تصيبني السياسات الروسية بالذهول والاحباط، وأكاد لا
أفهم تماماً كيف يفكر القادة الروس حين يحذرون من انتشار الإسلام وهم يتعاملون مع شعب
مسلم يعتبر الإسلام روح حياته ووجوده، وتنص دساتيره المتعاقبة بدون استثناء على أن
الفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع!!
لا يزعجه الاسلام الايراني ولا نظام ولاية الفقيه، ويسافر
بنفسه للقاء الولي الفقيه في طهران، ولا يقلقه جهاد حزب الله ولا كتائب عصائب الحق
وأبي الفضل العباس والميليشيات الطائفية القادمة تحت ثارات الحسين، وهي فصائل متفقة
في السياق الفقهي على نجاسة الكافر نجاسة حسية ومعنوية، وتحرم مصافحة النساء وتفرض
عليهن الحجاب الأسود، ومع ذلك فالمناضل العلماني الموسكوبي يرى في كل هذا التعصب الديني
ظاهرة وطنية تقدمية مسؤولة، طالما أنها تلتقي مع الروس في مزبلة المصالح، ولكنه يرى
في توجهات العدالة والتنمية التركي خطراً يهدد تركيا لأنه يقود إلى اسلمة المجتمع!!.
وفي تعليقه على حادث الطائرة يقول بوتين:
“المشكلة ليست المأساة
التى شهدناها أمس، المشكلة أعمق بكثير.. القيادة التركية الحالية على مدار عدد كبير
من السنوات تتبع سياسة متعمدة لدعم أسلمة بلادها”
هكذا وبدون مقدمات يقوم بوتين بالإعلان عن تركيا خارج
تاريخها وسياقها وسباقها، ويعلن أن العدالة والتنمية يأخذ تركيا إلى الإسلام!!
وفي قراءة التداعي الحر على الطريقة الفرويدية يعلن
بوتين أنه قادم إلى سوريا إذن ليحارب الإسلام، وأن الإرهابيين الذين تقصفهم طائراته
في أسواق الريف الحلبي ومشافيه ومدارسه على اختلاف ألوانهم وأطيافهم وانتماءاتهم هم
إرهابيون متطرفون لأنهم يطالبون بسوريا إسلامية.
لا أدري إذا كان الفيلسوف المخابراتي الروسي قد قرأ
شيئاً من تاريخ العالم في القرون الخمسة السابقة، وكان يكفيه قراءة تاريخ روسيا القيصرية
حتى يدرك ان تركيا جارتهم الجنوبية كانت دوماً تمثل السد الإسلامي الصلب الواقف في
مواجهة أطماع القيصرية وأحلامها للوصول إلى المياه الدافئة، وأن تركيا كانت مركز العالم
الإسلامي كله لأكثر من أربعة قرون، وأن تركيا التي يريد بوتين حمايتها من الإسلام القادم
هي الدولة التي نشرت ولاتها وباشاواتها وباياتها وداياتها المسلمين الترك من الجزائر
إلى مصر ومن اليمن إلى أفغانستان إلى شيشينيا وبشكيريا وتتارستان وداغستان في قلب الاتحاد
الروسي، وكانت في حربها وسلمها تلتزم رايات السلطنة الإسلامية وكان زعماؤها التاريخيون
يسمون الغازي والمجاهد والمحارب في سبيل الله، أما لقب الخليفة فقد ظلوا يرهبونه قرنين
قبل أن يطلقوه على سلاطينهم في النهاية وذلك احتراماً للأحاديث التي قصرت الخلافة في
العرب.
تركيا إسلامية في العهد العثماني وفي العهد الأتاتوركي
وفي عهد اينونو وبايار وكورسل وصوناي وقوروتورك وأيفرن وأوزال وديميريل وسيزار وغل
واردوغان… وهذه هي صورتها في التاريخ، ولا يمكن على المستوى المنظور في القرون التالية
إلا أن تكون كذلك.
تركيا إسلامية وقد اختارت نمطها العلماني في السياسة،
وفصلت الدين عن السياسة، بمعنى أنها اختارت موقفاً منفتحاً في فهمها الإسلامي يشبه
تماما ما كان يسود في عصر الذهب الإسلامي حين كانت المعتزلة والتيار العقلاني يملأ
العالم الإسلامي، وكان الدهريون يؤلفون ويكتبون وينشطون في حواضر الخلافة، ويقدمون
البراهين والحجج على عدم وجود إله، ثم يبيتون في بيوتهم دون أن يصيبهم سيف الهيئة ويصدر
ضدهم الأحكام بالإعدام.
تركيا إسلامية… وحتى حين اختارت الأذان بالتركية وارتكبت
اجتهاداً خاطئاً، ولكنه لم يكن موقفاً معادياً للإسلام بقدر ما كان موقفاً يحترم الرسالة
الإسلامية ويريد إيصالها للشعب التركي المسلم بلسان تركي مبين.
تركيا إسلامية … ولا ينقص إسلامها أنها لا زالت ترفع
صور أتاتورك في مراكزها وفي مقرات حزب العدالة والتنمية.. فهي لا ترى في أتاتورك أكثر
من سياسي شجاع حارب التخلف وانطلق ببلاده نحو الحرية والانفتاح، وهذا بالمناسبة هو
رأي محمد إقبال فيه، وفي ايامه تحقق مزيد من ازدهار الإيمان…
وتركيا إسلامية… ومآذنها تشق سماء الأناضول وأصوات مؤذنيها
وقرائها الرائعين ترقص بها القلوب في كل ركن من هذا العالم الإسلامي الكبير.
تركيا إسلامية… لأنها فتحت قلبها وذراعيها لاحتضان اللاجئين
السوريين بمنطق الأنصار والمهاجرين وليس بمنطق تجار الحروب.
تركيا إسلامية… وهي الحاضن الذي نما فيه العدالة والتنمية
وهو ليس مشروعأً تبشيرياً لحشد الناس في الجوامع بل هم مشروع عدالة وتنمية، يشارك فيه
أتقياء وطنيون من اليمين واليسار يؤمنون بالدولة التركية وهويتها الإسلامية، ويعملون
من أجل أن يعيش الشعب نعمة العدالة ويتصرف برخاء..
القيم الكبرى في تركيا الحديثة من العدالة والتنمية
وحقوق الإنسان ليست قيماً غريبة عن الإسلام بل هي جوهر قيمه وأهدافه ورسالاته.
وتركيا إسلامية… سواء حكمها العدالة والتنمية أو حكمتها
الأحزاب العلمانية الأتارتوركية لأن هذا هو واقع حالها وماضيها وتاريخها، ولن يكون
في تاريخ الدولة التركية حزب أعلى راية من مآذن استانبول، ولن يكون في زعمائها رجل
أكبر من محمد الفاتح.
وحين يقوم أردوغان بتأمين حرية المراة في حجابها وتقاومه
بعض شركات الفحشاء فذلك لأنه مؤمن بعلمانية تركيا وكرامتها وهويتها، وليس لأنه يسير
نحو هيئة تركية للحسبة والقمع، بل لرفع القمع المجنون الذي مارسه بعض الأشرار في غفلة
من الزمن ضد حرية النساء.
التيار الإسلامي التركي بأربكانه وأردوغانه تيار يقدس
الديمقراطية ويؤمن بكل أدواتها ومفرداتها وينزلها منزلة التنزيل الحكيم، ويعلن صباح
مساء أنه حزب علماني حقيقي، ويضمن للناس حرية الايمان والالحاد، وقنوات الدين وقنوات
الإباحية، وحرية الصلاة وحرية الخمر، والمصرف الإسلامي والمصرف التجاري، وكلية الشريعة
وكلية الرقص، ومع ذلك فبوتين يعتبر هذا اللون من الإسلام خطيراً وداعشياً يجب محاربته.
ليست هذه السطور للدفاع عن تركيا، ولكنها رد على الحقد
البوتيني العتيق على كل إسلام، خاصة ذلك الإسلام الذي ينشد الحرية والكرامة، لقد قالتها
من قبل قنابله وصواريخه الهاطلة على رؤوس السوريين، وها هو اليوم يقولها بالتداعي الحر
بوضوح: إننا في حرب مع الإسلام، ولسنا في حرب مع داعش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق