كان رباح بن يزيد رجلاً صالحاً
مستجاب الدعوة، مشتهراً بالفضل والزهد، بإجماع أهل عصره، كما يقول أبو العرب.
وكان الناس يتبركون بدعائه ويتعظون
برؤيته. وكان يُضرب به المثل في عبادته، رقيق القلب غزير الدمعة، كثير الإشفاق
والخشية والتواضع والرحمة.
وأسند عنه حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال: حدثني ابن سمعان عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عطاء بن يزيد
الليثي عن أبي هريرة أنه قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أي الناس أفضل ؟ فقال: ((مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله عز وجل)). قالوا: ثم
من يا رسول الله ؟ قال: ((ثم مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي
الزكاة ويدع الناس من شره)).
بعض فضل رباح بن يزيد
ومناقبه
حدّث أبو عبد الرحمن القصير قال:
رأيت أربعة ما رأيت في الدنيا مثلهم: رأيت ابن عون بالبصرة فما رأيت مثله، ورأيت
سفيان الثوري بالكوفة فما رأيت مثله، ورأيت رباح بن يزيد بإفريقية فما رأيت مثله،
ورأيت الأوزاعي بالشام فما رأيت مثله.
ذُكر عنه أنه قال: رُضت نفسي على
المآثم حولاً فبعد حول ضبطتها، ورضت لساني على ترك ما لا يعنيني فبعد خمس عشر سنة
ضبطه.
وذُكر أن رجلاً من الأندلسيين أتى
إلى رباح فقال له: يا أبا يزيد، إن سعيد بن لبيد أخذ مني جارية لي. فأخذ رباح عصا
- وانطلق معه إلى دار سعيد بن لبيد، فوجد جماعة من الناس قد حفوا ببابه ينتظرونه،
فألقى عصاه بينهم وجلس حتى خرج سعيد راكبا من داره. فلما رآه من كان على بابه من
تلك الجماعة، نهضوا على أقدامهم، وثبت رباح جالسا، فقصد إليه سعيد، ورباح جالس في
مكانه، فأقبل سعيد يقول لرباح في الذين قاموا له: يا أبا يزيد، هؤلاء كلهم أبناء
دنيا. فقال له رباح: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يتمثَّل له
الرجال قياماً على أقدامهم، فليتبوأ مقعده من النار)). فقال له سعيد: يا أبا يزيد،
هل من حاجة ؟ فقال له رباح: أردد على هذا الأندلسي جاريته. فصاح سعيد: جارية
الأندلسي ! فأخرجت، فدفعها إلى مولاها.
حكم رباح
كان رحمه الله ينطق بالحكمة، فقد
ذكر ابن الحداد، قال: (اخبرني بعض أهل العلم عن رباح بن يزيد أنه أرسل رسولاً،
وكان في المسجد، فعثر الرسول على حصير، ثم عاد الرسول فسلك على ذلك الحصير، فعثر
عليه ثانية، فغضب رباح وقال له: (رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين)) وأنت تعثر على حصير مرتين ! ألا إذ عثرت عليه مرة أخذت حذرك
فلا تعود إليه مرة أخرى ؟).
وكتب إلى البهلول رسالة يقول فيها:
السلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإني أوصيك ونفسي
بتقوى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فالزم على نفسك كثرة ذكره
واستعن بالله عز وجل على أداء فرائضه، واستغفره لما هو أعلم به، فإنه عز وجل يقول:
(من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً)، ثم أحدث
احتراساً من الجليس، إلا من كان همه يعلو فرحه، وفكره ينفع جليسه، يستعمله إلفه.
فمن لم يكن منهم كذلك، فأظهر له حسن الخلق، وتسلّك من إخائه في رفق. واستعن بكتاب
الله عز وجل وكثرة ذكره وتلاوته، فإنه الشفاء والرحمة للمؤمنين. وقد نزل بنا ما
ترى من سفك الدماء وذهاب الأموال، وقد علمت ما عانيت من كثرة العبر بتسليط إلهك عز
وجل يوم سطا أبو حاتم الأعور، وإنما كان ذلك نقمة بالذنوب، فبلغ من الفساد ما الله
أعلم به وأحصى له، من حصار وضيق أسعار وظهور المنكر. وقد قال إلهنا الكبير المتعال
عز وجل: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون).
فهل من رجوع ظاهر أو باطن ؟ فما ينتظر من كان في مثل ما نحن فيه إلا نزول النقم،
إلا أن يعفو ربنا الحليم.
ولقد علمت ما حل بمغمداس وغيرها
فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم إنا لله وإنا إليه راجعون. وقد قال إلهنا الكبيرعز
وجل: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول
فدمرناها تدميراً). وإني أرى لك أن تحدث حذراً واحتراساً واستكانةً وخضوعاً
وتذللاً وخشوعاً، ترجو بذلك رضى إلهك والنجاة من نزول عقابه، وما ظهر من الفساد
خوفا من سخط الجبار، ولا تكن من الغافلين، ولكن أكثر من مجالستك من أهمه أمر نفسه
وصلاح دينه، فإن لم تجد أولئك فعليك بالخلوات واستعن بالله عز وجل، ولا تزال
تذكرنا، فإني قد نشبت في موضع لا يخلص منه إلا الله عز وجل. والوحدة لا تضر من خاف
الله تعالى بالغيب. والأنس لا ينفع من كان من دينه في شك وريب. قال الله عز وجل:
(فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا علماً). فمن رجوت
من أهل زمانك أن يكون بقاؤه رحمة لأهل مكانه فأسرع إليه وانتفع بلقائه، فإنه قد
أدرك أمراً عظيماً. فعليك يا أخي بكثرة الحزن والتفكر والاعتبار بالذكر وملازمة
الدار، ولا يعجبك كثرة الحديث، فإنه ليس نافع الأمور إلا حديثا حرَّك القلوب لما
فيه نجاتها وعمارتها بما يرضي ربها عز وجل. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: ((من أصبح أكبر همه غير الله عز وجل، فليس من الله في شيء،
ومن لم يهمه أمر المسلمين فليس منهم)). وقد أصبح الناس يسفك بعضهم دماء بعض ويأخذ
بعضهم مال بعض، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقال الله عز وجل: (يا أيها الذين
آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم. ولا
تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيماً. ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه
ناراً، وكان ذلك على الله يسيرا). فكيف تطيب نفس مؤمن أو ترى سروراً، وهو يرى سخط
ربه ظاهراً ؟ ما سكنت القلوب إلى الفساد إلا لما خالط الأبدان من العيوب. يا أخي،
لا يغرنك رضى الناس عنك فإنهم لا يعلمون ما يعلم الله، فاستغث بالله أيام رجائك،
وليعلم منك الشفقة منه والثقة به، ولا تزال تكتب إلينا وتذكرنا بنفسك، فإنه لن
يخطر على بالنا أحد من إخواننا إلا وذلك خير له ولنا. والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته.
قال محمد بن الأش: أخبرني أبي قال:
اعتل رباح بن يزيد - وكان بدرب عابد بن الأسود - عند أخ من إخوانه، فلما بلغ يزيد
بن حاتم أمير إفريقية علته واعد سعيد بن لبيد عامله على أنهما يمشيان إليه بعد
المغرب رجالة. فلما كان بعد المغرب أتى سعيد بن لبيد قبل أن يأتي يزيد بن حاتم،
فخرج إليه صاحب الدار - وكان عند رباح ذلك الوقت جماعة يعيدونه - فلما رآه دخل إلى
رباح فقال: يا أبا يزيد، هذا سعيد بن لبيد قد أتى عائدا.. فقال له رباح: لا تأذن
له ولا تدخله علي. فقال صاحب الدار في نفسه: رباح لا يبالي بسعيد ولا يخافه، وأنا
أبالي بسعيد وأخافه، والدار داري ! فخرج إليه وقال: ادخل أصلحك الله! ثم سبقه إلى
رباح، فقال: هو ذا قد دخل، فحوَّل وجهه نحو الحائط قبل دخوله، لئلا يخاطبه. فلما
أن دخل سعيد قال له: كيف تجدك يا أبا يزيد ؟ كيف أنت ؟ ونحو ذلك من الكلام، فما رد
عليه رباح حرفاً، ولا أجابه بشيء.
فلما أن رأى ذلك سعيد قال: أحسب أن
أبا يزيد نائم ! فقال له صاحب الدار: أحسب ذلك، أصلحك الله، فحوَّل رباح وجهه إلى
صاحب الدار وقال له: ويحك ! تكذب وأنت تخاطبني الساعة وتقول إني نائم ؟ أما إني لو
علمت أنك تكذب ما أويت لك إلى سقف ! قال: فخجل سعيد بن لبيد وخرج من عنده واجداً
لما نزل به. فلما صار إلى رأس الدرب لقي يزيد بن حاتم الأمير وقد أتى يعود رباحاً،
فقال له سعيد: انصرف، أصلح الله الأمير ! فقال له: ولم ؟ فأخبره بما نزل به، وقال
له: إنما نزل بي هذا من رباح لكوني صحبتك، فتوقف يزيد ساعة مفكراً ثم قال له: (قد
أتيت، فما كنت لأنصرف حتى أشهد عيادته، فقال له: وكيف تعمل ؟ قال: سوف ألطف له
وأحتال. قال: فمضى يزيد حتى أتى الدار التي فيها رباح، فخرج إليه صاحب الدار فلما
رآه دخل إلى رباح فقال: هذا الأمير يزيد بن حاتم قد أتى عائدا وقد أذنت له
بالدخول، ولم أقدر على غير ذلك. فأعاد رباح وجهه إلى لحائط كما فعل مع سعيد،
والقوم جلوس بحالهم عند رباح لم يبرحوا. فلما دخل يزيد سلم عليهم ثم قال لهم: كيف
أمسى أبو يزيد العشية ؟ كيف رأيتموه ؟ من الله عليه بالعافية وصرف عنه المحظور،
وكان أولئك العواد يجيبونه في كلامه كله في مسألته وفي دعائه. فخرج عنه الأمير
يزيد بن حاتم. ومات رباح من تلك العلة، فبلغ يزيد بن حاتم وفاته، فأتى لحضور
جنازته، فلما صلى الظهر أقبل الناس والأمير راكب ومعه أصحابه في خلق عظيم، فوقف
ينتظر الناس ليخرجوا به، فازدحم الناس على نعشه من صلاة الظهر إلى صلاة العصر،
فلما رأى ذلك يزيد قال: معاشر الناس، إن كنتم مزدحمين فازدحموا على عمله ولا
تزدحموا على جسمه. وأمر الشرط بحمل النعش، فأخذه الشرط فحملوه وأزالوا الناس عنه،
وحملوه إلى (باب سلم)، فصلي عليه ودفن رحمه الله. وذلك في سنة (172هـ/788م).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق