إنه صحابي جليل، ومثل رائع من أمثلة اقتران العلم بالجهاد.
كان عقبة بن عامر بن عبس الجهني يرعى الغنم في محيط يثرب، لكنه ما كاد يسمع
نبأ قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة التي تنوّرت به، حتى ترك غنمه
وسارع إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعته على الإسلام والجهاد. وقد
استحوذ حب الرسول صلى الله عليه وسلم على فؤاده فصار رفيقه في حِلّه وترحاله، يقود
ناقته، ويقيم في مسجده، وصار من أهل الصفّة، وهي موضعٌ مظلل في المسجد النبوي كان
يأوي إليه فقراء المهاجرين، وراح ينهل من ينابيع النبوة حتى صار من علماء الصحابة
وقرائهم وفقهائهم، ورُوي له في كتب الحديث (في مُسنَد بقيّ بن مخلد) خمسة وخمسون
حديثاً، وكان كذلك أديباً شاعراً فصيح اللسان، وقائداً من قادة الجهاد.
وكان عالماً بالفرائض، وهي أحكام المواريث.
قال له الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً: يا عقبة، ألا أعلّمك آيات لم يُرَ
مثلهن قطّ؟ فقال: بلى يا رسول الله. فأقرأه سورتي الفلق والناس، فكان عقبة حريصاً
على قراءتهما طوال حياته.
وكان – رضي الله عنه- أحسن الناس صوتاً في ترتيل القرآن، فإذا جنّ عليه
الليل وهدأ الكون ينصرف إلى تلاوة كتاب الله فتصغي إليه أفئدة الصحابة الكرام
وتفيض له عيونهم خشوعاً.
دعاه مرةً عمر الفاروق وقال له: اعرِضْ عليّ شيئاً من كتاب الله يا عقبة.
فجعل يقرأ، وعمر يبكي حتى اخضلّت لحيته بالدموع.
لقد أحب عقبة القرآن، ووهب حياته لخدمته واتّباعه، وكتب نسخة منه بخط يده.
ولما رأى القرآن يدعوه إلى هدم الباطل وإقامة صرح الإسلام، وإنقاذ العباد
من عبادة العباد، وإخراجهم من الظلمات إلى النور... انطلق مجاهداً في سبيل الله
فحضر غزوة أحد وما بعدها مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شهد فتح دمشق، وكان هو
الذي انطلق بعدها إلى المدينة بتكليف أمير الجيش أبي عبيدة بن الجراح ليبشّر أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب بفتحها.
وكان أحد قادة الجيوش التي فتحت مصر فكافأه معاوية على حُسن بلائه في هذه
المعركة فجعله عام 44 هــ والياً على مصر، بعد وفاة أخيه عتبة بن أبي سفيان، فبقي
عليها مدة سنتين وثلاثة أشهر حتى وجّهه إلى فتح جزيرة رودس في البحر المتوسط.
وهكذا كانت حياته حلقات متصلة على طريق العلم والدعوة والجهاد، واهتمّ
بأحاديث الجهاد فكأنه اختص بروايتها، لما رأى الجهاد من أهم أبواب الإسلام. وبرع
بالرماية وشغل نفسه بها.
ولما حضرته الوفاة سنة 58هــ، وكان ذلك في آخر خلافة معاوية، دفن في جبّانة
في سفح جبل المقطّم الذي يطل على مدينة القاهرة من جهة الجنوب.
ولعلّك تسأل: كم كانت ثروة هذا القائد الغازي الوالي، التي خلّفها عند
وفاته؟ لقد كانت بضعاً وسبعين قوساً مع نبالها، أوصى أن تجعل في سبيل الله تعالى.
هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. هل نُلام إذا أحببناهم كل الحب؟!
رضي الله عنهم جميعاً، وصلى الله وسلّم على سيدنا وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق