هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية
لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص
التي عايشتها مع أحد أصدقائي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.
كما ذكرت في القصة السابقة، فبعد تخرجي في
مطلع الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية، وقبل سفري إلى أمريكا، عملت لفترة
وجيزة في مؤسسة انشائية عسكرية بصفة مهندس متدرب. كنت أقف في حارتنا مع بعض شباب
الجيران نتبادل الأحاديث والنكات على ضوء البلدية في إحدى أمسيات الصيف الحارة في
دمشق حين سمعت صوت أخي من شرفة بيتنا يعلمني أن أحد أصدقائي على الهاتف، فاعتذرت
من الشباب وأسرعت إلى المنزل. كان على الطرف الآخر من الخط صوت صديق من مهندسي
المؤسسة والذي بادرني بدون مقدمات ولامجاملات قائلاً أنه بحاجة لمساعدتي الفورية،
في حين وصل إلى سمعي أيضاً صوت آخر كان يحث صديقي على الاختصار بالحديث وعدم إضاعة
الوقت بالتفاصيل، واستطعت أن أميز من لهجة ذلك الصوت أن صاحبه من (الطائفة
الكريمة).
بادرت وسألت صديقي عن المساعدة التي يحتاجها، فسألني إن كان معي مبلغ
ألفي ليرة سورية يستدينها مني هذا المساء على أن يردها لي في الغد؟ كانت صداقتنا
من أيام الدراسة وكذلك وجودنا في نفس مكان العمل تسمح لي أن أثق به، فلما أبديت
استعدادي لذلك، قال بأنه سيأتي إلى بيتنا خلال عشرة دقائق لاستلام المبلغ، ثم أنهى
المكالمة.
من جهتي، توقعت حالة طوارئ صحية أو حادث سير
مما يتطلب توفير هكذا مبلغ كي يتم إدخال مريض أو مصاب إلى المشفى في حالة اسعاف.
حضرت المبلغ المطلوب ووقفت في أسفل البناء بانتظار صديقي الذي وصل خلال دقائق،
ولكن المفاجأة التي لم أتوقعها أنه لم يكن وحده. كان يقود سيارة المؤسسة المازدا
المغلقة ولاحظت سريعاً أن لونه كان أصفراً كلون الأموات، ولم أكن بحاجة لأسأله
لأعرف السبب، فقد كان يجلس بجانبه شاباَ في حضنه رشاش (كلاشين) ويبدو من هيئته أنه
من (الطائفة الكريمة) ومن المخابرات. اقتربت من نافذة السيارة لأسلم على صديقي فشاهدت
خطيبة، والتي كنت أعرفها من خلال زياراتي له، شاهدتها تجلس في المقعد الخلفي
ولونها يسلم على لونه. كان من الواضح أن الوقت لم يكن مناسباً لفهم تفاصيل القصة، بالرغم
من أن خيوطها الرئيسية باتت واضحة، ذلك أن سيارة تويوتا يبدو أنها كانت تتعقب سيارة
صديقي دخلت إلى الحارة وصفت خلفها، ثم خرج منها شابٌ آخر من نفس موديل الشاب إياه ويحمل
بيده رشاشاً مشابهاً. اقترب الأخير من نافذة الجهة التي يجلس فيها مرافق صديقي
وسأله: شو معلم، كلو تمام؟ فأجابه المعلم: قرد، كم مرة قلتلك آبتطلع من السيارة
إلا إذا صرخت عليك؟ روح انقبر بالسيارة قبل مااقبرك! ثم التفت إلينا وقال مازحاً:
لاتواخذونا يامهندزين، هادا بعدو كر ومابيفهم بالأصول. لوضع نهاية سريعة لهذه
الدراما، سلمت صديقي مبلغ الألفي ليرة حيث سلمها بدوره للمعلم الذي وضعها بجيبه
وغادر إلى سيارة الدورية وهو يقول ضاحكاً: تصبحوا على خير واستروا ماشفتو منا. ما
أن غادر (المعلم) مع الدورية، حتى انفجرت خطيبة صديقي ببكاء هيستيري وطلبت منه
إيصالها إلى بيتها فوراً، فاعتذر مني وقال وهو يغادر بسيارته: أراك غداً في
المؤسسة.
ما أن حلت استراحة الغداء في اليوم التالي حتى
أتى صديقي إلى مكتبي وسلمني المبلغ المستدان ثم جلس على إحدى الأرائك واجماً
لايعرف كيف يبدأ القصة. حتى أكسر حاجز الصمت، أغلقت باب المكتب وجلست أمامه
وسألته: أين نصبوا لك الكمين؟ أخذ صديقي نفساً عميقاً وقال: ذهبت أنا وخطيبتي إلى أحد
محلات الفلافل الجديدة في جبل قاسيون، وحين عدنا إلى السيارة وقبل مغادرتنا، اقترب
منا الشاب إياه يحمل سلاحه وقدم نفسه أنه رئيس دورية أمن الدولة المسؤولة على
المنطقة وطلب هوياتنا. قدمت نفسي كمهندس في مؤسسة حكومية بدليل السيارة الحكومية
التي اقودها وأني مع خطيبتي وسألته عن سبب طلبه لهوياتنا، فقال لمجرد (ضرورات
أمنية). أخذ الرجل الهويات وذهب بها إلى سيارة التويوتا التي كانت تبعد حوالي
الثلاثين متراً ثم عاد بعد دقائق وطلب من خطيبتي الجلوس في المقعد الخلفي وجلس
مكانها وقال لنا أنه لايصدق قصة (الخطيبة) وأنه يعتقد أن الفتاة هي (صاحبتي) وأن
ذلك (مناف للأخلاق) وأن من (واجبه) تسليمنا مخفورين لقسم شرطة الأخلاقية.
ثم تابع صديقي قائلاً أنه لم يصدق في
البداية ماسمعه من الرجل وشعر وكأنه في كابوس وليس في الواقع، إلا أن الرجل أعاده
سريعاً إلى الواقع حين استرسل قائلاً أن (أخلاقه) لاتسمح له بفعل ذلك، وأنه على
استعداد لغض النظر هذه المرة عن (فعلتنا الشنيعة) مقابل مبلغ بسيط من المال وقدره
ألفي ليرة، ليس له ولكن لارضاء (ضمير) أفراد الدورية وحملهم على الصمت. كان من
الواضح أن الرجل يقوم مع دوريته بعملية قرصنة ولصوصية مستغلاً وظيفته الأمنية
وسلاحه الذي يفترض أنه لحماية الناس وليس لسرقتهم. ولكن وكأن ذلك لم يكن كافياً،
إلا أن الرجل كان ينوي أيضاً على شئ آخر حيث تابع قائلاً بأنه سيسمح لصديقي
بالذهاب لاحضار المبلغ، وهو من جهته سيحتفظ بالهويات وكذلك بالخطيبة في سيارة
الدورية (كضيفة) إلى أن يعود بالنقود، وفي حال عدم عودته سيقوم بتسليمها مع الهويات
لقسم الأخلاقية! طبعاً كان من الواضح أن الرجل لاينوي اللصوصية فقط، ولكنه يرغب أن
يسلي نفسه وأفراد دوريته مع الفتاة في سيارتهم الجيب إلى أن تصل النقود، كان الوضع
باختصار (يابتفع، يا مناخد البنت).
تابع صديقي قائلاً: من جهتي فهمت أني وقعت
في فخ وأن (الشباب) لن يتركونا إلا إذا دفعنا، وكنت مستعداً لذلك، إلا أني لم أكن
مستعداً لترك الفتاة معهم ولابأي حال من الأحوال، فكان علي أن أناور مع الرجل
لثنيه عن فكرة ترك الفتاة معهم. قلت له بأني أقدر (شهامته) لاستعداده إقناع أفراد
الدورية غض النظر مقابل (مبلغ بسيط)، وعرضت عليه فكرة أن نذهب جميعاً بسيارتي وبرفقته
وأن تتبعنا سيارة الدورية إلى حيث أسلمه المبلغ المطلوب. يبدو أن الرجل لم يجد
بداً من الموافقة، فمبلغ الألفي ليرة كان لديه أهم من أي شئ آخر بما في ذلك
الاستمتاع برفقة الفتاة، كما يبدو أنه كان يريد إنهاء تلك (القرصنة) ليبدأ بعملية
جديدة قبل انتهاء فترة الدورية، فالشباب (وقتهم من ذهب). علمت من صديقي بعد عدة
أيام أن الحادثة أصابت خطيبته بصدمة نفسية قامت على أثرها بالعدول عن مشروع الزواج
ومن ثم بفسخ الخطبة.
هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها،
ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، فهنا تتحول الرغبات الشخصية والتصرفات المزاجية
للأجهزة الأمنية إلى إرهاب دولة يضع رقاب كافة المواطنين تحت سكين الرعب واللصوصية
والابتزاز.
***
يسمح بنشرها دون إذن مسبق
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
السبت 16 كانون الأول، ديسيمبر 2017
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق