ولد جميل عبد القادر مردم بك في دمشق عام 1893، لآل مردم بيك
الأسرة التركية الدمشقية العريقة، واسعة النفوذ والثراء، والتي يرجع نسبها إلى
الوزير الكبير لالا مصطفى باشا قائد الجيوش العثمانية وفاتح قبرص وأذربيجان، زوجته
فاطمة خاتون حفيدة السلطان الغوري الملك الأشرف وحامي الحرمين الشريفين.
يذكر
البديري الحلاق في كتابه "حوادث دمشق اليومية": "كانت هذه الأسرة
تُعرف ببني القرمشي وبني مردم بك، حتى أن أكثر أجدادها كانوا يوقعون بالقرمشي تارة
ومردم بك تارة أخرى، ثم اقتُصر على اللقب الثاني وتُنوسِيَ الأول. ولمزيد من
المعلومات يراجع كتاب تراجم آل مردم بك، في خمسة قرون الطبعة الثانية تأليف تميم
مردم بك، ففيه تفصيل تاريخ هذه العائلة منذ عام 1500 م.
ورثت
الأسرة أوقاف جدها لالا باشا وزوجته وشملت هذه الأوقاف أراضي وممتلكات في كل من
دمشق ووادي البقاع وسفوح جبال لبنان الجنوبية وحول صيدا وصفد وجنوب دمشق والشعرة
والحولة والجولان وحوران وفي فلسطين. وقد جمعت العائلة ثروة طائلة من استثمارات
هذه الممتلكات…
والده
عبد القادر مردم بيك القاضي في محكمة الاستئناف، ووالدته السيدة خديجة خانم بنت
تحسين بك، التي توفيت عام 1946 عن عمر يناهز الثمانين، التي قامت بتربية أبنائها
بعد وفاة عبد القادر بك عام 1902 وهو لم يتجاوز عامه السادس والخمسين.
تلقى
مردم بيك علومه الابتدائية والثانوية في معاهد الآباء العازاريين في دمشق، ثم درس
العلوم الزراعية، وفي العام 1911 أسس بالاشتراك مع مجموعة من الشباب المثقف جمعية
سرية سميت "جمعية النهضة العربية " التي كانت نواة " الجمعية
العربية الفتاة" التي تأسست فيما بعد في باريس. وهدف هذه الجمعية تحرير الأرض
العربية من الهيمنة الأجنبية.
قبيل
اندلاع الحرب العالمية الأولى اتجه إلى باريس لاستكمال تعليمه، في العلوم السياسية
والعلوم الزراعية، وكان واحداً من الثمانية الذين وجهوا الدعوة للمؤتمر العربي
لعام 1913، وشغل فيه وظيفة أمين السر العام المساعد، وكانت مهمته تنسيق الجهود
وتصنيف المطالب الوطنية للعرب، وصدرت عن المؤتمر قرارات تم تبليغها للدول العظمى
ولسفير الدولة العثمانية في باريس.
وقد
وردت إلى المؤتمر برقيات ورسائل تأييد ومؤازرة، من دمشق تحمل تواقيع عدد كبير من
الوجهاء أذكر بعضهم: صلاح الدين القاسمي، عبد الرحمن الشهبندر، محمد كرد علي،
عثمان مردم بك، عبد الوهاب الإنكليزي، لطفي الحفار، رشدي الحكيم، أديب مردم بك،
منيف العائدي، توفيق الحلبي.
وردأً
على مقررات المؤتمر أصدرت المحكمة العليا العرفية التي ترأسها جمال باشا وذلك عام
1916 م، أحكاماً بالإعدام على رواد القضية العربية، وحُكم غيابياً على جميل مردم
بك الذي كان لا يزال في فرنسا، فتوجه إلى أمريكا اللاتينية مندوباً عن مؤتمر باريس
للعمل ضمن أوساط الجاليات العربية هناك دعماً للاستقلال العربي من الحكم العثماني.
عقب
دخول الأمير فيصل إلى سوريا وبداية الحكم العربي توجه الأخير إلى مؤتمر الصلح في
فرساي من أجل الدفاع عن التطلعات العربية بعد انسلاخ الأقاليم العربية عن الدولة
العثمانية، وقد انضم جميل مردم بك الذي كان ما يزال في فرنسا رسمياً وعلناً إلى
حاشية الأمير وبقي إلى جانبه حتى عاد برفقته إلى أرض الوطن.
عند
عودة الأمير فيصل إلى سورية بعد مؤتمر فرساي بالباخرة عاد معه جميل بك على الباخرة
إدغار غينه ووصل دمشق في 03 / 05 / 1919. لازم جميل بك الأمير فيصل في دمشق كأحد
مستشاريه. كما سمي معاوناً لوزير الخارجية الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في حكومة
الرئيس هاشم الأتاسي.
بعد
دخول الفرنسيين سورية بقيادة الجنرال غورو في تموز عام 1920، انتعشت الحركات
التحريرية، وانضم جميل مردم بك مع مجموعة من رجال المقاومة إلى حزب الشعب الذي
أعلن في العام 1925 الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، وساهم في المعارك التي جرت بين
قوات الاحتلال الفرنسي وبين المقاومة السورية. وعندما حاصرت القوات الفرنسية جبل
الدروز وأمرت باعتقال زعماء الثورة، استطاع مردم بك الفرار والوصول إلى مدينة حيفا
الفلسطينية. وقد سبق للمجلس العدلي أن أصدر الحكم عليه بالإعدام غيابياً. ولذا
رضخت السلطات البريطانية لطلب تسليم مردم بك، فأوقفته وقامت بتسليمه إلى السلطات
الفرنسية التي نفته إلى جزيرة أرواد قبالة مدينة طرطوس على الساحل السوري.
في
عام 1923 سحبت فرنسا مندوبها السامي في سورية ولبنان الجنرال غورو وعينت بدلاً عنه
الجنرال ويغان الذي وصل بيروت في 9 أيار، وعند قدومه إلى دمشق أوائل حزيران أصدر
عفواً عن الوطنيين الذين كانوا خارج البلاد السورية. كذلك قرر منح حكومتّي دمشق
وحلب حرية انتخاب مجالس تمثيلية في شهر تشرين أول 1923، على أن يكون التصويت على
درجتين وعدد الممثلين 31 عضواً. كما أصدر عفواً عن سلطان باشا الأطرش فعاد إلى
قريته في جبل الدروز. كما أصدر عفواً عن جميع المعتقلين السياسيين الموجودين في
جزيرة أرواد أو سجن قلعة دمشق.
عام
1924 أسس الزعيم " عبد الرحمن الشهبندر “حزب الشعب”، وهو أول حزب سياسي في
سورية بعد إطلاق حرية تشكيل الأحزاب، وكان الهدف من تأسيسه جمع الصفوف الوطنية في
هيئة سياسية تنطق باسمها، وقد ضم الحزب في عضويته: جميل مردم بك ـ حسن الحكيم ـ
لطفي الحفار ـ فوزي الغزي ـ إحسان الشريف ـ توفيق شامية ـ فارس الخوري ـ عبد
المجيد الطباع ـ أبو الخير الموقع ـ أديب الصفدي ـ سعيد حيدر ـ فخري البارودي ـ
نزيه المؤيد العظم ـ وعبد الرحمن الشهبندر.
في
5 / 6 / 1925 افتتح الحزب رسمياً في دار الأوبرا (العباسية) بدمشق بحضور ما يزيد
على ألف عضو. وانتخب الدكتور عبد الرحمن الشهبندر رئيساً له وفارس الخوري نائباً
للرئيس. وافتتح له فروعاً في حمص وحماة وحلب واللاذقية وتمتع هذا الحزب بتأييد
شعبي واسع، كان برنامج الحزب يهدف إلى تأمين استقلال البلاد ووحدتها وانتخاب مجلس
تأسيسي انتخاباً حراً لسن دستور البلاد، وتحقيق الإصلاحات الاجتماعية وتشجيع
الصناعة الوطنية.
عام
1928 ومع تشكيل الكتلة الوطنية، انضم مردم بيك إليها وأسندت إليه أمانة السر، وفي
العام نفسه انتخب نائباً عن دمشق، ودخل الوزارة لأول مرة عام 1932 باسم الوطنيين
وتقلد وزارتي المالية والزراعة في حكومة حقي العظم، إلا أنه استقال عام 1933 على
أثر خلافٍ في المجلس النيابي حول موازنة الدولة حيث تقدمت الأكثرية النيابية بطلب
إضافة مادة للموازنة تقضي بإسقاط جميع ديون الدولة ومؤسساتها عن المدينين. وكان
هؤلاء النواب مدينين للمصرف الزراعي بقروض لم يقوموا بإيفائها، كما أن الكثيرين
منهم لم يؤدوا ضريبة العشر التي كان يدفعها المزارعون قبل تطبيق نظام ضريبة
الإنتاج الزراعي.
وقد
اعترض مردم بك بصفته وزيراً للمالية على هذا الإعفاء… وألقى خطاباً هاجم فيه
النواب وخاطبهم بقوله “يا أشباه الرجال”، ولم يصدر قانون الإعفاء إلا بعد أن
استقال مردم بك من منصبه.
في
عام 1934 عندما ثار خلاف بين المملكة العربية السعودية وإمامة اليمن، وتطور إلى
نزاع مسلح، الأمر الذي أثار قلق الرأي العام العربي، اشترك مردم بك في لجنة
المصالحة التي توجهت إلى الجزيرة العربية وبذلت المساعي الحميدة التي أدت إلى عقد
معاهدة صداقة وتحالف بين البلدين.
عام
1936 وعلى أثر تلكؤ الحكومة الفرنسية في تنفيذ المعاهدة المبرمة مع سوريا،
وإغلاقها لمكاتب الكتلة الوطنية بالشمع الأحمر عمت المظاهرات الأراضي السورية وقام
تجار دمشق بإعلان الإضراب العام الذي امتد إلى سائر المدن السورية، فردت عليه
السلطات الفرنسية باعتقالات تعسفية بأمر من المفوض السامي. وقد تم اعتقال جميل
مردم بك ونسيب البكري ومحمود البيروتي وغيرهم.
ولما
وضعت المعاهدة موضع التنفيذ وجرت انتخابات حرة نجح فيها مرشحو الكتلة الوطنية، وقد
نجحت القائمة التي ترأسها جميل مردم بك عن مدينة دمشق والغوطتين، وفي أول جلسة
عقدها المجلس انتخب النواب فارس الخوري رئيساً للمجلس وهاشم الأتاسي رئيساً
للجمهورية. وألف مردم بك أول وزارة وطنية في 21 كانون الأول عام 1936، وما لبثت أن
قدمت استقالتها في شهر شباط في جو عاصف اجتاح العلاقات الفرنسية السورية، وأكد أن
فرنسا قد رجعت عن تنفيذ معاهدة 1936، وفي 26 تموز عام 1938ألف مردم بيك وزارته
الثانية.
في
عامي 1940 وعلى أثر اغتيال الدكتور الشهبندر واتهام مردم بيك مع رفاقه في الكتلة
الوطنية باغتياله توجه إلى العراق حتى صدور الحكم القضائي بتبرئته ورفاقه.
عام
1943 أعيد العمل بالدستور، وأعيد انتخاب مردم بك في مجلس النواب وكُلف بنيابة
رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية في حكومة " سعد الله الجابري " الأولى
"، ثم وزارة الخارجية مع وزارتي الدفاع والاقتصاد الوطني في وزارة "
فارس بيك الخوري " الأولى
ثم
وزارة الخارجية مع الدفاع في حكومة الخوري الثانية، وشغل في هذه الأثناء رئاسة
الوزارة بالوكالة في غياب فارس الخوري في سان فرانسيسكو. كما انتدب وزيراً مفوضاً
في تشرين الأول عام 1945 إلى مصر لتأسيس المفوضية السورية، وكذلك إلى السعودية في
تشرين الثاني عام 1945 للغرض نفسه.
في
28 كانون الأول عام 1946 شكل حكومته الثالثة، وتولى فيها إضافةً للرئاسة وزارتي
الداخلية والصحة والإسعاف العام، وفي تشرين الأول عام 1947شكل حكومته الرابعة،
وتقلد وزارة الخارجية،
وعلى
اثر قرار التقسيم لفلسطين، زاد مجلس النواب الضرائب وأقر قانون خدمة العلم وصوت
على شراء أسلحة، واستقال كثيرون من ضباط الجيش السوري كي يشاركوا في جيش الإنقاذ،
ووقّعت سورية الميثاق السياسي والعسكري للجامعة العربية لتوحيد الجهد تجاه فلسطين.
وفي نيسان عام 1948، أثارت مذبحة دير ياسين الشعب السوري، وفي أيار عقد مجلس
الجامعة العربية اجتماعاً في دمشق وسط انتقادات لاذعة للاجتماع الذي جاء في الوقت
المتأخر، وفي 16 أيار أي بعد يومين من إعلان بن غوريون قيام دولة إسرائيل، دخل
الجيش السوري فلسطين، ولكن سرعان ما صد في وادي الأردن بعد قتال عنيف، وتصاعد
النقد الموجه للحكومة السورية، وفي شهر آب عام 1948شكل حكومته الخامسة وتقلد بنفسه
وزارة الدفاع الوطني عندما بدأت العمليات الحربية في أيار عام 1948، وأدخل إصلاحات
جذرية في مؤسسة الجيش.
قدم
مردم بك استقالة حكومته بعد فشل الجيوش العربية في فلسطين، وغادر سورية إلى مصر
وأقام في القاهرة، وفي شهر أيلول عام 1954، أصدر جميل مردم بك تصريحاً أعلن فيه
اعتزاله الحياة السياسية ولم يكن قد تجاوز الواحد والستين من العمر، وبتاريخ الأول
من شباط عام 1958، دعاه الرئيس جمال عبد الناصر للوقوف معه ومع الرئيس شكري
القوتلي عند التوقيع على الإعلان عن الوحدة بين سورية ومصر.
وفي
30 آذار1960، توفي جميل مردم بك في القاهرة، ونقل جثمانه إلى سورية حيث ووري الثرى
في مدافن العائلة بدمشق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق