الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2018-04-08

وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في توجيهات الإسلام [باختصار، من مجلة الوعي الإسلامي (العدد 426 – صفر/1422هـ)، بقلم: اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ]


يقرر علماء النفس أن مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ينطوي على عامل معنوي له وزن كبير في مجال الإدارة والقيادة، وهو أن "التوافق" بين الفرد والعمل، يحفظ له "صحته النفسية"، لأنه بذلك يتوافر له المناخ والفرصة لتحقيق ذاته في ميدان العمل، وتكيّفه وتوافقه مع البيئة التي تحيط به، ويجعل سلوكه على النحو الذي يتفق مع فكرته عن نفسه، ويشعره بالسعادة والرضا عن نفسه وعن غيره من الناس.
أما إذا أهمل هذا المبدأ، وكُلّف الفرد بعمل لا يتناسب مع قدراته وميوله، فإن الأضرار التي تنتج من ذلك تلحق بالفرد كما تلحق بالعمل نفسه. فالفرد، قد يتعرض للاضطرابات النفسية والصحية أيضاً، وربما لا يتحمل أعباء العمل البدنية والعقلية، ويحتاج إلى وقت للتدريب أطول مما يحتاجه غيره ممن تتفق قدراته مع العمل، وفي هذه الحال يهبط مُعدّل إنتاجه وأدائه مما يضر بمصلحة العمل.

والحق أن الإسلام وضع القواعد المحكمة التي تضمن سلامة اختيار الأفراد للأعمال التي يكلفون بها، والتي تعد أكمل مرشد إلى تطبيق هذا المبدأ.
أولاً: اختلاف قدرات الأفراد.
اقتضت حكمة الله أن يكون الناس مختلفين في الاستعدادات والقدرات، وهو ما يسميه علماء النفس بالفروق الفردية، حتى التوائم التي تولد من مشيمة واحدة لا تتشابه في جميع النواحي.
ومن ناحية أخرى، فإن حركة الحياة تنطوي على أشكال متنوعة من العمل، لكل شكل منها "طابعه الخاص" الذي يتطلب فيمن يقوم به قدرات واستعدادات تتناسب معه فيكون من مستلزمات النجاح في إنجاز الأعمال أن يتم التوافق بين العمل والعامل.
ثانياً: قاعدة التكليف بالوسع.
الإسلام لا يكلف الإنسان بما لا يطيق، وذلك بعض ما يشير إليه قول الله تعالى: (لا يُكلّفُ اللهُ نفساً إلا وسعها). {سورة البقرة: 286}. ففي ذلك توجيه إلى مراعاة قدرات الفرد واستعداداته عند اختياره للعمل، وبذلك تصبح عملية الاختيار "أمانة" في عنق المسؤول.
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ [أي توليني عملاً عاماً]. قال: فضرب على منكبي ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا مَن أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها". رواه أحمد.
وعنه أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة. قيل: يا رسول الله، وما إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة". رواه البخاري.
وقد بلغ من اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بمبدأ سلامة الاختيار وأمانته أنه عدَّ مخالفته غشاً لله ورسوله وللمسلمين فقال: "أيما رجل استعمل رجلاً على عشَرة أنفس، عَلِمَ أن في العشرة أفضل ممن استعمل، فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين". رواه أبو يعلى عن حذيفة.
أمثلة لسلامة الاختيار
ونورد فيما يلي بعض الأمثلة التي ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تكشف عن فراسته عليه الصلاة والسلام في اكتشاف مواهب وقدرات أصحابه واستثمارها لتحقيق أهداف الدعوة.
1- في مجال الاستخبارات:
في غزوة الخندق اختار الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان لكي يدخل في معسكر قريش لمعرفة أخبارهم، وهي مهمة من أخطر مهام الاستخبارات، فنجح حذيفة في دخول المعسكر في وقت اشتدت فيه الريح على نحو جعل أبا سفيان يخشى أن ينتهز المسلمون تلك الفرصة للتسلل إلى معسكرهم فقال لأصحابه: "يا معشر قريش، لينظر امرؤ مَن جليسُه". [أي ليتعرف كل امرئ على من يجلس إلى جواره]. وعلى الفور أخذ حذيفة بيد الرجل الذي كان إلى جانبه وقال: مَن أنت؟.
فهذه الواقعة أبلغ دليل على ما كان يتمتع به حذيفة من سرعة البداهة في المواقف الحرجة والمفاجئة بحيث لا ينكشف أمره وهو في صفوف الأعداء. ولو لم يتصرف بمثل تلك السرعة لبادره جليسه بالسؤال: مَن أنت، ولتعرّض لانكشاف أمره.
2- في مجال الشجاعة والفدائية:
في غزوة أُحد أمسك الرسول صلى الله عليه وسلم بسيف وقال: "مَن يأخذ هذا السيف بحقه؟". فقام إليه رجال يريدون أن يأخذوا السيف لكنه أمسكه عنهم وأعطاه لأبي دُجانة؟ وقد أثبتت أحداث المعركة حُسن اختيار الرسول لأبي دجانة، فقد سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم: وما حقه يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أن تضرب به العدو حتى ينحني". ولقد قاتل أبو دجانة بهذا السيف قتالاً شديداً وقام بعمل يدل على الشجاعة والفدائية المنقطعة النظير، إذ أحنى ظهره على الرسول صلى الله عليه وسلم وجعل من ظهره ترساً أو درعاً تحميه، فكانت سهام الأعداء تقع فيه.
3- في مجال الخطابة والبلاغة:
بعد فتح مكة أخذت القبائل العربية تَفِدُ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندما حضر وفد تميم قالوا: يا محمد جئناك نُفاخرك، فأْذَنْ لشاعرنا وخطيبنا، فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام عطارد بن الحاجب فألقى خطبته، فأمر عليه الصلاة والسلام ثابت بن قيس أن يرد عليه، فردّ عليه، ثم قام شاعر بني تميم فألقى قصيدته، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت أن يرد عليه، فردّ عليه.
وكانت الغلبة لخطيب المسلمين وشاعرهم، يدل على ذلك قول الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل [يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم] لخطيبُه أخطبُ من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا. وقد أسلم بنو تميم فأحسن الرسول صلى الله عليه وسلم جوائزهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق