الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2015-04-12

الطفل والتدرج في المسؤولية - بقلم: محمد عادل فارس

بسم الله الرحمن الرحيم
بعض الإجابات تأخذ شكلاً من السطحية ، تؤدي بدورها إلى أشكال من التناقض .
فمن التسطيح الفج أن نقول : إن الطفل لا يفهم ، لأنه لم ينضج بعد ، فلذلك لا ينبغي أن يُسأل عن تصرفاته !
فأول الإشكالات على هذا الكلام هو الاتفاق على تعريف الطفل : فهل المقصود بهذا الكلام الطفل الرضيع ؟ أم الطفل الذي بلغ السادسة من عمره ، أو العاشرة أو السابعة عشرة ؟!!
وهل المقصود المسؤولية القانونية الكاملة أم يمكن تجزئة المسؤولية وجعلها متدرجة ؟!
إن تجارب علماء النفس ، بل تجارب عامة الناس ، تثبت أن الطفل منذ شهور عمره الأولى ، بل منذ أيامه الأولى ، يملك درجة من الفهم والوعي ، وهذه الدرجة تنمو وترتقي ، وقد تمر بتعثرات وانتكاسات أو انتعاشات و طفرات ، طوال عمره .

فمما لا جدال فيه أن ابن العاشرة يفهم أشياء كثيرة ، سواء على مستوى التعامل مع أفراد أسرته ، أو على مستوى التعلم المدرسي ، أو على مستوى القيام بأنشطة رياضية واجتماعية ... وأن ابن العشرين  - مثلاً – يكون أكثر فهماً ونضجاً ... ويكون أكثر مسؤولية عن سلوكه وتصرفاته ، ففي أي مرحلة يمكن أن نَعُدَّ الإنسان كامل المسؤولية ، أي أنه قد بلغ درجة من النضج العقلي والنفسي تجعله قادراً على تحمل المسؤولية عن تصرفاته بشكل تام .
وهذا الأمر لا يمكن أن يترك لتقدير الفرد نفسه ، أو تقدير ذويه ومعارفه ، لأن القضية إذا تُركت من غير ضبط أدّتْ إلى اضطراب كبير ، فحين يكون تحمُّل المسؤولية مقترناً بالمزايا فسوف يزعم لنفسه ، أو يزعم له ذووه ، أنه ناضج مكتمل الشخصية ، وهو أهل لإسناد المسؤولية إليه ... وحين يكون تحمُّلها مقترناً بعقوبة على مخالفة صدرت عنه فسوف يقول هؤلاء : إنه صغير ولا يجوز أن تحاسبوه محاسبة الكبار !!
ومعظم الأنظمة الرسمية القائمة اليوم تجعل مرحلة النضج المرتبطة بالمسؤولية القانونية التامة هي سن الثامنة عشرة ، ومع ذلك فقد تجعل استحقاقه لبعض المزايا ( وتحمله لمسؤوليتها ) مرتبطاً بسنّ أعلى ، كأن يكون حصوله على رخصة قيادة السيارة بعد بلوغه الحادية والعشرين ، وأن ترشيحه لمنصب ( في مؤسسة حكومية أو حزبية ) بعد بلوغه الأربعين مثلاً ، وكأن المشرعين رأوا أن سن الثامنة عشرة هي السن القانونية المناسبة لتحمل المسؤولية بشكل عام ، وجعلوا سنّاً أخرى لمسؤوليات خاصة .
أما الإسلام دين الله فقد جعل تلك السن هي سن البلوغ ( أو سن الخامسة عشرة ) . والله تعالى الذي خلق الإنسان هو الأعلم بالسنّ المناسبة لتحمل المسؤولية ] ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير[؟! سورة الملك : 14
ومع ذلك ففي التشريع الإسلامي اشتراطات أخرى ، غير السنّ ، لاستحقاق بعض المزايا المرتبطة بالمسؤولية . وأقرب مثال على ذلك حق اليتيم في التصرف بالأموال التي تركها له أبوه ، إذ لا يكفي هنا الوصول إلى سن البلوغ ، بل يجب كذلك تحقق الرشد المالي . قال تعالى :   ]وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رُشْداً فادفعوا إليهم أموالهم [ النساء الآية 6 .
وقد سجل التاريخ الإسلامي في عصر النبي e وفي عصور تالية ، أن أفراداً متميزين قادوا معارك وانتصروا فيها وهم دون الثامنة عشرة ، ويكفي أن نذكر الصحابي زيد بن حارثة t ، ونذكر القاسم بن محمد الثقفي فاتح بلاد السند .



ويمكن أن نسجل هنا بعض النقاط التي تُعَدُّ معالم في تربية الطفل ، وتدرجه في تحمل المسؤولية :
وجّهَنا الإسلام إلى العناية بتربية الطفل في مثل قوله تعالى : ] يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة [ التحريم الآية 6 . وفي مثل قول النبي e ، : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، و ينصرانه ، و يمجسانه " رواه الإمام مسلم وغيره  . وفي مثل قوله e : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر . وفرّقوا بينهم في المضاجع " رواه أبو داوود والترمذي  - وقال حديث حسن - والحاكم .
بل إن من سنّة النبي e أن يُؤَذَّنَ في أُذُن المولود في الساعات الأولى من حياته . ونحن – إذا كنا لا ندري ما الذي يدركه الطفل من هذا الأذان – لا أقلّ من أن ندرك أنها إشارة لنا – نحن الكبار – أن لا نُهمل تربية الصغير بحجة أنه صغير لا يفهم !! بل نبدأ بتربيته منذ أيام حياته الأولى .
من مظاهر فهم الطفل منذ الشهور الأولى من عمره – أنه يفهم الابتسامة ، ويميز أمّه وأباه ومعارفه ، وينجذب إلى بعضهم أكثر من انجذابه إلى الآخرين ... ويعلم أن بكاءه وصياحه يجلب له اهتمام ذويه ...
والإسلام الذي شرع البلوغ سنّاً للتكليف ، وجّه إلى أمر الطفل بالصلاة وهو ابن سبع سنين ، بل أمر بضربه عليها وهو ابن عشر ... وفي هذا أن التعويد على الطاعة ، بل الإلزام بها ، يمكن أن يكون قبل البلوغ ، وأن الضرب ليس هو العلاج الأوّل بل بعد فاصل ثلاثة سنين كاملة بعد الأمر ، المصحوب عادة ، بالقدوة الحسنة والترغيب والتحبيب والإقناع ...
الوصول إلى سن البلوغ يعني ، فيما يعني ، التوازن بين الحقوق والواجبات ، ويعني إذاً الشعور بالمسؤولية . فالطفل في السنوات الأولى من عمره يستحق كل عطف ورعاية مادية ومعنوية ... ولا يكاد يطالَب بأي واجب ، لكنه كلما تقدم سنةً نحو البلوغ فقد خطا خطوة باتجاه تحمل المسؤولية والقيام بالواجبات ، فمن واجباته : المشاركة في خدمات المنزل ، ورعاية إخوانه الأصغر منه ، ومراعاة الآداب الاجتماعية ، والجدّ في واجباته المدرسية .
أما بعد البلوغ فقد أصبح مسؤولاً عن الإنفاق على نفسه ، والقيام بحصته من الخدمات المنزلية والواجبات الاجتماعية ... فضلاً عن مطالبته التامة بالقيام بالواجبات الشرعية واجتناب المنهيات .
    وحين يلتزم الأبوان والأهل عامة بتحمل كل ذلك ، أو بعضه ، عن ابنهم البالغ ، فهذا تبرع منهم .
    ومن الانحراف في التفكير والسلوك أن يرى هذا البالغ أن على أهله تقديم الدعم المالي والمعنوي إليه ... مع إعفاء نفسه من مقتضيات البر بالوالدين ، والتعاطف مع الإخوة والأخوات ، والتحلل من المشاركة في الخدمات ...


التوازن بين الدلال والقسوة ، وبين المكافأة والعقوبة ، من الأمور المهمة في تربية الطفل.
الدلال يُشعر الطفل بقيمته ، ويجعله معتزاً بنفسه ... لكن المبالغة في الدلال تؤدي إلى الشعور بالغرور والتعالي على الآخرين والاعتماد عليهم في إنجاز الأمور بدل الاعتماد على النفس  .
    والقسوة في التعامل تحجز الطفل عن الشطط والانحراف ، وتجعله يعتمد على نفسه ويستنفر طاقاته  ... لكن المبالغة في ذلك تجعله يحقد على المجتمع ، ويحسّ بضآلة قيمته في أعين الآخرين ، بل قد تضعف ثقته بقيمته في نظر نفسه .
    والاعتدال بين هذا وذاك هو المطلوب .
    ومن الخطأ في اختلال هذا الاعتدال ، أن يكون بعض الأهل يدلّل ، وبعضهم يقسو ... إن هذا سيؤدي إلى اضطراب صورة الطفل في ذهنه عن مكانته وقيمته ، كما سيؤدي إلى أن يصنِّف أفرادَ المحيط حوله إلى محبوبين ومبغَضين ...
    ويمكن القول بمثل ذلك في مسألة الثواب والعقاب ، فلا بد أن يلقى الطفل تشجيعاً على الخير والإنجاز والتعاون ... وزجراً عن التقصير والخطأ والعدوان ... لكن للثواب والعقاب قواعد ضابطة ، تجعل النتيجة إيجابية في اتجاه تعزيز الصواب وإلغاء الخطأ .
    ومن التوازن المطلوب في تربية الطفل كذلك شعوره بالعدل في المعاملة بينه وبين إخوته،  فلا يحسّ بتميز له ، أو عليه . والطفل في العادة – حسّاس تجاه هذه المسألة .
وضوح معايير الصواب والخطأ ، والمقبول من السلوك والمرفوض . إذ من الخطر في تربية الطفل أن تضطرب المعايير أمامه ، فيعاقَبُ على ارتكاب فعل ، وهو يرى أباه يرتكب مثل هذا الفعل ، أو يُمنع من بعض التصرفات من غير أن يعرف سبب المنع !
وقد يصعب على الأهل في سني العمر الأولى أن يشرحوا للطفل أسباب تدليلهم وإهمالهم ، وأسباب مكافأتهم وعقوبتهم ، وأسبابَ قبول أنواع من السلوك ، ورفض أنواع أخرى ... لكن الحكمة في تطبيق ذلك ، بما يعني العدل والتناسق والتدرج ... ثم الشرح الشفهي المناسب لكل مرحلة عمرية ... وقبل ذلك كله : القدوة الحسنة ... كل ذلك يجعل الأمر مقبولاً وسليماً وفعالاً .
        8. إكساب الطفل عادة القراءة ، ولا نظن أحداً يجادل في أهمية ذلك ، لما فيه من توسيع أفقه وثقافته وتزويده بالمعارف والقيم ، وملء وقته بما يفيد ... لكن الجدل قد يدور حول أنواع ما يقرؤه ، ومناسبة ذلك لعمره ، وكيفية تحبيب القراءة إليه ، وهل يكون ذلك عبر كتب أم مجلات ، أم عبر الحاسوب ... ولا يمكن ههنا توفية الموضوع حقه ، إنما نكتفي بالإشارة إلى القدوة الحسنة في ذلك ، والتدرج في اختيار ما يقرؤه الطفل .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق