مرَّ أنس بن مالك رضي الله عنه على صبيان يلعبون في
أحد أزقة المدينة المنورة فقال لهم – وهو الرجل الكبير –: السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته، فقال له أحد مرافقيه: كيف تسلم عليهم وأنت الصحابي المعتبر وهم صغار لا
يراعون ذلك؟
فقال له: كيف لا أفعل شيئاً كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يفعله، وأنا أرجو أن أكون رفيقه
في الجنة، ومن تشبّه بقوم وسار على نهجهم كان منهم؟!
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتواضع لهم ويعاملهم برأفة ورحمة ويلين لهم
ويبتسم بوجوههم وهو الذي كان يقول: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر
أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)).
لقد كانت الفتاة الصغيرة تستوقفه – عليه الصلاة
والسلام – وتكلمه، فيجيبها، وتأخذ بيده فينقاد لها، وتذهب به لحاجتها أيّ مكان كان
قريباً أو بعيداً.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: صدقتَ يا أنس، فقد
حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم : ((ما من نبي بعثه الله إلا رعى الغنم)).
قال أصحابه: وأنت يا رسول الله، هل رعيت الغنم
مثلهم؟
قال دون حرج: ((نعم أرعاها بأجر زهيد لأهل مكة)).
قال أنس: ليس من المعيب أن يعمل الإنسان بأجر زهيد
ومهنة بسيطة، إنما العار أن يمد يده يتكفف الناس وهو قادر على العمل.
قال أبو هريرة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية خطيرَها وحقيرَها فقد قال: ((لو
أهدي إلي ذراع أو كُراع لقبلت))، والكراع ساق البقر أو الغنم لا لحم فيها.
قال أنس: ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تدعى "العضباء" كانت لا تُسبق
أو لا تكاد تُسبق، فجاء أعرابي بقعودٍ "جمل" فسبقها فشق على المسلمين أن
يسبق جملُ الأعرابي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وظهر الغضب على وجوههم،
فما كان منه عليه الصلاة والسلام – لحسن خلقه وشدة تواضعه - وليذهب غضبهم – إلا أن
قال: ((حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلّا وضعه)). وهذه سنة الله في
خلقه.
قال أبو هريرة: وفي قوله هذا صلى الله عليه وسلم تنبيه إلى عدم المباهاة وترك المفاخرة وإلى هوان
الدنيا على الله، وأنها ناقصة لا ينبغي الاهتمام بها والركون إليها.
قال الأسود بن يزيد: ومن تواضعه عليه الصلاة
والسلام ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سألها أحدهم: ما كان يفعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟
قالت: كان في خدمة أهله يُفَلّي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم
نفسه، ويعلف ناقته، وينظف البيت، ويأكل مع الخادم لا يتكبر عليها، ويعجن معها،
ويحمل بضاعته من السوق .. وإذا أراد أحدهم أن يحمل عنه قال: ((صاحب الحاجة أحق
بحملها))، وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
وخير خلقه، أفلا نتخذه أسوة وقدوة فنفعل ما يفعل؟
وهنا قال رفاعة بنُ تميم بن أسيد: تعلمون أنني رجل
من الأعراب الذين إذا رأوا رأياً، أو بدا لهم بداء قالوه دون أن يستأذنوا، ولو كان
الموقف غير مناسب يتطلب الأناة والانتظار، فقد وصلت المدينة المنورة يوم الجمعة
ظهراً، ودخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يخطب، ولم أكن أعرف خطأ الحديث والإمامُ يخطب، لقد كان المسلمون جميعاً
سكوتاً كأن على رؤوسهم الطير ينصتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فناديت مِن
وراءُ: يا رسول الله، أنا رجل غريب جاء إليك يعلن إيمانه بهذا الدين الجديد، لا
يعرف كيف يدخل الإسلام، ولا أركانَ الإيمان، ولا يدري شيئاً من أصول هذا الدين سوى
أنه كره الكفر ورغب في ملّة التوحيد والدين الحنيف. قلت هذا بصوت عالٍ بملء فمي،
فالتفت الناس إليّ وتعجبوا مما فعلت وظهر على أغلبهم الضيقُ والتأفف..
أتدرون ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ بأبي
وأمي يا رسول الله ما أحلمك وما أعظمك، لقد ترك خطبته، وأقبل إليّ، فلما أصبح
أمامي توقف وأشار إلى بعضهم فجاء بكرسي فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله،
فكان كلامه حِكماً، ونطقه عظاتٍ، ونظرتُه بلسماً لنفسي وروحي، ثم عطف إلى منبره صلى
الله عليه وسلم فأتم خطبته، وكأن شيئاً لم
يكن.
اقول وأنا مؤمن بالله ورسوله ومحب لله تعالى
ولرسولهالكريم:
اللهم إني أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك والناسَ
جميعاً أنني أحبه وأرجو شفاعته يوم ألقاك، فاكتبني من عبادك الصالحين المحبين..
اللهم آمين.
رياض الصالحين: باب التواضع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق