جاء الإسلام رسالة عالمية هادية للإنسان، وقائدة للمسيرة
البشرية، ومشتملة على شريعة خالدة صالحة للمجتمعات في كل مكان وعلى امتداد الزمان.
وقد افتُتح القرآن بفاتحة جاءت جامعة لمقاصد هدايته،تطرّقت
في جملة موضوعاتها الكبرى إلى تصنيف الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب معيار الإيمان:
مُنعَمٍ عليهم بالهداية والإيمان وسلوك الطريق المستقيم، وضالّين لم يهتدوا إلى
معرفته، ومغضوبٍ عليهم عرفوه لكنهم غلبت عليهم أهواؤهم فأعرضوا عنه!
ثم جاء في افتتاح السورة التي تليها مباشرةً- (سورة
البقرة)–تأكيد هذا التصنيف للناسوإنْ تنوعتْ التسمية.. بين مؤمنين متّقين وهم
المنعَم عليهم،وكافرين هم الذين يضمّون الضالين والمغضوب عليهم، ومنافقين هم أحطّ
أصناف الكافرين وأخطرُهم على المؤمنينفصّل القرآن في هذه السورةوفي سُوَر كثيرة
غيرها صفاتهم النفسية والسلوكية.
لكنّ(العلمانية أيالجاهلية المعاصرة) المتمرِّدة
على كل ما يمتّ إلى الله وإلى الدين بصلة بدّلتْ معيار تصنيف الناس فأعطَتْ ظهرها
بالكُلّية لقضية الإيمان بالله وغاية وجود الإنسان،مستغلةً ما جرى من انفصامٍ نكِدٍ
في الغرب بين الدين والحياة بعد صراع مرير بين الكنيسة وعلماء الطبيعة..صراع
استقصى وقائعَه وأسبابه المؤرّخ الأمريكي (جون درابر ت 1882) في كتابه: (تاريخ
الصراع بين الدين والعلم)وكذلك الأمريكي المتخصِّص في العلوم الطبيعية والتاريخ (أندرو
وايت ت 1918) الذي تفرَّغ 30 عاماً للبحث في هذه المسألة ثم أصدر كتابه (بين
الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى)،وهو صراع كان له ملابسات تخصّ
الغرب والدين عندهم.
ولكنْ للأسف نقل العلمانيون والقوميون نتائجه بحذافيرها
إلى الإسلام الذي لم يَعرف (الكهنوت) أو طبقة (رجال الدين)، ولم يمرّ -ولا في لحظة
من تاريخه -بحالة صراع مع علماء الكون ولا بجفاء مع العلم الكَوْني،بل كلّ من يدرس
الإسلام وتاريخ حضارته يدركأنه يحضّ على العلم – الشرعي والكوني - ويحتفي
به ويعتبر العلم الكوني بوّابة معرفة الله وعظمته.
ونجم عن سوء الفهم لخصوصيّة ذلك في الغرب النصراني
محادّة وعداوة لكل ما هو مقرّر في أيّ دين، ومن جملة ذلك معيار التصنيف
للناس بناءً على القضية الأهم والأعظم والأخطر في حياة الإنسان التي ترتبط بمقصِد
وجوده، والتي مناطُها أعزّ ما يميّزه عن كل المخلوقات وهو عقلُه وحريةُ اختياره
وكرامتُه.
فحيث يعتبر الإسلام أن قضية الإنسان الأولىهي الإيمان
بالله واليقين بوحدانيته والاهتداء إلى دينه وتبنّي قانونِهِ الذي ينظّم حياته على
الأرض، وعلى أساس هذه القضية (أي الإيمان وثمراته التي في مقدّمتها تقوى الله وحُسن
الخُلق وعمارة الأرض باحتساب وجِدّ) يتمايز الناس في الدنيا فضلاً عن الآخرة (إن
أكرمكم عند الله أتقاكم)...فقد ألغت (الجاهلية المعاصرة) هذا المعيار
الرباني للتصنيف وأبدلت به معيار (المواطنة)،وهو معيار يُمكن قَبولُه
لتحديد حقوق وواجبات المواطنين فحسب لإرساء أسس التعايش السلمي في المجتمعات، ولكن
ليس لجعل التفاضل بين الناس على أساسه ولا ليكون مناط الولاء والتناصر خلافاًلماقرّره
القرآن الكريم الذي أخبر عنواقع روابط الولاء في الاجتماع البشري في 3 آيات فيه:
1-)المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض(، 2-)والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكنْ
فتنةٌ في الأرض وفساد كبير( أيْ إلا تفعلوا وتحققوا ولاءكم فيما بينكم
أيها المؤمنون وتوحُّدَكم وتناصركم تكنْ فتنة..3- )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض(.
واللافت أن (جَوْقةً) من العلمانيين والقوميين متوزّعة على
امتداد بلاد المسلمين ممن يوصفونبمفكِّرين وباحثين يروّجون للتصنيف الجاهلي الذي
يتنافى مع كرامة الإنسان المنوطة باختياره الفكري وإيمانه العقلي بالله، وليس بما
لا خيار له فيه وهو ارتباطه بالأرض والجغرافيا!
وهذا موضوع خطير وحسّاس ضربتُ (على وتر) إثارته للتوقّف
عنده والتحذير من مخالفة معيار الله،وإنْ كان بالتأكيديحتاج إلى تفصيلٍأوسعورَصْدٍ
أشمللتطبيقات هذا التبديل الجاهلي المتشعّبة في مجالات الحياة،وحسبيَ الآن أني أثَرْتُه
وما توفيقي إلا بالله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق