تفتح "ربيع الشام"
في آذار 2011 فانطلقت ثورة شعب ضاق
بالدكتاتورية والطائفية التي حولت البلاد إلى سجن كبير ، وخرجت سورية كلها تتظاهر
سلمياً تنادي بالخلاص !
والتحقت أنا بالثورة دون تردد،
وخرجت مع المتظاهرين ننادي بالحرية والكرامة .. ورغم زحام المتظاهرين ورغم الصخب
والفوضى أسرني مشهد صبية غطت شعرها بعلم الثورة؛ وقد بدت لي الأكثر حماسة للثورة !
وجاء عناصر الأمن فانقضوا علينا كالذئاب الجائعة
فأسرعت إلى صاحبة الشال، أخذتُ بيدها وتسللت بها خارجاً من الجحيم، والتجأنا
نتوارى عن الأنظار في ركن ظليل داخل "حديقة السبكي" القريبة، وسط
دمشق .
تبدد الصخب ..
وصفا الجو ..
وبدأت زقزقة العصافير وغناء
النوافير حولنا ..
فبدأ قلبانا يعزفان لحن الحب
الأول الذي بدا لنا نحن أبناء الثورة أنه سيكون حبنا الأول والأخير !
تعارفنا بكلمات عفوية قليلة،
وصمتنا تاركين للعيون الخجولة تحكي بقية الحكاية ..
وبدأنا نطير ..
في عالم الأحلام .. بدأنا نطير ..
لكن .. فاجأتنا حقيقة عاصفة كادت تجهض حبنا وهو لما يزل غضاً طرياً؛ فقد اكتشفنا
أن كلاً منا ينتمي إلى طائفة تضمر لطائفة الآخر العداوة والكراهية إلى حد القتل،
لكن الحب الذي اشتعل بين قلبينا أنقذنا فهدانا في وقت واحد ليقطف كل منا زهرة
ياسمين يقدمها للآخر ..
وضحك القلبان لعرس الياسمين ..
ورأينا الحب يرتفع بنا بعيداً عن
أثقال الأرض، وترهات الطائفية !
وكبرت في قلبي أنها رغم انتمائها
إلى طائفة "الدكتاتور" فقد استجابت للثورة والتحقت بالثوار من
أول لحظة؛ غير عابئة بالنجوم على كتفي والدها، ولا النياشين على صدره !
وطارت بنا الأحلام بعيداً ..
وهبت أشواق الياسمين حولنا
فأسكرتني، وجعلت رأسي يميل نحو خدها لأقبل التفاح، لكنها تراجعت للخلف ورفعت كفها
حاجزاً بيننا، وهمست مع ابتسامة خجولة :
-
لا
.. بعدين .. بعدين !
غمزتُ لها ( متى ؟) تابعت
:
-
بعدين
.. بعد الزواج ..
وأخذت كمشة من أزرار الياسمين في
كفها وقدمتها لي، فأخذتُ كفها وتنشقت بوح كفها مثل مدمن معتق ونفحتها بابتسامة
فضحت كل أشواقي، وهمست :
-
بعدين
.. بعدين .. لا بأس .. لكن أين لي بالصبر !!
فضحكت بانبساط وهي تراني أكشف
أوراق قلبي لها دفعة واحدة، وتابعت تقول :
-
بعد
أسبوعين .. ما رأيك ؟ (وبرقت عيناها بلون
السماء وأردفت تقول) بعد أسبوعين تكون فرحتنا فرحتين
-
كيف
؟
سألتها، أجابت وهي تنفحني
بنظراتها الدافئة :
-
بعد
أسبوعين .. تكون الثورة قد انتصرت فنتزوج وتكون فرحتنا فرحتين!
وأردت أن أقبلها لاقتراحها الثوري
هذا، لكني تذكرت موقفها من القبلة الأولى، فاكتفيت بزهرة زنبق كانت تتمايل إلى
جانبي، قطفتها وزرعتها في شعرها؛ فيما انطلقت هي ترسم لزواجنا حلماً سعيداً
وأطفالاً أقسمت أنها سوف تحررهم من أثقال القبيلة، كما يتحرر رواد الفضاء من أثقال
الأرض، لكي يشبوا في فضاءات حرة لا حدود لها .
راقني حلمها ..
وأسرتني تعبيراتها ..
فأقبلت أتأمل حركاتها الرشيقة وهي
ترسم الحلم في الهواء، وسرحت معها فتخيلت أطفالنا طيوراً مجنحة يجوبون السماوات العُلى
!
وعشنا أيام الانتظار حالمين خارج
الأرض، محلقين في فضاءات بلا حدود ..
ومضى الأسبوعان ..
ولاحت بوادر انتصار الثورة ..
ووصل حلمنا أعلى سماواته .. وإذا
بوالدها يقذفنا بشهاب حاقد، كأنما علم بعلاقتنا؛ فدبر لها بعثة دراسية ونفاها عني
إلى أقصى الشرق لاستكمال دراستها العليا في أستراليا، وبدأ يترصدني بين الثوار
لاصطيادي واعتقالي، ما أجبرني على الفرار إلى أقصى الغرب لأجد نفسي رقماً منسياً
في مخيم منسي للاجئين في زمهرير كندا !
وهكذا نصب الحقد بيننا جداراً
يمتد بُعد المشرقين ..
لكنا لم نستسلم؛ فقد استمر
تواصلنا عبر الأثير، واستمر حلمنا يكبر ويتسامى بنا على عفونات القبيلة كما اعتادت
أن تختم مكالمتها كل مرة؛ وراح أطفالنا يكبرون مع الحلم ويتحررون ويرتقون بإصرار
في فضاءات الحرية .. حتى بلغوا سدرة المنتهى مخلفين وراءهم ليس عفونات القبيلة
وحدها، بل كذلك عفونات التاريخ كلها !
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق