لقد كانت كاهن إفريقية امرأة ساحرة
حقاً، تحمل صنماً خشبياً ضخماً تستعين به على ما تريد من عمل السحر والكهانة،
وكانت ذات شعر جعد عظيم، تنشره عند استحضارها لشيطانها فيما تزعم، وتدق صدرها
بيديها وتحمرُّ عيناها فتتملك الناس من حولها رهبة شديدة. وَيُفهم من النصوص
التاريخية أنها لم تكن صغيرة السن بل كهلة، فقد كان لها أبناء في سن الشباب، وكان
أحدهم من أب رومي، وقد تزوجت كثيراً من الرجال مما جعل لديها الكثير من الأبناء،
وكانت إلى جانب مظهر السحر والشعوذة ذكية ذات كياسة ولباقة وتدبّر وحكمة وحسن
سياسة.
وكان أول ما فعلته هذه الكاهنة -
عندما بلغها أن المسلمين يقصدونها - هو تخريب الأرض في طريقهم، ظنا منها أن مطلبهم
الغنيمة والأسلاب، فإذا وجدوا الأرض خرابا انكفؤوا على أنفسهم وعادوا خائبين.
فقطعت الأشجار وخربت الزروع على طول الطريق، ثم أمرت بهدم قلعة (باغاية) حتى لا
يعتصم بها المسلمون، فأصبحت الأرض جرداء قاحلة، وتعرّت التربة وتحولت إلى تراب
تذروه الرياح.
ورغم ما فعلت هذه الكاهنة تقدم
المسلمون نحوها بشجاعة نادرة وأدركوها في موضع تجمع قواتها على نهر بين العين
البيضاء وتبة تسمى (نيني)، ووقف المسلمون في جانب من هذا النهر والكاهنة وأتباعها
في الجانب الآخر، وباتوا ليلتهم شاكي السلاح.
وعند بواكير فجر الصباح الأولى خاض
المسلمون الماء وشنوا هجوما صاعقا على الكاهنة وجندها، ودار قتال عنيف تكاثر فيه
البربر على المسلمين وقتلوا منهم أعدادا كبيرة، مما دفع حسان إلى الانسحاب مع من
تبقى من جنده إلى الشرق منهزما بعد أن ترك في أرض المعركة المئات من جثث الشهداء،
في حين أسرت الكاهنة نحو ثمانين من خيار جند حسان، وللمفارقات أنها أحسنت
معاملتهم، بل أخذت واحدا منهم واسمه (خالد بن يزيد) وجعلته ابنا لها وآخت بينه
وبين ولديها، وهذا يدل على ذكاء هذه الكاهنة وبعد نظرها وحسن تفكيرها، وقد سمي
الوادي الذي دارت فيه المعركة (بوادي سهر).
واستمر رجال الكاهنة في مطاردة
حسان ومن فر معه حتى أخرجوهم إلى طرابلس، ثم إلى برقة حيث ضرب حسان خيامه هناك في
مكان أصبح يسمى (قصور حسان)، وبعث بالخبر إلى دمشق وبات ينتظر الأوامر.
وهكذا فقد المسلمون إفريقية للمرة
الثالثة في نحو عشر سنوات، الأولى بعد استشهاد عقبة، والثانية بعد استشهاد زهير،
والأخيرة بعد هزيمة حسان في وادي نيني.
ولو أن غاية المسلمين المكاسب
والأسلاب لكان كفاهم ما حل بهم وكفوا عن إفريقية وانصرفوا آيسين من فتحها، وقد
تكبدوا في سبيلها خسائر فادحة وهزائم مريرة، وهلك من رجالهم الألوف من خيرة
الوجوه، ولكن الإيمان كان دافعهم والجهاد ديدنهم وإعلاء كلمة التوحيد غايتهم، لذا
لم تفتّ هذه الانتكاسات من عزائمهم أو تقلل من يقينهم من أن الله ناصرهم ومعلٍ شأن
دينهم.
ولم تكف الكاهنة - بعد هزيمتها
للمسلمين - عن فعالها الشنيعة، بل راحت تمضي في سياسة التخريب لتقطع أي أمل يراود
المسلمين في تكرار غزو تلك البلاد، فقطع رجالها الأشجار على مسافات طويلة، وخربوا
المدن، وهدموا الحصون، حتى يقول ابن عذاري: كانت إفريقية ظلاً واحداً من برقة إلى
طنجة، وقرى متصلة ومدائن منتظمة، حتى لم يكن في أقاليم الدنيا أكثر خيرات ولا أوصل
بركات، ولا أكثر مدائن وحصوناً من إقليم إفريقية والمغرب، مسيرة ألفي ميل، فخربت
الكاهنة ذلك كله.
وبعد خمس سنوات من انتظار حسان عند
قصوره في برقة وصلته الإمدادات من دمشق، فتحرك نحو إفريقية مجددا سنة (79هـ/698م)،
وقد فتكت بها الكاهنة فتكاً ذريعاً مما جعل عامة أهلها والمغرب الأوسط في خوف من
الكاهنة ورعب مما تفعله بالبلاد، فغادر عدد كبير منهم مهاجرين إلى صقلية وإيطاليا
وحتى الأندلس، وهذه الأخبار شجعت حسان على استعجال أمره، فأغذ السير نحو إفريقية،
فدخل (قابس) حيث استقبله أهلها استقبال المنقذ لهم، فقدموا له الأموال والمؤن، ولم
يضيع حسان وقته بل رأى أن من الحكمة أن يسرع إلى الغرب دون أن يضيع وقته في
القيروان، فاخترق إقليم (الجريد) المعروف (بقسطيلة) وأراح جنده في (قفصة) ثم دخل
المغرب الأوسط من الطريق الصحراوي دون مقاومة، حيث انضمت إليه هناك جموع كثيرة من
البربر لمساعدته في القضاء على الكاهنة والخلاص من تخريبها للبلاد.
وحدث لقاء غير حاسم بين قوات
الكاهنة وبعض قوات حسان عند (حصن الجم) بين سوسة وصفاقس، فهزمت فيه الكاهنة وفرت
بقواتها إلى المغرب الأوسط حيث اعتصمت بموطن قبيلتها جراوة في جبال الأوراس، وهذه
الهزيمة أرعبت الكاهنة وأخافتها، وشعرت برجحان كفة المسلمين عليها، وخشيت خسارتها
في أي حرب قد تندلع مع المسلمين، مما دفعها للتنبؤ بقرب مدتها فاستعدت لذلك، فجعلت
خالد بن يزيد - الذي اتخذته ابناً - وسيطاً بينها وبين حسان، فأخذ أماناً لولديها،
وبالفعل انتقل هذان الولدان إلى صفوف حسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق