزل الله عليه فقد أعظم الفرية على الله».
وقال أبو حيَّان: «نزلة أخرى: أي مرة أخرى، أي نزل عليه جبريل في صورة
نفسه، فرآه عليها، وذلك ليلة المعراج، وأخرى: تقتضي نزلة سابقة، وهي المفهومة من
قوله: ثم دنا، فتدلى: وهو الهبوط والنُّزول من علو. وقال ابن عبَّاس وكعب الأحبار:
الضَّمير عائد على الله، على ما سبق من قولهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى ربَّه مرَّتين». وهنا نلاحظ
أنَّ «أبا حيَّان» قد استخدم مصطلح «المعراج» ولم أجده عند كثير ممن سبقوه من أهل التَّفسير، وأنَّ
قول «ابن عبَّاس» مقرون بقول «كعب الأحبار».
والظَّاهر من ذلك كلِّه أنَّ «النَّزلة»
التي بمعنى الهبوط هي الرُّؤية الثَّانية، وهو «جبريل» عليه السَّلام، إلا أنَّ
الغريب حقًّا أن يجعل بعضهم معنى «النَّزلة»: الصُّعود، وهو معنى معاكس تمامًا
لمعناها الأصلي والمراد منها.
ولعلَّ سائلاً يقول: إذا كان «الأفق
الأعلى» هو الرُّؤية الأولى، و«نزلة أخرى» هي الرُّؤية الثَّانية، فماذا تقولون في
قوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}النّجم14. {عِندَهَا
جَنَّةُ الْمَأْوَى}النَّجم15؟ ألم يتخذها بعض أهل العلم دليلاً على أنَّ المراد الرُّؤية في السَّماء
وليست في الأرض؟ وبالتّالي فيه دلالة على «المعراج»
نفسه؟
نقول: لا شكَّ
أنَّ كلامنا
السَّابق، وما ذهب إليه كثير من المفسّرين، وما أوردناه من بعض الأحاديث كفيل
بتفنيد هذا الزّعم وردِّه، ونضيف إليه تفسيرًا جديدًا مستنبطًا من «القرآن»
نفسه، ومتوافقًا مع سياق الآيات في هذه السُّورة.
قوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}النجم14.
إنَّ معنى «السِّدرة» لغةً الشَّجرة الطَّيبة ذات الثَّمر الطّيّب، وتسمّى «النَّبِق»، ينتفع بورقها، ومنها نوع آخر لا ينتفع بورقه. فقد ورد
في «تاج العروس»: «شَجَرُ
النَّبِقِ الوَاحِدَةُ بِهَاءٍ، قال أَبو حَنِيفَة: قال ابنُ زِياد: السِّدْرُ من
العِضَاهِ وهو لَوْنَانِ: فمنْه عُبْرِيٌّ ومنه ضَالٌ. فأَمَّا العُبْرِيّ فمَا لا
شَوْكَ فيه إِلاّ ما لا يَضِيرُ».
وعند
العودة إلى ما قاله أهل التّفسير لمعرفة المراد من معناها، نجدهم يجمعون على أنَّ
المقصود هي شجرة «النَّبق»، وهو معنى لا يختلف عما ذكره أهل اللّغة، لكنَّهم يرون
أنَّها في السِّماء السَّادسة، وقيل: في السَّماء السَّابعة، كما عند «الطَّبريّ»، و«القرطبيّ»، و«البغويّ»، و«أبي حيَّان» و«ابن كثير» وغيرهم، ثم
أوردوا على ذلك أحاديث وأخبار تؤيّد ما ذهبوا إليه كما في صحيح «البخاريّ» و«مسلم».
لكن عند
العودة إليها نلاحظ عددًا من الأمور:
الأوَّل: أنَّ
بعضها يرويه «ابن عبَّاس» عن «كعب الأحبار»، منه ما ذكره «الطَّبريّ»، قال: «حدثنا ابن حميد قال:
ثنا يعقوب، عن حفص
بن حميد، عن شمر قال: جاء ابن
عباس إلى كعب الأحبار، فقال له: حدثني عن
قول الله عند
سدرة المنتهى عندها جنة المأوى،
فقال كعب
: إنها
سدرة في أصل العرش، إليها ينتهي علم كل عالم، ملك مقرب،
أو نبي مرسل، ما خلفها غيب، لا يعلمه إلا الله» .
ومنه
أيضًا قوله:
«حدثني يونس قال:
أخبرنا ابن وهب قال:
قال أخبرني جرير بن حازم، عن الأعمش، عن شمر
بن عطية، عن هلال
بن يساف قال:
سأل ابن عباس كعبًا،
عن سدرة المنتهى وأنا حاضر، فقال كعب: إنها سدرة على رءوس حملة
العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، ثم ليس لأحد وراءها
علم، ولذلك سمّيت سدرة المنتهى، لانتهاء العلم
إليها».
ولا
نعلمُ سبب سؤال «ابن عبَّاس» وهو حبر الأمَّة لـ«كعب الأحبار» عن
معناها؟ وكيف يعلم «كعب» بأنَّها في رؤوس العرش؟ أليس من الأولى أن يعلم «ابن
عبَّاس» بذلك؟
الثَّاني: اختلافهم في زمان وقوعها، فمنهم من يرى أنَّ حادثة «المعراج» كانت ليلة «الإسراء» ذاتها، قال «البيهقيّ»: «وفي هذا السياق دليل على أنَّ المعراج كان ليلة أسري به عليه الصّلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس. ورجَّحه ابن كثير فقال: «هذا الذي قاله هو
الحقُّ الذي لا شك فيه ولا مرية». ثم يقول بعد أن
ذكر أحاديث تؤكِّد عدم حدوثه ليلة الإسراء: «قلت: وهذا إن صحَّ يقتضي أنَّها واقعة
غير ليلة الإسراء، فإنّه لم يذكر فيها بيت المقدس، ولا الصُّعود
إلى السّماء، فهي كائنة غير ما نحن فيه،
والله أعلم».
الثَّالث:
إقحام اسمي نهرين معروفين في «الشَّام» في هذه الأحاديث كما في «البخاريّ» /3887/،
و«مسلم» /263/، وهما النَّهران الظّاهران اللذان وردا فيها، وهما «النِّيل» و«الفرات»،
وذلك في الحديث الذي رواه «قتادة» عن «أنس» أنَّ
النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السّماء السّابعة نبقها مثل
قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، يخرج من ساقها
نهران ظاهران، ونهران باطنان، قلت: يا جبريل: ما هذا؟
قال: أمَّا الباطنان ففي الجنّة، وأمَّا الظّاهران فالنّيل والفرات».
ولا أعلم سبب ذكرهما، وإغفال ذكر النّهرين الباطنين،
مع أنَّ ذكرهما أولى لوجودهما في «السِّدرة» كما زعموا!! بل إنَّ بعضهم زعم أنَّ
الباطنين هما «السلسبيل» و«الكوثر»، وقال القاضي «عياض» رحمه الله: «هذا الحديث يدلُّ على أنَّ أصل سدرة المنتهى في الأرض؛
لخروج النّيل والفرات من أصلها». وقول القاضي غريب، وتوجيه عجيب، ومحاولة لإخضاع اللفظ
ليوافق السَّماع.
الرَّابع: اختلافهم في تحديد مكانها، فقد ذكروا أنَّها في
السَّماء السَّادسة حينًا، وفي السَّابعة حينًا آخر كما في «البخاريّ» و«مسلم» وبعض المفسِّرين كـ«ابن كثير» وغيره.
الخامس: اختلافهم في سبب تسميتها بـ«سدرة المنتهى» على تسعة أقوال، كما يذكر «القرطبيّ» في تفسيره.
ولا أعلم سبب اختلافهم في مكانها! وزمانها! وسبب
تسميتها؟ على الرَّغم من أنَّ هذه الحادثة من الأهميَّة بمكان تجعلهم يهتمون
بأدقِّ تفاصيلها وصورها!!
وعند البحث في حقيقة معنى هاتين الآيتين، نجد أنَّ «السِّدرة» هي مكان معروف في «مكة المكرَّمة»، وعندها شجرة «النَّبق»، يؤيد ذلك ما ورد في سنن «أبي داود»
/2032/، وكذا في مسند الإمام «أحمد» /1416/، ومسند «الحميديّ» /337/، و«البيهقيّ» في «سننه الكبرى» /9757/، و«ابن
الأثير» في «جامع الأصول» /6995/، والحديث بلفظه من
سنن «أبي داود»: «حدثنا حامد بن يحيى حدثنا عبد الله بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن إنسان الطّائفي عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن الزبير قال: لما أقبلنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم من ليّة، حتى إذا كنا عند السّدرة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف القرن الأسود، حذوها فاستقبل نخبا ببصره، و قال مرة واديه ووقف حتى اتّقف النّاس كلهم، ثم
قال: إنَّ صيد وجّ وعضاهه
حرام، محرم لله، وذلك قبل نزوله الطّائف، وحصاره لثقيف».
وهو حديث مشهور استدلَّ الفقهاء والأئمة به على
حرمة صيد «وجّ»، وبالتَّالي فلا حجَّة لهم في جعل «السِّدرة» مكانًا في «الجنَّة» بناء على ما ورد
من اختلاف في الرّوايات السَّابقة.
ولعلَّ
الأمر العظيم في هذا الحديث ورود كلمة «وجٍ» وهو «الطَّائف» نفسها، وقيل:
وادٍ قريب منها. فقد ذكره «ياقوت الحموي» في معجمه فقال: «وفي الحديث أنَّ النّبي صلي الله علية وسلم قال: إنَّ آخر وطأة لله يوم وجّ، وهو الطَّائف. وأراد بالوطأة
الغزاة ههنا، وكانت غزاة الطّائف آخر غزوات النَّبيّ صلي الله علية وسلم. وقيل: سمّيت
وجًّا بـوجّ بن عبد الحق من العمالقة. وقيل: من خزاعة».
وذكره ابن قتيبه برقم /64/، فقال: «قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا مَعَ حَدِيثٍ حَدَّثَنِيهِ يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحَارِثِ، عَنْأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: إِنَّ وَجًّا مُقَدَّسٌ، مِنْهُ عَرَجَ الرَّبُّ إِلَى السَّمَاءِ
يَوْمَ قَضَاءِ خَلْقِ الأَرْضِ».
يظهر في هذا الحديث أنَّ الله سبحانه وتعالى عرج
منه إلى السَّماء يوم قضاء خلق الأرض، وأن «كعب الأخبار» هو أوَّل من
استخدم هذا اللفظ بمعنى الصّعود إلى السَّماء، ويؤيد هذا الحديث ما ذكره «ياقوت»
قبل قليل: «آخر
وطئة وطئها الله بوجٍّ. وهو حديث رواه «أحمد /17562/،
و«الحميديّ»
في مسنده /336/، و«الطّبرانيّ» في «معجمه الكبير» /704/، و«السّيوطيّ» في «جامع الأحاديث» /25458/، وقال «الهيثميّ»: «رجاله ثقات». وأورده «الألوسيّ» و«أبو حيَّان» في
تفسيريهما.
وإذا
كان هذا الوادي قريب من «السَّدرة»، وهي المكان الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة «النَّجم»، فلا شكَّ أنَّ
من نَسَبَ «المعراج» للنَّبي صلى الله عليه وسلم من هذا المكان يعلم حقيقة مثل
هذه الأمور، وإذا كان «المعراج» قد نُسب إلى الله سبحانه وتعالى كما في هذين الخبرين، فإن
نسبته إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم أقلُّ وأولى ممِّن أراد القول ذلك.
أمَّا قوله
تعالى {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}النَّجم15. فلا دليل فيه على أنَّ
المراد بـ«الجنَّة» التي في السَّماء، وباعتماد منهج تفسير «القرآن بالقرآن» نجد
أنَّ لفظ «الجنَّة» قد ورد في «القرآن الكريم» بمعنيين:
الأوَّل:
جنة الدُّنيا، وهي البستان، وهو الأصل في معناه اللغوي، ففي «تاج العروس»: «الجَنَّةُ كُلُّ بُسْتانٍ ذي شَجَرٍ تَسْتَتِرُ بأَشْجارِه
الأَرضُ».
وهو ما ورد في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ
ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ
بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ
يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}البقرة265، وقوله
تعالى: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ
خِلالَهَا تَفْجِيراً}الإسراء91، وقوله أيضًا: {وَاضْرِبْ
لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا
جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمَا زَرْعًا {32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا}
الكهف 18.
الثَّاني:
جنَّة الآخرة، وهي غيبيَّة، وقد وردت موصوفة بألفاظ متغايرة، من ذلك قوله تعالى: {قُلْ
أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ
لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً}الفرقان15، وقوله تعالى: {وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ
جَنَّةِ النَّعِيمِ}الشعراء85، وقوله أيضًا: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}الحاقة22.
أما لفظ «المأوى»
فليس خاصًّا بـ«الجنَّة»، فقد ورد لها كما في قوله تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ}السّجدة19، وقوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}النّازعات41،
وورد أيضًا مقترنًا بـ«الجحيم »كما في قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوَى}النّازعات39.
وأمَّا قوله
تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }النّجم18، فقد روى «الطَّبريّ»
و«القرطبيّ» وغيرهما أنَّ المراد «جبريل» عليه السَّلام في صورته التي خلقه الله
عليها، فقال «ابن عبَّاس»: «رأى رفرفًا سدّ الأفق».
والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا.
وبعد هذا
العرض الموجز أرى أن لا حقيقة لقصَّة «المعراج»؛ بل هي موضوعة منحولة من قصة «الإسراء»
نفسها، ولا شكَّ أنَّ من وضعها أراد تشويه الدِّين وإدخاله في عالم الوهم والخيال،
وجرِّه إلى طريق الخرافات والأساطير، مثلها في ذلك مثل قصة «الأعور الدَّجَّال»، و«نزول
عيسى»، و«انتظار المهدي» ممِّا لم ينزِّل به الله جلَّ وعلا سلطانًا.
والمرجَّح
أنَّها قصص دخيلة على شريعة محمّد صلى الله عليه وسلم، كما دخلت على من سبقه من
الأنبياء في شرائعهم، وحسبنا في ردّ ذلك وتفنيده كلام الله سبحانه وتعالى الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو السَّميع العليم.
د. محمد عناد
سليمان
10 / 4 / 2014م
شكرا لمجهودك وتوضيح وتبيان الكثير بارك الله في عملك
ردحذف