قصة قصيرة : رسائل – بقلم: د. أحمد محمد كنعان

انتصف الليل وهو جالس في الشرفة يغازل شرفتها في الطرف الآخر من الحارة ينتظر ظهورها كما تعودت كل ليلة، وراح يفكر في حيرة بطلبها استرداد رسائلها إليه، ووجد نفسه يتساءل:

- هل يمكن أن يتخلى الإنسان عن جزء من روحه بهذه البساطة ؟!! هل يمكن أن يمحو الإنسان أعز لحظات حياته بهذه البساطة؟!!

كانت صدمته عظيمة وهو يقرأ رسالتها التي تطلب فيها استرداد الرسائل، لكن صدمته الأكبر كانت من أسباب استرداد رسائلها، فقد كتبت تقول:

- سمير.. يجب أن نعترف بالواقع .. دعنا لا نكذب على أنفسنا، فنحن من طائفتين مختلفتين.. وبيننا حواجز اجتماعية ونفسية كبيرة.. لن يقبلوا زواجنا أبداً.. أبداً.. لن نستطيع الوقوف ضد التقاليد والأعراف التي أصبحت عندهم ديناً ، هذه هي الحقيقة يجب أن نعترف بها ونكفّ عن أحلامنا الوردية وحبنا المجنون !!

سمير .. لن نستطيع محاربة العالم، فالتيار حولنا جارف .. ولن نستطيع الصمود طويلاً.. سمير .. لقد اكتشفت أن المشكلة متجذرة فينا نحن، وليس فيهم فقط .. فقد حصل لي اليوم أمر لا يصدق ؟!! آخ .. يا سمير .. ماذا أقول ؟!! لقد رأيتك اليوم تشارك في المظاهرة ضد النظام الذي يمثل طائفتي، فسيطرت عليّ فكرة غريبة أوصلتني إلى حد الجنون، لأني عندما رأيتك بين المتظاهرين تنادي بسقوط "النظام" وتصف "الطائفة" بالمجرمة، خامرني هاجس مخيف، فقد وجدت نفسي أتمنى رصاصة طائشة تصيبك.. هل تصدق هذا ؟!! أنا نفسي لم أصدق .. لم أصدق أن يحصل لي هذا، لكنه حصل .. وجعلني أدور حول نفسي كالمجاذيب لشدة ما تملكتني الفكرة، وحاولت الهروب من نفسي ومن الفكرة .. فدخلت غرفتي أصلي وأبكي لعلي أتحرر من الفكرة، لكنها لم تفلتني .. بل ظلت تحاصرني بلا رحمة!!

سمير ..

أرجو أن تفهمني، الموضوع خارج عن إرادتي .. خارج عن إرادتي تماماً.. أرجوك افهمني.. وكن على ثقة أن حبي لك لن يموت، وأن قلبي لن ينساك أبداً، ولن أنسى السنوات التي عشناها معاً خارج التاريخ، غير عابئين بترهات التقاليد والأعراف التي ظلت تلاحقنا وتحاصرنا لكي نصحو على الواقع ونكفّ عن جنون العشق .. فلم نفعل .. إلى أن جاء هذا "الربيع" فذهبت السكرة وأستيقظ فينا التاريخ والجغرافيا وكل ما هو أسود !!

سمير ..

هذه الحالة لم تخطر على بالي أبداً .. أبداً.. حالة صحوت عليها عندما سمعتك تلعن الطائفة، فصحى التاريخ في داخلي بكل إكراهاته !!

سمير ..

أرجوك .. افهمني .. ولا  تلمني .. فأنا الآن غارقة بلا إرادة في أعماق التاريخ، وأكثر ما يؤلمني أنني لا أجد الرغبة في النجاة .. هل تفهمني ؟!!

سمير ..

هل عندك تفسير لهذه الحالة ؟!!

سمير ..

لقد صليت كثيراً كما كنت توصيني عند كل أزمة، على أمل أن أسترد حياتي  وأعرف رأسي من رجلي، لكن .. دون جدوى !! فقد ظلت الفكرة اللعينة تمسك بخناقي وتشدني إلى الحضيض صارخة في وجهي : لا مهرب لك أيتها العاشقة العابثة!! فتوقفي عن المضي خلف السراب، واعلمي أنك من طينة، وسمير من طينة أخرى، هذه حقيقة .. فلا تكذبي على نفسك!!

وختمت رسالتها تقول :

سمير ..

سامحني أرجوك ، وحاول أن تنساني، أرجوك انساني، وأعد لي رسائلي لأجمعها مع رسائلك لعلي أستطيع بها استكمال مشوار حياتي .. سامحني !

المخلصة لك طول العمر غادة .

طوى رسالتها ودسها في جيب قميصه بجوار قلبه، وترقرقت في عينيه دموعٌ حملته إلى الزمن الجميل، فتذكر لقاءهما الأول في مكتبة جامعة دمشق، يومها كان يبحث عن نسخة من مسرحية شكسبير "روميو وجولييت" التي اختار دراستها لمشروع حصوله على الدكتوراه، فوجد النسخة معارة لطالبة تدعى " غادة سليمان" كما أخبره صديقه "أبو وليد" أمين المكتبة الذي طمأنه أنها سوف تعيد المسرحية للمكتبة في اليوم التالي حسب نظام الإعارة في المكتبة، وبسبب حاجته للمسرحية التي حاول شراءها من المكتبات العامة فلم يجدها فقد حرص أن يحضر باكراً إلى المكتبة مخافة أن يسبقه إلى المسرحية طالب آخر، ودخل مكتب صديقه أمين المكتبة وجلس يتبادل معه الحديث بانتظار غادة والمسرحية، لكن انتصف النهار ولم تأتِ، فقام سمير إلى الشباك الكبير المطل على حديقة الجامعة، وإذا به يسمع صوتاً ناعماً ضاحكاً يقول :

- صباح الخير عمي أبو وليد ..

- أهلين عمو غادة ..  تعالي ادخلي لتشربي القهوة معنا

ردّ أبو وليد، والتفت سمير فإذا بفتاة ممشوقة القوام تدفع الباب وتدخل وهي تقول بنبرة صاخبة :

- يا سلام ... قهوة !!

فعاد سمير إلى جلسته على الكنبة المقابلة لمكتب أبي وليد ودعاها للجلوس، بينما أشار أبو وليد إلى سمير وقال مخاطباً الفتاة :

- هذا هو الأستاذ سمير عبد الحي ينتظر مجيئك منذ الصباح الباكر

فنظرت إلى سمير باستغراب وقالت وهي تمد يدها لتصافحه :

- أهلين أستاذ سمير ! هل بيننا موعد ؟!

فرد عليها أبو وليد قائلاً :

- سمير طالب في كلية الآداب وهو يحضّر رسالة الدكتوراه حول مسرحية "روميو وجولييت" التي معك، أرجو أن تكوني قد أحضرتها ؟!

قالت :

- طبعاً.. طبعاً.. ها هي ..

وفتحت محفظتها وأخرجت الرواية وقدمتها إلى سمير وهي تقول :

- فرصة سعيدة أستاذ سمير ... لكن اسمح لي بسؤال

قال سمير مع ابتسامة ذات مغزى :

- اسألي .. أهلاً وسهلاً ..

قالت :

- أستاذ سمير .. ما الذي جعلك تختار هذه المسرحية التراجيدية المحزنة لمشروعك ؟! ( وضحكت ضحكة رقيقة قبل أن تضيف مداعبة ) إنها حكاية عاشقين مجنونين اختارا العيش معاً على الرغم من رفض عائلتيهما اللتين بينهما خلافات مستحكمة، دون أن يعبأ العاشقان بالنتائج !!

فردّ سمير :

- أجل .. آنسة غادة .. أعرف هذا، وربما بسبب هذا الجنون اخترت هذه المسرحية دون غيرها ( وتنهّد بعمق قبل أن يضيف ) يا آنستي .. هذا الجنون بتحدي التقاليد والأعراف والتضحية في سبيل الحب هو أجمل ما في المسرحية .. يا آنستي .. أجمل الحب ما كان خارجاً عن المألوف وما نحصل عليه بعد تعب وسهر وقلق وتضحيات !!

قالت :

- أهكذا ترى الحب.. أستاذ سمير ؟!!

قطع عليهما الحديث أبو وليد فقال مداعباً:

- الله .. الله.. يا آنستي .. يا أستاذ !! ما هذه اللغة الركيكة التي تتحدثان بها يا أهل الأدب.. أين الشعر الذي تتعلمانه في الكلية !!

فابتسمت غادة واحمرت وجنتاها خجلاً، وقالت :

- معك حق عمي أبو وليد .. الظاهر أننا زودناها حبتين !!

والتفت سمير إلى غادة وسأل مستغرباً :

- هل الآنسة غادة طالبة في كلية الآداب ؟!! أنا لم أرك في الكلية قبل الآن ؟!!

فأجاب عنها أبو وليد قائلاً :

- غادة في قسم الأدب الفرنسي، وأنت في القسم العربي ، فلا غرابة أن لا تلتقيا !!

قال سمير :

- على كل حال .. هذه فرصة طيبة للتعرف على الآنسة ( والتفت إلى أبي وليد وتابع ) وهذه من بركاتك عمي أبا وليد (وعاد إلى غادة مضيفاً) أهلاً بالآنسة !!

فعاد أبو وليد يقول متبرماً :

- عدنا إلى آنسة وأستاذ !!؟ ( وأضاف وهو يضحك مداعباً ) هيا.. هيا .. اشربوا القهوة وقوموا إلى الدراسة .. خلص وقت اللعب وجاء وقت الجد

فانطلقا يضحكان وقاما إلى حديقة الجامعة، فاختارا مقعداً تحت شجرة السرو الكبيرة التي تتوسط الحديقة، وجلسا يتابعان الحديث فعرف أنها جاءت من مدينتها اللاذقية قبل عامين لمتابعة دراستها الجامعية، وأنها تقيم وحيدة في إحدى غرف سكن المدينة الجامعية، وسألها عن اختيارها للأدب الفرنسي فأجابت أن إباها يعمل ملحقاً ثقافياً في باريس وهو الذي شجعها على دراسة الأدب الفرنسي، فضحك سمير وهو يخبرها أن أباه كذلك هو الذي شجعه على دراسة الأدب العربي لأنه يعمل ملحقاً ثقافياً عند حلاق الضيعة، فانطلقت تضحك بانبساط حتى كادت تنزلق عن المقعد!!

هكذا بدأت الحكاية ..

حكاية حب جارف أخذتهما إلى مواقف تحكي حكاية روميو وجولييت التي كانت السبب في لقائهما، وكما عانى روميو وجولييت من الخلاف المستحكم بين عائلتيهما فقد عانى سمير وغادة بسبب الخلاف الطائفي بين عائلتيهما، ذلك الخلاف الذي وقف في طريقهما ومنع زواجهما، وحرمهما من اللقاء لاسيما عندما علم بعلاقتهما ابن عمها الضابط الكبير في جهاز الأمن، وبدأ يضيق عليهما، ووصل الأمر به إلى تهديد سمير ومسحه من وجه الدنيا على حد تعبيره، لكن كل ذلك لم يكن ليحول دون التواصل بينهما من خلال الرسائل التي تولى أخوها الصغير حملها بين العاشقين !

                                                                  ***

تذكر سمير كل هذه الذكريات والمواقف وهو يغازل شرفتها وينتظر ظهورها كما تعودا كل ليلة، لكن تأخر الليل ولم تظهر، فعاد سمير فأخرج رسالتها من جيبه وراح يقرؤها ربما للمرة العاشرة ، ثم دخل غرفته وأخرج أوراقه وراح يكتب :

غادة..

تريدين رسائلك حقاً .

يعني انتهينا خلاص !؟

غادة ..

وهل ما بيننا مجرد رسائل .. لا .. لا يا حبيبتي .. فما بيننا أكبر من الرسائل، وأكبر من العادات والتقاليد وأكبر من ترهات التاريخ التي تريد أن تحكم حياتنا !!

غادة ..

يجب أن نلتقي، فما بيننا حياة أغلى من الرسائل، وأغلى من الدنيا كلها .. أم نسيتي ؟!!

غادة ..

يجب أن نلتقي .. ولن نسمح لأحقاد التاريخ أن تفرق بيننا !!

غادة  ..

دعينا نلتقي .. ونلقي خلفنا كل تقاليدهم وأعرافهم .. وليشربوا البحر !! وليذهبوا هم والتاريخ والتقاليد والأعراف إلى الجحيم !!

وجاءه الجواب :

سمير ..

أنا أقدّر مشاعرك تماماً، وإذا كنت تلوّح في رسالتك إلى الولد الذي في بطني .. فاعلم أنني تخلصت منه .. أسقطته .. نعم .. أسقطته لأقطع آخر خيط بيني وبينك ، لقد حاولت كثيراً أن لا أفعل .. لكني فعلت.. أجل فعلت .. فقد استحكمت جرثومة التاريخ في دمي وأمرتني أن أفعل ، ففعلت .. وعندما صحوت على الواقع ووضعت يدي على بطني فلم أجد ولدنا تناولت كل ما وصل إلى يدي من حبوب لأتخلص من حياتي ومن التاريخ ومنهم .. لكنهم .. للأسف .. أسعفوني ، وخرجت من المستشفى لألتقي بهم من جديد !!

سمير..

سامحني فإن ما يحصل لي ليس بإرادتي بل بفعل جرثومة التاريخ اللعينة التي تعبث بي وتجعل حياتي جحيماً.. أرجوك ساعدني .. وسامحني.. سامحني أرجوك !!

                                                    ***

طوى رسالتها ودسها كالعادة في جيبه قرب القلب، وعاد يلح على اللقاء بها، لكنها تعللت بابن عمها الذي هددها بالقتل إن هي التقت به، إلى أن تدخّل القدر، وقتل ابن عمها خلال مشاركته في قمع المتظاهرين ضد النظام، فأرسلت إلى سمير تواعده على اللقاء في حديقة الجامعة، وهناك في المقعد الذي شهد لقاءهما الأول تحت شجرة السرو الكبيرة جلسا برهة بلا كلام يسترجعان صور الزمن الجميل، ثم التفتت إليه بعينين دامعتين ومدت يدها فأخذت يده ووضعتها على بطنها وقالت :

- سمير .. سلّم على ولدنا !

أحس بحركة الولدتحت كفه فانتابته رعشة دافئة انتقلت من يده إلى قلبه إلى عينيه اللتين انفجرتا بالبكاء وهو يدرك أن ولده مازال حياً، واندفع فطوقها وقال :

- إذن لم تسقطيه كما قلتِ ؟!!

فهمست وهي تنشج بالبكاء :

- لست مجنونة لأقتل أكبر حلم في حياتي .. لست مجنونة لأقطع ما بيني وبينك ( وزفرت زفرة خرجت من أعماقها وأضافت ) إلى الجحيم ترهات التاريخ ، وعفونات العادات والتقاليد ( ومدت يدها فأخرجت منديلها ومسحت الدموع عن عينيه وعينيها وأضافت ) سمير .. أنت حياتي ..  أنت التاريخ الذي أريده ولا تاريخ غيره ( ووضعت يدها على بطنها وأضافت ) وهذا هو  المستقبل الذي أريد أن أحياه وإياك بقية العمر !!

وقامت فأشارت إلى مكتبة الجامعة وهي تقول :

- هيا بنا إلى العم أبو وليد نبحث عن رواية جديدة !!