كانت الكارثة التي حلت بالعجوز ، ابو موفق
منذ شهرين قد أسلمته إلى الذهول والأرق فلم يغمض له جفن طوال ليل عدة ...
في تلك الليلة، وعلى صوت المطر الغزير المنهمر
افاق من صدمته، وقال لزوجته المؤرقة مثله: غدا ان شاء الله سنعزق الأرض، وما أن أطل
الفجر حتى كان أبناؤه الذين أذبل الذل كيانهم وأصاب وجوههم بالشحوب والاصفرار يشرفون
على عمال غرباء عن بلدتهم مضايا يعزقون الأرض، العجوز كان يقف من حين لآخر ويعتدل بقامته
الثمانينية مجففا عرقه ماسحا عينيه بمنديل قطني خشن، ويتامل الأفق كأنه ينتظر أحداً
،يهز رأسه ثم يتفل بيديه الخشنتين ويتابع العمل ...بين الأشجار الملتفة كخميلة ودغل
عتيق كانت تتردد من حين لآخر، آهة غاضبة، موجعة
لقد اعتاد العجوز أن يراقب ويتابع عمل أولاده
ويساهم قليلا ادمانه العمل وهو يردد بخشوع ومغمض العينين: إن الله هو الذي يملك كل
شيء، وكان قوي الإيمان ويستسلم بإذعان وطواعية لمشيئة الله ما كان لشئ أن يهده أو يحطمه
إلا إذا كان في حجم وثقل هذه الكارثة التي حلت به ......ولده الكبير وبكره موفق الذي
دفعه حين شباب إلى التطوع بالجيش وكان طويل القامة، وسيماً، واستطاع أن يحقق الأمل،
كان ينظر إليه بكل الأبهة والفخامة ويتابعه بنفس هائمة منطلقة من حواسها مرتجفا، محاصراً
بغصة لذيذة، ومنذ تلك اللحظة التي جاء بها ولده أول مرة يرتدي بزته العسكريه وعمرته
البهية، كان يشعر أنه طفلاً صغيراً أمام ولده
أصغى إلى عجوزه القديسة التي أبكته هو الآخر
، أمضت حياتها معه في غمرة من بؤس الشباب والماضي ومتاعب كثيرة، ولكنها كانت نظيفة
غير ملطخة، أمل الآن لقد نزل خبر تلطخ شرفه وماضيه النقي، بعار ولده البكر، نزول الصاعقة
على ذلك البيت الريفي الوادع.
تناهى إلى سمعه صوت أنين سيارات تئن على الطريق
الطينية الصاعدة إلى مزرعته وشاحنة عسكرية صغيرة تحمل جنودا في حوضها الخلفي لقد تحقق
الان من الخبر ومن عار ولده وجريمته الشائنة، لم يعد يستطيع ان يجسر على رفع عينيه
في وجه أحد، أدار وجهه وعاد إلى البيت كأنه كلب مضروب
كان قبل الآن يعمل ويبكي لوعته دون أن يلحظه
أحد، يشكك بالخبر ولكن حين أبلغوه بان ولده قُتل على يد الثوار وهو يشارك الجيش بتدمير
حمص وأحيائها وينتهك أعراض الآمنين هناك، وكان قبل ذلك قد ساهم بقمع أهله بمضايا، قبل
ان يتحول إلى غول لم يستطع ان يفهم كيف ولد منه هذا المسخ الذي قبل استباحة كل القيم
الإنسانية التي نشأ عليها لمجرد إرضاء الطاغية البائس
فقرر ان لا يذرف دمعةً واحدة وتذكر تماماً
أن لعنة الله ستحل على بيته، وأن العدالة البشرية ستلاحقه لتقتص من ولده البائس القميئ،
وسوف يموت هو وعجوزه من هذه الوصمة المخزية القاصمة، وسيحيا أولاده متمرغين بوحل ذل
فعلة أخيهم مدى الحياة ...
تذكر عجائز مضايا يروون له كيف أن ابن الشماط
دنس سيرة بلدته سرغايا الهادئة في حضن الجبال بعار لم تمحوه مئة سنة مرت، حين أعماه
الغضب من دولة تريد ان تضعه تحت القانون ،فذهب إلى بيروت ليكون دليلا للجنرال غورو
القادم من عمق الحقد والاحتلال ليحتل دمشق ورافقهم حتى يدلهم إلى طريق إذلال وطنه
....وبنفس الوقت تذكر الشجرة الطيبة التي زرعها يوسف العظمة حين أبت عليه نفسه الكريمة
المتوثبة للعزة والسؤدد ، أبى ان يسلم دمشق رخيصة ومهانة دون مقاومة، فحمل روحه وقدمها
فداءاً لوطنه مع علمه المسبق انه يخوض معركة خاسرة وغير متكافئة تماماً ،كي لا يذكر
التاريخ تهاونه وانهزاميته أمام عدو غادر محتل...
تساقطت دموع الهزيمة والعار على وجنتيه وهو
يتمسك بغصن شجرة قريبة كي لا يتداعى، وولده يخبره: انهم جاؤوا يحملون جثة أخيه اللواء
موفق الأسعد .....
ابتسم من بين الدموع، ثكل ماضيه النقي، وحبه
لوطنه، وحاول ابتلاع ريقه المتليف ليوهم نفسه إنه لا زال يستطيع التنفس، ولكن دون جدوى
....سقط ميتا كقطعة حطب جافة ، من حقله، وودع الحياة قبل ان يقف موكب عسكري بائس يحمل
خائنا تلوث بدم من يفترض به أن يحميهم ....
الرياض 25 - 3 - 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق