الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2017-01-16

قصة قصيرة : المنشار - بقلم: د. أحمد محمد كنعان

أخذ العميد "سهيل" مكانه في صدر الاجتماع وتحلّق ضباط مركز الأمن حول طاولة الاجتماع ينظرون إليه في قلق منتظرين إعلان بدء الاجتماع الطارئ الذي دعا إليه وحذر من الغياب،لأنه ينوي فيه الإعلان عن قرارات مهمة تتعلق بالتعامل مع المتظاهرين الذين بدؤوا منذ آذار ٢٠١١ يخرجون في العاصمة دمشق وفي بقية المدن ينادون بإسقاط نظام "بشار الأسد" !!
سحب "المعلم" سحبة طويلة من سيكارته ونفث دخانها دوائر كالزوبعة صعدت إلى سقف القاعة، ثم دفن بقايا  سيكارته في المنفضة بحركة عصبية أراد بها إضفاء جو مبالغ به من الجدية على الاجتماع، لكنه ظل صامتاً يتفقد وجوه ضباطه، ثم توقفت نظراته عند أحدهم وطلب منه إحضار قائمة أسماء المعتقلين اليوم من المتظاهرين، فقام إليه الضابط مسرعاً، وقف على بعدخطوة منه وضرب الأرض ضربة ترددت أصداؤها في أرجاء القاعة وحياه تحية عسكرية تليق بجدية الاجتماع، ووضع القائمة بين يديه، وتراجع خطوة وعاد يحييه بضربة على الأرض أشد من الأولى، ورجع إلى مقعده !!

فتح المعلم القائمة وراح يراجع الأسماء ماراً على الورقة بسبابته، وفجأة توقف عند أحد الأسماء  وقال يحدث مساعديه عن يمين وشمال :
  • انظروا إلى هذا المخبول "الدكتور صالح النجار" !!؟
سأله مساعده الأيمن :
  • خير .. سيدي !! هل تعرفه ؟!
أجاب وهو يرسم على شفتيه ابتسامة استنكار ساخرة :
  • طبعاً .. طبعاً للأسف .. كان أبرز طالب في ثانوية عبد الرحمن الكواكبي في الميدان التي كنت أدربهم فيها تدريباً عسكرياً في برنامج الفتوة ( أخرج سيكارة جديدة وضعها في فمهدون أن يشعلها وأضاف ) هل تصدقون أن هذا الحيوان كان الأول في صفه !!؟
لاحت الدهشة على الجميع فعاد العميد يكمل :
  • لكن .. هذا الحيوان بالرغم من ذكائه وتفوقه فقد كنت أتنبأ له بمستقبل أسود ( تنهد العميد بامتعاض وأضاف) وها قد حان المستقبل الذي تنبأت به والذي سيضع نهايته !!
تبادل الضباط نظرات الاستغراب فنظر العميد إليهم وانفجر بالضحك قبل أن يعود فيقول :
  • لقد تنبأت له بهذا المستقبل الأسود لكثرة ما رأيت من حرصه على حضور دروس الدين في "جامع باب المصلى" القريب من منزله ومنزلنا، فقد تورط المجدوب مع الإسلاميينوانخرط مع الإرهابيين الذين خرجوا ينادون بإسقاط النظام، وبهذا حفر قبره بنفسه ، ولم ينفعه علمه ولا ذكاؤه ولا تفوقه .. غبي .. جحش !!
قال ذلك وانفجر ضاحكاً، وعاد يتفقد بقية الأسماء، ولم يلبث أن ضرب بكفه على الطاولة وهو يحدق في القائمة، وضحك ساخراً وقال يخاطب ضباطه :
  • عظيم .. عظيم !! عندنا اليوم صيد ثمين (ونظر إلى ضباطه نظرة فخر وأضاف) برافو يا شباب .. برافو .. لا تتركوا واحداً من هؤلاء الحمير.. جيبوهم .. جيبوهم كلهم لكي ننظفالبلد منهم ( توقف وسحب نفساً طويلاً من سيكارته ونفخ الدخان في تبرّم وأضاف ) شو القصة ؟! صرنا فرجة في العالم من كثرة الحمير بيننا !!
تفشت في الضباط ضحكات ساخرة تجاوباً مع وصف المعلم، بينما تنهد هو بعمق واسترخى في كرسيه وقال باستغراب :
  • لم تسألوني عن الحمار التاني !!؟ 
قال الجميع بصوت واحد  :
  • تفضل سيدي .. تفضل !!
عدل جلسته وشفط آخر نفس من سيكارته ونظر إليهم نظرة جادة مبالغاً فيها وقال :
  • هدا الحمار التاني هو "نبيل الخوري" طالب مسيحي كان في نفس الثانوية  في صف الحمار الأول وكان ينافسه على المركز الأول .. لكن بالرغم من التنافس كانت بينهما صداقةعميقة كأنهما أخوان .. لهذا لا أستغرب أن يخرج هدا الحمار المسيحي في المظاهرات التي ترفع شعارات إسلامية بسبب علاقته مع الحمار الأول !!؟ 
قال ذلك، ودفن سيكارته في المنفضة، وصرخ في نزق :
  • يا ويلهم مني !!! سأجعل من هذين الحمارين عبرة لمن يعتبر .. حضروا لي عدة الشغل وقوموا معي  لتشاهدوا أحلى فيلم يمكن أن تشاهدوه في حياتكم ..
قام الجميع يتبعون المعلم إلى قاعة التعذيب، وأمر أحد مساعديه بإحضار الجحشين كما وصفهم، وطلب من مساعد آخر تجهيز المنشار الكهربائي !!!
في قاعة التعذيب ..
أحضر الحراس المعتقلين مكبلين بالسلاسل في الأيدي والأقدام، فنظر إليهما العميد نظرة استخفاف، بينما بدت على الدكتور صالح ابتسامة وديعة وتهلل وجهه واستبشر  عندما رأى العميد الذي ربطته به صداقة طيبة أيام الفتوة في ثانوية الكواكبي، ومد يده ليصافح العميد لكن العميد ابتعد عنه في نفور، ووضع يده على المسدس في حركة تهديد وصرخ في وجهه :
  • ابتعد .. لا تلمسني يا كلب !! لا أصافح الخونة !!!؟
رد الدكتور في إشفاق :
أنا !!؟ يا أستاذ سهيل !!؟ أنا صالح النجار !! هل نسيتني ؟!
هز العميد رأسه وقال مع نظرة احتقار :
  • بلى .. تذكرتك .. طبعاً ! لكني لم أتوقع خيانتك لبلدك !!؟
رد الدكتور باستغراب شديد :
  • أنا يا أستاذ سهيل ؟!! أنا أخون بلدي !!؟ مستحيل !! وأنت أكثر من يعرف هذا ! هل نسيت كيف جئتك أيام حرب ٧٦ وطلبت منك تجهيز طلاب الثانوية  لنذهب كلنا ونشارك في الدفاع عن القنيطرة عندما هدد الصهاينة باحتلالها !! هل نسيت ؟!!
تأفف العميد في ضجر وأجاب :
  • دعك من هذه الحركات الآن !! ولا تزاود علينا ببيع الوطنيات .. هدا لن ينفعك بعد  أن ضبطوك في مظاهرة تنادي بإسقاط النظام ( سدد العميد سبابته إلى وجه الدكتور وقال متهماً )والآن خبرني لماذا خرجت في المظاهرة تريد إسقاط النظام ؟!
  • أنا ؟!! لا  يا أستاذ سهيل !! لست أنا وحدي الذي أريد إسقاط النظام .. الشعب كله يريد إسقاط هذا النظام المجرم !! 
زعق فيه العميد :
  • نظام مجرم ؟!! وتجرؤ على قولها قدامي يا ابن الكلب  ؟!!
وعاجله بصفعة حادة تردد صداها في القاعة، وكادت توقع الدكتور أرضاً بسبب السلاسل التي  تكبل رجليه،  لكنه تمالك نفسه، واستعاد توازنه، وأراد أن يرد الصفعة لكنه وجد نفسه مكبلاًومحاصراً ببنادق الحراس، فاكتفى بأن بصق في وجه العميد الذي فقد صوابه عندما وجد نفسه هزأة  أمام ضباطه، فصرخ فيهم آمراً :
  • هاتوا الخناجر .. هاتوا الخناجر !!
فجاءه الحراس بمجموعة من الخناجر أخذ منها خنجرين رماهما تحت أقدام الدكتور وصاحبه وصرخ فيهما :
  • الآن سوف نرى من منكما الرجل .. سوف تتقاتلان حتى الموت ومن سيبقى على قيد الحياة سوف أقطعه قطعاً بالمنشار الكهربائي !!
تبادل الدكتور وصاحبه نظرات واجفة وتنهدا بألم ، فيما تراجع العميد إلى ركن القاعة وأشار للحراس بأخذ أهبة الاستعداد للتدخل فيما لو حاول المعتقلان الخروج عن الأوامر، وأمربإحضار المنشار فلما وضعوه بين يديه على الطاولة ضحك ضحكة ظفر ورفعه في الهواء وضغط زر التشغيل  
فانطلق الصوت الخشن ناشراً في المكان موجة من الرعب والرهبة علتوجوه الجميع بما فيها وجوه  الضباط تحسباً للمجزرة المحتملة، ولم يكتف العميد بما أحدثته حركته فنادى بإحضار أحد المعتقلين الموقوفين في ركن القاعة وأمر بإلقائه أرضاً، فلما استلقىالمسكين عاجله العميد فوضع المنشار على ساقه وقطعها على الفور، فصرخ المسكين صرخة هائلة ترددت أصداؤها في الكون كله وخمد  المسكين بلا حراك، فيما بدأ الدم ينفر من ساقهالمقطوعة، فصرخ العميد في الحراس :
  • خدوا هالكلب من قدامي .. على الزبالة ( وضحك ضحكة هستيرية وأضاف وهو يلوح بالمنشار إلى الأعلى) هذه هي نهاية كل من يخون الزعيم !!
 فسارع حارسان يجران المسكين، فارتسم خط أحمر من الدم النازف المتجه إلى الخارج، مما أوحى للعميد بفكرة بدأ تنفيذها على الفور فانحنى والتقط القدم المقطوعة التي كانت تنزف ودارحول الدكتور وصاحبه راسماً بالدم دائرة حمراء حولهما، وصرخ فيهما محذراً :
إياكم تجاوز هذه الدائرة، عليكما أن تتصارعا داخلها، والذي يخرج منها سوف أقطّعه بالمنشار .. مفهوم ؟!
وأخرج سيكارة جديدة أشعلها وأخذ يدخنها ببرود متعمد، وصرخ في الدكتور وصاحبه :
  • الآن عليكما أن تتصارعا بالخناجر حتى الموت، ومن يبقى منكما حياً سوف أنشره بالمنشار كما فعلتُ بذلك الكلب ( وأشار إلى الخارج حيث سحبوا الذي قطع ساقه ، وأضاف في سخرية متعمدة) هيا يا شاطرين .. أرونا كيف تتنافسان الآن كما كنتم تفعلون في المدرسة !!
قاطعه الدكتور في حسم :
  • يا أستاذ سهيل في المدرسة كنا نتنافس على العلم ، أما الآن فأنت تريدنا أن نتنافس على القتل !؟
فتدخل نبيل وقال موجهاً كلامه للعميد :
  • وهذا لن يكون أبداً !!
فزعق العميد في وجهه قائلاً :
  • اخرس .. وسدّ حلقك ! بل هذا ما سيحدث .. الآن .. وإن لم تفعلا فسوف أنشركما بالمنشار قطعة قطعة .. فاختاروا !!!
وعاد فاسترخى في كرسيه وراح يرمق الصديقين عن بعد في تشفي منتظراً بدء القتال  !!
تبادل الصديقان نظرات دامعة صامتة، ثم مال الدكتور إلى صاحبه وهمس بصوت بدأ يتهدّج :
  • أخي نبيل .. واضح أن هذا المجنون مصمم على تقطيع واحد منا بالمنشار .. ولا أحتمل أن تتعرض لذلك .. لهذا أرجوك لا تقاومني ودعني أنا للمنشار ؟!! 
رد نبيل وقد سالت الدموع على خديه :
  • لا والله .. لن أدعك تتعرض للمنشار ، وأرجوك أنت لا تقاومني ودعني للمنشار وسامحني إذا قتلتك !!
ألقى العميد سيكارته على الأرض بحركة عصبية، وصرخ فيهما بغضب :
  • وبعدين !!؟ اخرسا .. وابدآ .. وإلا  جئتكما بالمنشار !!
ووقف ملوحاً بالمنشار وأطلق صوته الخشن الذي راح يجلجل في المكان ناشراً موجة من الرعب والرهبة، فسارع كل من الصديقين يلتقط خنجره، ووقفا برهة يتبادلان النظرات، والتفتا دفعة واحدة نحو العميد وألقيا بالخنجرين نحوه، فارتطم أحدهما بصدره وسقط على الأرض، فلما رأى الخنجر يرتطم به، ارتبك وهاج وماج وتراجع إلى الوراء فزلت قدمه وسقط المنشار من يده محدثاً جلبة مدوية بسبب شفرته التي راحت تفرم البلاط للحظة، ثم خرس تماماً !!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق