روى أبو هريرة رضي الله
عنه قال:
بال أعرابي في المسجد،
فقام الناس إليه ليقعوا فيه، سباً وشتماً، ولعل بعضهم مال ليضربه، فمنعهم النبي صلى
الله عليه وسلم قائلاً: ((دعوه – فقد بال
وانتهى، ولئن عاقبتموه لن يطهر المكان – وأريقوا على بوله سَجلاً من ماء أو ذنوبا
من ماء – الدلو الكبير المملوء ماء – فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معَسِّرين)).
فالأعرابي اعتاد أن يبول
في أي مكان يصادفه، يشعر بالحاجة إلى ذلك ودون قصد، فهو (الأعرابي) – في رأيه – لم
يفعل ما يلام عليه، والمسجد رمل كما الصحراء، فأي خطأ ارتكبه، ولماذا يثور المصلون
عليه؟!! والحقيقة أن المرء لا يلام على مُجانبة ما لا يعلمه.
لكن الناس قاموا إليه: هذا
يوبخه، وذاك ينهره، والثالث يصرخ فيه والآخر يكاد يضربه، وهو لا يدري سبباً لذلك،
وإن درى فهو يعجب لتصرفاتهم لم يزعجونه؟! وعلام يوبخونه؟!!
ولا يلبث رسول الله صلى
الله عليه وسلم – وهو يرى ذلك – أن يأمرهم
بما يلي:
1-الكف عنه، لأن الزجر والسبَّ وغيرهما لا تُصلح الأخطاءَ،
وهنا يأتي دور الحِلم والأناة والتصرف بالحكمة.
2-تطهيرِ المكان، وذلك بأن يريقوا عليه دلواً كبيرة مملوءة
ماءً، فالعمل الجيد الحسنُ يزيل الأوضار وينظف المسجد مما ضره ونجَّسه.
3-التزامِ الهدوء واللطف، فالمسلمون بعثوا ميسرين، لا
معسرين ودعاة إلى الدين لا منفرين منه.
فما كان من البدوي بأفقه
الضيق – حين رأى ما فعلوه به، وما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم – إلا أن دعا الله عز وجل معلناً عن ضيقه منهم
وإكباره النبيَّ صلى الله عليه وسلم : اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً.
إذ كيف يدعو للباقين، وقد أحرجوه؟! أمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفَّ أذاهم عنه، وأنقذه منهم، فحَق أن يدعو
له.
ودعاء البدوي بالخير للنبي
صلى الله عليه وسلم يدل على أن نفسه
ارتاحت إليه وسيقبل منه ما يدعوه إلى اعتناق الدين الجديد.
وهنا اغتنم النبي صلى الله
عليه وسلم هذا الانفتاح النفسي عنده،
وبيّن له أن المسجد مكان طاهر، لا ينبغي له إلا الطهارةُ.. وطلب إليه أن يدعو
للناس جميعاً لأن رحمة الله أوسع.
ثم التفت إلى أصحابه
يعلمهم كيف يكونون دعاة، فأمرهم بالرفق قائلاً: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي
على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه)).
وروى ابن عباس رضي الله
عنهما أن وفد عبد القيس جاءوا إلى المدينة المنورة لزيارة النبي صلى الله عليه
وسلم وإعلان إسلامهم، فلما وصلوا المدينة
أسرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
شوقاً إلى لقائه، أما الأشجُّ وهو من وجهائهم فقد أقام عند رحالهم، فجَمعَ
من بقي منهم، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، فهو لن يقابل إنساناً مغموراً، إنما
يلاقي سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فليلقه نظيفاً جميل الهيئة
والمنظر، وهكذا انطلق إلى المسجد فسلم، فقرّبه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجلسه
إلى جانبه ثم حين انعقد مجلسه صلى الله عليه وسلم
بعبد القيس جميعاً، قال: ((تبايعوني على أنفسكم وقومكم؟)).
قال القوم: نعم يا رسول
الله، نبايعك على أنفسنا وقومنا.
قال الأشج: يا رسول الله،
إنك تطلب منا أن نتخلى عن دين أقمنا عليه أعمارنا وليس أصعب على الإنسان أن يترك
دينه بسهولة، فنحن نبايعك على أنفسنا فقد جئناك طوعاً ورغبة، أما بقية آل عبد قيس،
فأرسلْ إليهم بعض أصحابك – معنا – يدعونهم إلى الإسلام ويرغبونهم فيه، فمن اتبعنا
كان منا، ومن أبى قاتلناه.
قال الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم : ((صدقت .. إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله)):
1-((الحِلم)): وهو العقل المفكر والصدر الواسع وجودة النظر
للعواقب.
2-((والأناة)): وهي التثبت من
الأمر، وترك العجلة، والتربص في الأمر.
قال الأشج: يا رسول الله،
أهاتان الصفتان جديدتان فيّ أم قديمتان، جبلني الله عليهما مذ خلقني؟
قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ((بل خصلتان قديمتان)).
قال الأشج: فالحمد لله
الذي جبلني على خُلُقين يحبهما الله تعالى.
رياض الصالحين: باب الحلم
والأناة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق