يعكس واقع المسلمين أمراضاً في النفوس، نتحدث عنها كثيراً، ونشير إلى
مواضعها وأسبابها، ونؤكد أن العلاج يبدأ من داخل النفس، ونقرأ قول الله تعالى:
(إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم)... ومع ذلك لا نلحظ خطوات
جادة على طريق العلاج.
إن وراء الإخفاق في العلاج سبباً رئيساً هو: إبعاد التهمة عن النفس، أو
التحدث من موقع (أنا وأنتم)، أو (نحن و هُم)، وهذا يمنع أن ينتقل القول إلى عمل،
ويحُول دون البدء من النفس، كما ينبغي...
إنه خطأ شائع، نلاحظه في كثير من المواقف والحالات.
وأصل هذه الظاهرة الخاطئة هو عجز الفرد عن مواجهة نفسه بصدق وحزم، والحكم
عليها حكماً صحيحاً، وتقويمها تقويماً موضوعياً، ولو استطعنا أن نتجاوز هذه العقبة
لحققنا كثيراً من الفائدة على مستوى الفرد والمجتمع.
فالفرد الذي يعرف نفسه، ويمتلك صورة واضحة عن مزاياه ونواقصه، وإيجابيّاته
وسلبيّاته، وقدراته واستعداداته... هو فرد قادر على التكيف مع بيئته، والاستفادة
من خبراته، واستثمار قدراته بالشكل الأمثل.
والمجتمع الذي تنتشر هذه المزية بين أفراده، يمكنه أن يتطور وينتج، لأنه
يمتلك زمام الخطوة الأولى لكل عملية إصلاح ناجحة، ويحوز جانباً مهماً من مقومات
العمل الجماعي، ويستطيع أن يضع كل فرد في موضعه المناسب.
أما حين يعجز الفرد عن الحكم الصحيح على نفسه، فإنه يعجز عن إصلاح الظواهر
الخاطئة في نفسه أو في مجتمعه.
ويمكن أن نعرض نماذج لهذا الخلل:
الأول: ويتعلق بصفة التراجع عن
الخطأ. فإن ديننا يعلمنا أن الحق أحقّ أن يتّبع، وأن الفرد، مهما علت مكانته، ليس
أكبر من الحق، وليس أعلى من أن يتراجع عن خطئه.
والواقع يُثبت لنا أن كِبْر النفوس عن العودة إلى الحق مرض مهلك، يفتح
الأبواب للشيطان، ويضيّع فرص العمل الصالح المثمر.
وتختلف النفوس إزاء هذا الأمر. فهناك من يقبل أن يعود إلى الحق متى ظهر له،
لا يرى في ذلك حرجاً أو غضاضة.
وهناك من يتجرّع ذلك كالسمّ، ولا يكاد يسيغُه، فلا يفعله إلا إذا حوصر
وأُحرج... فهو يزعم أنه على الحق والصواب طالما أن بإمكانه أن يتشبّث بأي دعوى.
لكن لو سألنا هذا الفرد، أو سأل هو نفسه، لزعم أنه سَهْل الانقياد إلى
الحق، واستشهد على ذلك بتلك المواقف التي تجرّع فيها صعوبة التراجع، وخدش نفسه
العظيمة!!.
وهنا تكمن المشكلة. فالرجل يقوّم نفسه أنه رجّاع إلى الحق، بناءً على مواقف
معدودة اضطرّ فيها إلى ذلك، وينسى مواقف كثيرة أبى أن يتراجع فيها عن خطئه، وأقنع
نفسه، وحاول أن يقنع غيره كذلك، أنه فيها مصيب.
إنه لم يقوّم نفسه تقويماً صحيحاً، فكيف يعالج المرض في نفسه أو في نفوس
الآخرين؟!.
النموذج الثاني: يقال أحياناً:
إننا مصابون بمرض التسلّط والتبعية، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى تنمية القدرات الفردية،
وبناء التفكير الحر، لأن هذا هو قوام الفاعلية والإنتاج والعطاء. فالعجز عن القرار
المستقل يؤدي إلى إبطاء العمل أو فشله، بسبب الغلو في الارتباط، وأحادية النظرة،
وتركيز المسؤوليات في أيد قليلة.
مع ذلك نجد أفراداً، إذا حملوا مسؤولية صغيرة أو كبيرة، عَجَزوا عن التعامل
مع مَن يخالفهم، وشعروا بالخوف ممن قد يتّخذ قراراً مستقلاً، مع أنه هو الذي يملك،
عادةً، القدرة والفاعلية.
ثم لو تكلّم أحد هؤلاء لتحدث عن أهمية القدرات الفردية، ووجوب بنائها
واستثمارها، وأن العمل الجماعي يفشل حين يتّسم بروح التبعية والتسلّط.
إنه يصنّف نفسه بين من ينادون بتنمية روح المبادرة وتشجيع الطاقات
المبدعة... لأنه ينظر إلى ما يقول، لا إلى ما يفعل.
النموذج الثالث: هناك من لا
يفتأ ينادي: وسّعوا صدوركم للرأي الآخر.. عمّقوا الشورى وعمّموها.. عاملوا إخوانكم
بروح "ديمقراطية".. لقد كبر إخوانكم ولم يعودوا صغاراً.
ثم قد تجد هذا المنادي ممن تضيق صدورهم أمام الرأي الآخر، ويستبدّون
بآرائهم حين يتمكّنون، ولا يكتفون بالصلاحيات التي تمنحهم إياها مواقعهم، بل
يتجاوزونها إلى غيرها.
إنه في الواقع يطالب بحرية التعبير حين يكون المستفيد من هذه الحرية هو
نفسه أو من هو على رأيه وقناعته. فإذا اقتضى الأمر أن يسمع الرأي الآخر نسي ما كان
يدعو إليه من قبل!!.
إن الوصول إلى الحكم الموضوعي على النفس يحتاج إلى صدق النية، وصراحة
المواجهة. وإن هناك ملاحظات تُعين على ذلك:
1- الخطوة الأولى في مراجعة الذات هي إبعاد أي حكم سابق، حتى لا يرى
الإنسان نفسه مقارباً للكمال!.
2- من الأفضل أن يعمل المرء على تحديد جوانب تفوقه وتخلفه، ويقدرها قدرها،
فمثلاً إذا علم من نفسه أنه قدّم بعض العون للمحتاجين فلا ينبغي أن يضع نفسه في
أعلى درجات الكرم والصلاح... بل يكفي أن يقول: إنني أقدّم أحياناً، مساعدة لمن
يستحقها.
وكذلك إذا كان المرء كثير المطالعة، فلا يعني أنه صاحب علم جمّ وذكاء
فريد... بل هو ذو اطّلاع على بعض جوانب المعرفة فحسب.
3- النظرة الشاملة من الفرد لإمكاناته، تجعله يحيط بخبراته وقدراته
ومواقفه.. فلا يقع في عقدة النقص، أو في عقدة الغرور.
4- ليس من الضروري أن تتطابق نظرتك إلى نفسك مع نظرة الآخرين إليك، لكن
هاتين النظرتين إذا تباعدتا كثيراً دلّتا على وجود خلل.
5- الإنصاف يقتضي منك أن تزن نفسك بالميزان الذي تزن به الآخرين، فلا تعظّم
من نفسك فضائل تستصغرها من غيرك، أو تغضّ عن نقائص فيك تستفظعها من غيرك.
6- والمهم قبل هذا كله أن نتذكر أن عين الله تراك، وأن الله يعلم منك ما
تظهره وما تبطنه، وما تصارح به نفسك، وما تروغ عن مصارحتها به، وأن عنده كتاباً (لا
يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها)، وأنه يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، وأنه لا
يكلّف نفساً إلا وسعها...
(بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق