بسم الله الرحمن الرحيم
بعض الإجابات تأخذ شكلاً من السطحية ، تؤدي بدورها
إلى أشكال من التناقض .
فمن التسطيح الفج أن نقول : إن الطفل لا يفهم ،
لأنه لم ينضج بعد ، فلذلك لا ينبغي أن يُسأل عن تصرفاته !
فأول الإشكالات على هذا الكلام هو الاتفاق على
تعريف الطفل : فهل المقصود بهذا الكلام الطفل الرضيع ؟ أم الطفل الذي بلغ السادسة
من عمره ، أو العاشرة أو السابعة عشرة ؟!!
وهل المقصود المسؤولية القانونية الكاملة أم يمكن
تجزئة المسؤولية وجعلها متدرجة ؟!
إن تجارب علماء النفس ، بل تجارب عامة الناس ، تثبت
أن الطفل منذ شهور عمره الأولى ، بل منذ أيامه الأولى ، يملك درجة من الفهم والوعي
، وهذه الدرجة تنمو وترتقي ، وقد تمر بتعثرات وانتكاسات أو انتعاشات و طفرات ،
طوال عمره .
فمما لا جدال فيه أن ابن العاشرة يفهم أشياء كثيرة
، سواء على مستوى التعامل مع أفراد أسرته ، أو على مستوى التعلم المدرسي ، أو على
مستوى القيام بأنشطة رياضية واجتماعية ... وأن ابن العشرين - مثلاً – يكون أكثر فهماً ونضجاً ... ويكون
أكثر مسؤولية عن سلوكه وتصرفاته ، ففي أي مرحلة يمكن أن نَعُدَّ الإنسان كامل
المسؤولية ، أي أنه قد بلغ درجة من النضج العقلي والنفسي تجعله قادراً على تحمل
المسؤولية عن تصرفاته بشكل تام .
وهذا الأمر لا يمكن أن يترك لتقدير الفرد نفسه ، أو
تقدير ذويه ومعارفه ، لأن القضية إذا تُركت من غير ضبط أدّتْ إلى اضطراب كبير ،
فحين يكون تحمُّل المسؤولية مقترناً بالمزايا فسوف يزعم لنفسه ، أو يزعم له ذووه ،
أنه ناضج مكتمل الشخصية ، وهو أهل لإسناد المسؤولية إليه ... وحين يكون تحمُّلها
مقترناً بعقوبة على مخالفة صدرت عنه فسوف يقول هؤلاء : إنه صغير ولا يجوز أن تحاسبوه
محاسبة الكبار !!
ومعظم الأنظمة الرسمية القائمة اليوم تجعل مرحلة النضج
المرتبطة بالمسؤولية القانونية التامة هي سن الثامنة عشرة ، ومع ذلك فقد تجعل
استحقاقه لبعض المزايا ( وتحمله لمسؤوليتها ) مرتبطاً بسنّ أعلى ، كأن يكون حصوله
على رخصة قيادة السيارة بعد بلوغه الحادية والعشرين ، وأن ترشيحه لمنصب ( في مؤسسة
حكومية أو حزبية ) بعد بلوغه الأربعين مثلاً ، وكأن المشرعين رأوا أن سن الثامنة
عشرة هي السن القانونية المناسبة لتحمل المسؤولية بشكل عام ، وجعلوا سنّاً أخرى
لمسؤوليات خاصة .
أما الإسلام دين الله فقد جعل تلك السن هي سن
البلوغ ( أو سن الخامسة عشرة ) . والله تعالى الذي خلق الإنسان هو الأعلم بالسنّ
المناسبة لتحمل المسؤولية ] ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير[؟!
سورة الملك : 14
ومع ذلك ففي التشريع الإسلامي اشتراطات أخرى ، غير
السنّ ، لاستحقاق بعض المزايا المرتبطة بالمسؤولية . وأقرب مثال على ذلك حق اليتيم
في التصرف بالأموال التي تركها له أبوه ، إذ لا يكفي هنا الوصول إلى سن البلوغ ،
بل يجب كذلك تحقق الرشد المالي . قال تعالى : ]وابتلوا
اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رُشْداً فادفعوا إليهم أموالهم [
النساء الآية 6 .
وقد سجل التاريخ الإسلامي في عصر النبي e
وفي عصور تالية ، أن أفراداً متميزين قادوا معارك وانتصروا فيها وهم دون الثامنة
عشرة ، ويكفي أن نذكر الصحابي زيد بن حارثة t
، ونذكر القاسم بن محمد الثقفي فاتح بلاد السند .
ويمكن أن نسجل هنا بعض النقاط التي تُعَدُّ معالم
في تربية الطفل ، وتدرجه في تحمل المسؤولية :
وجّهَنا الإسلام إلى العناية بتربية الطفل في مثل
قوله تعالى : ] يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة [
التحريم الآية 6 . وفي مثل قول النبي e ، : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة
، فأبواه يهودانه ، و ينصرانه ، و يمجسانه " رواه الإمام مسلم وغيره . وفي مثل قوله e
: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر .
وفرّقوا بينهم في المضاجع " رواه أبو داوود والترمذي - وقال حديث حسن - والحاكم .
بل إن من سنّة النبي e
أن يُؤَذَّنَ في أُذُن المولود في الساعات الأولى من حياته . ونحن – إذا كنا لا
ندري ما الذي يدركه الطفل من هذا الأذان – لا أقلّ من أن ندرك أنها إشارة لنا –
نحن الكبار – أن لا نُهمل تربية الصغير بحجة أنه صغير لا يفهم !! بل نبدأ بتربيته
منذ أيام حياته الأولى .
من مظاهر فهم الطفل منذ الشهور الأولى من عمره –
أنه يفهم الابتسامة ، ويميز أمّه وأباه ومعارفه ، وينجذب إلى بعضهم أكثر من
انجذابه إلى الآخرين ... ويعلم أن بكاءه وصياحه يجلب له اهتمام ذويه ...
والإسلام الذي شرع البلوغ سنّاً للتكليف ، وجّه إلى
أمر الطفل بالصلاة وهو ابن سبع سنين ، بل أمر بضربه عليها وهو ابن عشر ... وفي هذا
أن التعويد على الطاعة ، بل الإلزام بها ، يمكن أن يكون قبل البلوغ ، وأن الضرب
ليس هو العلاج الأوّل بل بعد فاصل ثلاثة سنين كاملة بعد الأمر ، المصحوب عادة ،
بالقدوة الحسنة والترغيب والتحبيب والإقناع ...
الوصول إلى سن البلوغ يعني ، فيما يعني ، التوازن
بين الحقوق والواجبات ، ويعني إذاً الشعور بالمسؤولية . فالطفل في السنوات الأولى
من عمره يستحق كل عطف ورعاية مادية ومعنوية ... ولا يكاد يطالَب بأي واجب ، لكنه
كلما تقدم سنةً نحو البلوغ فقد خطا خطوة باتجاه تحمل المسؤولية والقيام بالواجبات
، فمن واجباته : المشاركة في خدمات المنزل ، ورعاية إخوانه الأصغر منه ، ومراعاة
الآداب الاجتماعية ، والجدّ في واجباته المدرسية .
أما بعد البلوغ فقد أصبح مسؤولاً عن الإنفاق على
نفسه ، والقيام بحصته من الخدمات المنزلية والواجبات الاجتماعية ... فضلاً عن
مطالبته التامة بالقيام بالواجبات الشرعية واجتناب المنهيات .
وحين يلتزم الأبوان والأهل عامة بتحمل كل ذلك ، أو بعضه ، عن ابنهم البالغ
، فهذا تبرع منهم .
ومن
الانحراف في التفكير والسلوك أن يرى هذا البالغ أن على أهله تقديم الدعم المالي
والمعنوي إليه ... مع إعفاء نفسه من مقتضيات البر بالوالدين ، والتعاطف مع الإخوة
والأخوات ، والتحلل من المشاركة في الخدمات ...
التوازن بين الدلال والقسوة ، وبين المكافأة
والعقوبة ، من الأمور المهمة في تربية الطفل.
الدلال يُشعر الطفل بقيمته ، ويجعله معتزاً بنفسه
... لكن المبالغة في الدلال تؤدي إلى الشعور بالغرور والتعالي على الآخرين
والاعتماد عليهم في إنجاز الأمور بدل الاعتماد على النفس .
والقسوة
في التعامل تحجز الطفل عن الشطط والانحراف ، وتجعله يعتمد على نفسه ويستنفر
طاقاته ... لكن المبالغة في ذلك تجعله
يحقد على المجتمع ، ويحسّ بضآلة قيمته في أعين الآخرين ، بل قد تضعف ثقته بقيمته
في نظر نفسه .
والاعتدال
بين هذا وذاك هو المطلوب .
ومن
الخطأ في اختلال هذا الاعتدال ، أن يكون بعض الأهل يدلّل ، وبعضهم يقسو ... إن هذا
سيؤدي إلى اضطراب صورة الطفل في ذهنه عن مكانته وقيمته ، كما سيؤدي إلى أن يصنِّف
أفرادَ المحيط حوله إلى محبوبين ومبغَضين ...
ويمكن
القول بمثل ذلك في مسألة الثواب والعقاب ، فلا بد أن يلقى الطفل تشجيعاً على الخير
والإنجاز والتعاون ... وزجراً عن التقصير والخطأ والعدوان ... لكن للثواب والعقاب
قواعد ضابطة ، تجعل النتيجة إيجابية في اتجاه تعزيز الصواب وإلغاء الخطأ .
ومن
التوازن المطلوب في تربية الطفل كذلك شعوره بالعدل في المعاملة بينه وبين
إخوته، فلا يحسّ بتميز له ، أو عليه .
والطفل في العادة – حسّاس تجاه هذه المسألة .
وضوح معايير الصواب والخطأ ، والمقبول من السلوك
والمرفوض . إذ من الخطر في تربية الطفل أن تضطرب المعايير أمامه ، فيعاقَبُ على
ارتكاب فعل ، وهو يرى أباه يرتكب مثل هذا الفعل ، أو يُمنع من بعض التصرفات من غير
أن يعرف سبب المنع !
وقد يصعب على الأهل في سني العمر الأولى أن يشرحوا
للطفل أسباب تدليلهم وإهمالهم ، وأسباب مكافأتهم وعقوبتهم ، وأسبابَ قبول أنواع من
السلوك ، ورفض أنواع أخرى ... لكن الحكمة في تطبيق ذلك ، بما يعني العدل والتناسق
والتدرج ... ثم الشرح الشفهي المناسب لكل مرحلة عمرية ... وقبل ذلك كله : القدوة
الحسنة ... كل ذلك يجعل الأمر مقبولاً وسليماً وفعالاً .
8.
إكساب الطفل عادة القراءة ، ولا نظن أحداً يجادل في أهمية ذلك ، لما فيه من توسيع
أفقه وثقافته وتزويده بالمعارف والقيم ، وملء وقته بما يفيد ... لكن الجدل قد يدور
حول أنواع ما يقرؤه ، ومناسبة ذلك لعمره ، وكيفية تحبيب القراءة إليه ، وهل يكون
ذلك عبر كتب أم مجلات ، أم عبر الحاسوب ... ولا يمكن ههنا توفية الموضوع حقه ،
إنما نكتفي بالإشارة إلى القدوة الحسنة في ذلك ، والتدرج في اختيار ما يقرؤه الطفل
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق