لست مبالغاً إن قلت إن تاريخنا الفني
لم يشهد مبدعين كما كان "الأخوان رحباني" اللذان تركا تراثاً فنياً لا مثيل
له ، ليس من جهة الإتقان الفني فحسب، وإنما من حيث الرؤية الفكرية السابقة لعصرها التي
تمتع بها الأخوان وفاقت رؤية " زرقاء اليمامة" ، فقد استطاع هذان المبدعان
استشراف المستقبل العربي وكانا سابقين عصرهما،
لا بسنوات بل لن أبالغ إن قلت بعدة قرون، وإن كل من اطلع على أعمال هذين الكبيرين يدرك
هذه الحقيقة جيداً، وأضيف أن هذين المبدعين كانا مبدعين فريدين في تاريخنا السياسي،
أجل "تاريخنا السياسي"، لم أخطئ التعبير، فربما تبادر لبعض قرائي الكرام
أنني أريد تاريخنا الفني ، فأقوب مجدداً، لا، بل تاريخنا السياسي، ذلك أن كل ما قدمه
هذان الفنانان القديران يندرج في إطار الهمّ السياسي الذي شغلنا نحن الجيل العربي الذي
عاصر نكبة فلسطين، وتجرّع مرارة "النكسة" في حزيران ٦٧ ، ويعيش اليوم آلام
ودمار وشتات "الربيع العربي" الذي تحول بقدرة عالَم أطرش وأعمى إلى شتاء
قارس جمّد كل شيء إلا آلامنا ونزيف دمائنا
!!
وأعود إلى الرحابنة، فلا أجد في ما
أبدعاه عملاً واحداً بعيداً عن هموم أمتنا ، بل أجد كل ما أبدعاه يعبر تعبيراً صادقاً
عن همومنا الكبيرة وأحلامنا الكبيرة ، فقد تنبأ الاخوان بكل ما عانيناه وما نعانيه
من أحداث وآلام وكوارث من خلال الأعمال الكبيرة التي قدماها على مدى عطائهما الفني
خلال نصف قرن أو يزيد !!
بالأمس عدت إلى واحد من هذه الأعمال
وهو اسكتش إذاعي يحمل اسم ( كاسر مزراب العين ) كنت قد استمعت له مراراً في ستينات
القرن الماضي عندما كنت صبياً غراً فكنت أجد
فيه تسلية تثير الضحك، أما اليوم فقد بتّ أجد فيه ما يدعو للبكاء، فقد بتّ أجد فيه
تعبيراً بليغاً عن "ربيعنا السوري" الذي ببركات "بشار" طاغية الشام
تحول الى كابوس رهيب يعيد إلى ذاكرتي تفاصيل ذلك الاسكتش، لكن دون تسلية هذه المرة
وإنما بسيل من الدموع!!
الاسكتش يحكي قصة شاب أزعر يعشق بنتاً
حلوة من بنات الضيعة، فيلاحقها ويطلب ودها ، لكنها "لا تعطيه ريق حلو" كما
يقول المتل الشامي، وترفضه رفضاً قاطعاً لما تعرف عن سيرته العابثة ، وتصارحه بنفس
حرة وكبرياء لا يعرف المجاملة أنها إذا قررت يوماً ما أن تحب فلن تحب شاباً عابثاً
مثله ، بل تحب شاباً صاحب تاريخ نضالي وبطولات تتحدث عنها الضيعة كلها، فيبدأ الشاب
يفكر بعمل بطولي يجعل الحبيبة تميل إليه وتعشقه، فيهديه فكره الأرعن أن يهجم على ناطور
الضيعة المعروف بين أهل الضيعة بقوته وبأسه
وهو الذي لا يجرؤ أحد على التعرّض له، لكن العاشق المتهور بدل أن يتغلب على الناطور
يتلقى منه علقة ساخنة تجعله أضحوكة بين أهل الضيعة ، وبدل أن يكسب قلب الحبيبة يجدها
تشمت به، وتزداد منه نفوراً واستخفافاً، وإذ لم تنجح خطة العاشق الولهان فكّر بخطة
بديلة تجعله بطلاً في عين الحبيبة، ويجعل اسمه يتردد على كل لسان، فيعمد إلى كسر مزراب
العين الذي تستقي منه الضيعة، فيلومه أهل الضيعة على هذا العمل التخريبي ، وبهذا العمل
يقطع آخر شعرة بينه وبين الحبيبة، لكنه بالرغم من الخسارة الفادحة يروح يفاخر بعمله
البطولي مشبهاً نفسه بالبطل الأسطوري "شمشون" الذي هدم المعبد على نفسه وعلى
من فيه وهو يصرخ مفاخراً : (عليّ وعلى أعدائي ) وهكذا ينتهي الاسكتش بهذه الصرخة المعبرة
عن عقلية التدمير في أبشع صورها!!
واضح ما في هذا العمل الفني من إسقاطات
سياسية لا تخفى، فهذا الشاب الأزعر المتطلع الى عشقٍ مستحيل يمثل كل أزعر يتطلع إلى
حب مستحيل بينه وبين شعب لا يريده، وكم شاهدنا
في العقود القليلة الماضية أمثال هؤلاء الزعران، حتى إن سيرة واحد منهم تكاد تكون نسخة
طبق الأصل عن سيرة كاسر المزراب، فهذا الأزعر الذي مازال يأمل بالحب المستحيل حاول
كما حاول أزعر الرحابنة أن يكسب محبة شعبه باختلاق بطولات وهمية تذكرنا باعتداء أزعر
الضيعة على الناطور، من خلال زعم الأزعر الجديد أنه بطل المقاومة والممانعة ضد أعداء البلد، فكانت نتيجة
ذلك فضيحة مزلزلة كتلك الفضيحة التي حصلت مع كاسر المزراب وناطور الضيعة ، وعندما انكشف
مدعي المقاومة والممانعة أمام شعبه، عمد إلى الخطة البديلة التي لم يكتف فيه بكسر المزراب،
بل عمد إلى تدمير الضيعة فوق رؤوس أهلها وتشريد من بقي منهم على قيد الحياة، وراح ينادي
مفاخراً بفعلته كما فعل أزعر الضيعة لكنه استبدل مقولة شمشون بمقولة نيرون منادياً
ومهدداً: ( أنا أو أحرق البلد ) ظاناً ان هذا العمل سوف يكسبه قلب الحبيبة، ولم يدر
في خلده أن الحبيبة هذه المرة لن تكتفي بالعتاب واللوم كما فعلت حبيبة أزعر الضيعة،
بل صممت أن تكسر رأسه وتكسر المزراب الذي يمده بالسلاح وأدوات التدمير ، ليكفّ عن الزعرنة،
وينقطع أمله نهائياً عن حبٍّ مستحيل!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق