لقد جاءت
التوجيهات الربانية، والتوجيهات النبوية لتجْتثّ أسباب الخلاف ابتداءً، ولتعالجه
لو وقع بعد ذلك، قال ربنا سبحانه: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن). {سورة
الإسراء: 53}. فاختيار القول الأحسن والكلمة الحسنى يحول دون نزغ الشيطان، بخلاف
الكلمة الخشنة!.
ونهى نبينا
صلى الله عليه وسلم عن أسباب الخصومة كلها كالسباب وفحش القول والغيبة والنميمة
والخداع، والبيع على بيع أخيه، والخطبة على خطبته، وسوء الظن به...
وهذه التربية
الإيمانية ترقى بالمسلم إلى آفاق عالية، حتى يرى أن مخالفة هذه التوجيهات تسيء
إليه كما تسيء إلى أخيه الذي خالفه، بل هي إساءة – من بعيد- إلى شعور النبي صلى
الله عليه وسلم يوم القيامة وهو يلقى بعض أبناء أمته قد أُثقلوا بالذنوب، ولم
تَسَعهم سماحة إخوانهم. وإلى هذا المعنى اللطيف يشير بعض أهل الفضل حين يقول:
من نــال منّي
أو عَـلِــقتُ بذمّته ســامـــــحــتُه لله، راجــيَ مِنّته
كي لا أعوّق
مسلماً يوم الجزا ءِ، ولا أسيءَ
محمداً في أمته
وإذا كان
المسلمون جميعاً مخاطَبين بهذه التوجيهات، فإن الدعاة إلى الله هم مِلح الأرض،
ومنارة الأمة، فأولى بهم أن يتخلّقوا بأخلاق الإسلام العالية، فيحملوا في صدورهم
قلوباً نقية، وبين جوانحهم نفوساً صافية.
ويمكن أن نضرب
مثلاً باثنين من دعاة الإسلام، وفي ظروف السجن القاسية، حيث تضيق الصدور، وتتأزّم
النفوس.
أما المثال
الأول فمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد تعرّض لإيذاءٍ من بعض مخالفيه،
فأرسل رسالة إلى محبّيه يعلمهم كيف ينبغي أن يعاملوا هؤلاء المخالفين. يقول رحمه
الله:
( ... تعلمون –
رضي الله عنكم- أني لا أحب أن يُؤذى أحد من عموم المسلمين، فضلاً عن أصحابنا، بشيء
أصلاً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا عندي عتبٌ على أحد منهم ولا لوم أصلاً، بل لهم
عندي من الكرامة والإجلال، والمحبة والتعظيم كلّ بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن
يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً: فالأول مأجور مشكور، والثاني – مع
أجره على الاجتهاد- معفو عنه، والثالث، فالله يغفر له ولسائر المؤمنين.
لا أحب أن
يُقتصّ من أحد بسبب كذبه عليّ، أو ظلمه، أو عدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا
أحب الخير لكل المسلمين).
وأما المثال
الثاني فمن أحد العلماء الدعاة المعاصرين، وهو الشيخ محمد خير زيتوني رحمه الله،
فقد حلّ في سجن القلعة، وهو السجن ذاته الذي حل فيه من قبلُ ابن تيمية، وتعرّض
مرات لأذى من بعض زملاء السجن، لاختلاف في الأذواق والمشارب، فكان يصفح ويسامح، بل
كان فوق ذلك يقابل كل أذىً بإحسان وإكرام عجيبين، فإذا سنحت له فرصة لإكرام مادي
أو معنوي، كان يبدأ بهؤلاء الذين تعرضوا له بالأذى... ومرة بعد مرة، ظهرت بركةُ
قول الله تعالى فيهم وفيه: (ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه
ولي حميم. وما يلقّاها إلا الذين صبروا، وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم). {سورة فصلت:
34، 35}.
بقي أن نقول
من وحي موقف هذين العالمين وأمثالهما: إن الكبار العظام لا يحملون الحقد ولا
يعرفون طريقه. وقديماً قال عنترة بن شداد:
لا يحمل
الحقدَ من تعلو به الرتَبُ ولا ينال
العُلا مَنْ طبعُه الغضبُ
ما أجمل أن
يفيض قلب المؤمن بالحب لإخوانه، فيحسن لهم ولا يسيء، وإذا صدرت من أحدهم إساءة
فالعفو والصفح والمغفرة والإحسان، حتى لا يتعكر صفو المودة الخالصة، فيكون
المؤمنون – في هذه الدنيا- متشبهين بأهل الجنة: (ونزعنا ما في صدورهم من غلّ
إخواناً على سُررٍ متقابلين). {سورة الحجر: 47}.
وكلامنا هذا
كله في علاقة المسلم بأخيه، وأما علاقته بالطغاة المعتدين المتجاوزين لحدود الله،
المحاربين لدينه، فإنّ دفعهم بالتي هي أحسن يكون بمواجهتهم بالكلمة مرة، والموعظة
الحسنة مرة، والسيف مرة. فالقرآن الكريم الذي ندب إلى مسامحة الأخ لأخيه، والذّلة
له... هو الذي دعا المسلم أن يكون عزيزاً وأن ينتصرَ ممن بغي عليه. نقرأ هذا في
قوله تعالى: (أذلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين). {سورة المائدة: 54}.
وقوله تعالى: (أشدّاء على الكفار رحماء بينهم). {سورة الفتح: 29}. وقوله تعالى: (والذين
إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). {سورة الشورى: 39}.
اللهم ارزقنا
الحكمة والخُلق الحسن حتى ندفع بالتي هي أحسن، وندرأ بالحسنة السيئة.
* * *
وإليك أخي
المسلم بعض المعايير التي تكتشف بها مدى اعتصامك بحبل الله، وأهليّتك لتكون عضواً
في الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.
- هل أنت
معتصم بحبل الله في سلوكك الخاص، حريص على التزام أحكام هذا الدين في شأنك كله؟
- هل تحس تجاه
العاملين للإسلام بالحب والأخوّة ولو اختلفت اجتهاداتهم مع اجتهاداتك؟
- هل تغلّب
مشاعر الصفح والتسامح تجاه أخطاء إخوانك؟
- هل أنت شديد
على الكفار، رحيم بالمؤمنين؟
- هل تشتد في
محاسبة نفسك أكثر من اشتدادك في محاسبة الآخرين، أم أنك ممن يرى القذاة في عين
أخيه، ولا يرى الخشبة في عين نفسه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق