رئيس الجمهورية
السورية الأول بين
(1943-1949 ثم 1955-1958) وزعيم سياسي نشط في الكتلة
الوطنية ثم
في الحزب الوطني. بداية نشاطه السياسي كانت في مقارعة السلطات
القائمة أواخر سوريا
العثمانية، ثم الانتداب
الفرنسي، وشارك في الثورة
السورية الكبرى فنفي
إلى أرواد وحكم بالإعدام ثم لجأ إلى السعودية،
حيث استمرّ في مقارعة الانتداب، ومجمل أحكام الإعدام التي حصل عليها ثلاثة غير أنه
نجا منها.
شارك
في حكومة الكتلة الوطنية الأولى عام 1936 بمنصب وزير الدفاع، قبل أن
يسطع اسمه مرشحًا لخلافة الأتاسي في رئاسة
الكتلة، وهو ما أوصله إلى سدة الرئاسة عام 1943؛ وقد استطاع الفوز
بمنصب الرئاسة مجددًا عام 1955. نالت سوريا في عهده استقلالها
التام، وعرف بميوله القومية
العربية، ومعارضته الوحدة
السورية وحلف بغداد، والتقارب
مع جمال
عبد الناصر الذي
أفضى إلى قيام الجمهورية
العربية المتحدة، غدا فيها القوتلي متمتعًا بلقب "المواطن
الأول".
اعتبر
القوتلي ذو شعبية، وعرف بقدراته على جمع توافق معظم القوى السياسية حول شخصه،
وبينما تركزت شعبيته في دمشق، كانت معارضته القوية في حلب؛ كما عرف عن
كراهية رجال الجيش له؛ إضافة لكونه أول من عدل الدستور لأجله. اتهم بتقويض النظام
الديموقراطي في سوريا، من خلال قبوله بتعديل الدستور ليتمكن من الترشح لولاية
ثانية عام 1948، فضلاً عن الأزمات الحكومية وتحميل الجيش مسؤولية الهزيمة في حرب فلسطين ما أدى إلى انقلاب حسني
الزعيم عام
1949، وتسليم البلاد لعبد
الناصر الموصوف بالشمولية وإقصاء التعددية
السياسية عام 1958، رغم أن الخطوات الثلاث كانت مدعومة شعبيًا. إلى جانب ذلك
كان عضوًا في المنتدى
الأدبي. عند
وفاته في بيروت عام 1967، نقل
جثمانه إلى سوريا لكنّ قيادة انقلاب
الثامن من آذار رفضت
القيام بجنازة رسمية له.
بدأ
القوتلي نشاطه السياسي باكرًا كمؤيد للكتلة الوطنية، ثم أحد أركانها، في وجه جماعة
الاتحاد والترقي الذين استولوا على الحكم في اسطنبول، ثم الانتداب الفرنسي على
سوريا، واضطر للهرب إلى البلدان المجاورة نتيجة أحكام بالإعدام صدرت بحقه خلال
فترة الانتداب لاسيّما الثورة السورية الكبرى، والتي برز خلالها كأحد الزعماء
الوطنيين، واشتهر بخلافه مع عبد
الرحمن الشهبندر. تولى
خلال رئاسة شكري القوتلي، أربعة عشر حكومة، وستة رؤساء للحكومات، وعلى الرغم من
كون الدستور السوري لاسيّما دستور
1950 قد
قلّص من صلاحيات رئيس الجمهورية، وجعل السلطة التنفيذية بيد رئيس الحكومة
والحكومة، إلا أن القوتلي كان ذو تدخل في شؤون الحكومة وموجهًا للوزراء خلافًا
لصلاحياته. فرغم كون النظام برلماني أساسًا، إلا
أن القرار كان "يصنع في القصر الجمهوري، لا في مجلس الوزراء، خلال سنوات
سلطته".
المؤرخ محمد كرد
علي،
يقول بأن القوتلي كان يضغط على رئيس الحكومة في اختيار وزراء بعينهم، وأنه كان
يحرص على نسج علاقات قوية مع مختلف الأطراف، وإقامة صداقة شخصية مع الوزراء. بعض
أصدقاء القوتلي حسب شهادة كرد علي، رشحوا لمناصب وزارية نظرًا لعلاقته الشخصية
معهم. الأمر ذاته يورده يوسف
الحكيم، فعلى سبيل المثال عيّن عادل العظمة "صديق
القوتلي الحميم" مديرًا عامًا لوزارة الداخلية عام 1943 بعيد انتخاب القوتلي
لولاية أولى، رغم استقراره في الأردن منذ 1920، بموافقة سعد الله الجابري رئيس
الوزارة.
هذه
العلاقة الجيدة - الشخصية أساسًا، لعبت دورًا هامًا في جعل القوتلي يترشح لولاية
ثانية ويفوز بأغلبية أصوات النواب رغم عدم تحقيق حزبه للغالبية، خلال الانتخابات
الرئاسية لعام 1956؛ وسوى ذلك، استطاع القوتلي تمرير قانون في البرلمان يجعل
المخصصات المالية لرئيس الجمهورية غير مساءل عن طرق إنفاقها من قبل البرلمان. على
صعيد العلاقات الداخلية ضمن الحزب، فقد شكل القوتلي مع سعد الله الجابري وفارس
الخوري ما أسمته الصحافة "الأقطاب الثلاثة" أو "ثلاثي الحكم"،
فبينما تفرّد القوتلي بالرئاسة، تتالى الجابري والخوري على رئاستي مجلس النواب
والحكومة؛ هذا "الثلاثي" أدى إلى خروج عدد من القيادات التاريخية من
الحزب، أمثال هاشم
الأتاسي الذي
تقارب مع حزب
الشعب، وجميل مردم الذي ترشح في
الانتخابات اللاحقة لانتخابات 1947 بوصفه مستقلاً.
بعد
وفاة الجابري عام 1947 وتقاعد الخوري في الخمسينات، بات القوتلي "القطب الأكبر"
داخل الحزب الوطني، وهو الاسم الذي اتخذته بقايا الكتلة عند إعادة تنظيمها؛ وظلّ
على الدوام رئيس الحزب والمسيطر على الجناح الأكبر فيه والداعم له والذي عرف باسم
"جناح القوتلي"، وكان داعمًا للقومية
العربية والنموذج
الناصري، ما جعله متحالفًا مع أحزاب مثل الحزب التعاوني الاشتراكي وحزب
البعث العربي الاشتراكي. وجهت
انتقادات للقوتلي تتعلق بالفساد وبيع مناصب الدولة، ووصف بأنه "قوي الثقة
بشركائه وزملائه أو شديد الضعف والعجز عن إخضاعهم"؛ كما انتقد في
قضية تعديل الدستور لتمرير انتخابه لمرة ثانية.
ولد
شكري القوتلي في دمشق عام 1891 من عائلة ثرية وكبيرة ذات أصل كردي، والده هو
محمود القوتلي أما والدته المنحدرة بدورها من عائلة دمشقية ثرية هي ناجية محمد عطا
القدسي. ثروة آل القوتلي جاءت أساسًا من العمل في إدارة الأراضي الزراعية والتجارة
أسوة بالعديد من العائلات الدمشقية. تلقى القوتلي علومه الابتدائية في
مدرسة الآباء اللعازريين، وانتقل منها إلى مدرسة عنبر ليتم دراسته
الثانوية، ثم انتقل إلى الكلية الشاهانيّة في إسطنبول حيث نال درجة
الليسانس في العلوم السياسية عام 1912؛ وخلال
دراسته فيها أطلق عليه زملاؤه لقب "الجمل" لصبره وتحمله؛ كما وصف
بالكرم والإسراف، وحسب محمد كرد علي فقد بدد جزءًا كبيرًا من ثروته في دعم القضايا
الوطنية.
بدأ
القوتلي حياته السياسية باكرًا عام 1910 وله من العمر عشرون عامًا بانضمامه إلى الجمعية
العربية الفتاة التي
دعت إلى تحرير العرب ووحدتهم ورفض سياسة التتريك التي تبناها الاتحاديون، وفي
الوقت ذاته انضم إلى المنتدى
الأدبي خلال الثورة
العربية الكبرى ضمن الحرب
العالمية الأولى، لجأ الحاكم العسكري على سوريا جمال باشا "السفاح"
إلى اعتقالات واسعة في صفوف مجموعات المثقفين السوريين البارزين، وكان القوتلي من
بين المعتقلين؛ أودع القوتلي في سجن خان الباشا في دمشق حيث تعرض للتعذيب والتنكيل
لحضه على الاعتراف بأسرار الحركة القوميّة، وحاول القوتلي الانتحار عن طريق قطع
شريان الوريد كي لا يفش بأي معلومات، كما كتب بدمه رسالة إلى جمال باشا؛ ولم يطلق
سراحه إلا بعد ورود رسالة من فيصل بن
الحسين لجمال
باشا، هدد فيها بالانتقام الفوري من الأتراك.
بعد
سقوط سوريا
العثمانية، شكل القوتلي مع الشخصيات العامة حزب الاستقلال العربي. ودعم حكم المملكة
السورية العربية، وفي عهد الحكومة الأولى عيّنه رئيس الوزراء علي
رضا الركابي بمنصب
مدير دائرة مراسلات رئيس الوزراء، واتجه الملك فيصل الأول لتعيينه
واليًا على دمشق، غير أن ذلك لم يحصل؛ فبنتيجة معركة
ميسلون، كان القوتلي ضمن ستين شخصية أحيلوا للمحكمة
العسكرية الفرنسية، التي أنشأها هنري غورو،
بعد حلّه المملكة، وبعد محاكمة قصيرة، كان القوتلي بين أربعًا وثلاثين شخصًا حكم
عليهم بالإعدام؛ غير أنّ معظمهم ومن بينهم القوتلي نفسه غادروا البلاد، وجرت
المحاكمات غيابيًا.
مكث
القوتلي في المنفى بين فلسطين ومصر وأوروبا مناصرًا للقضية السورية حتى عام 1924
حين تمكن من العودة إلى دمشق. وبعد عام في آب 1925 انطلقت الثورة
السورية الكبرى فكان
القوتلي من أوائل من دعمها، وانتقل مع عدد من القادة الوطنيين إلى السويداء،
وشارك في الاجتماع الذي عقد للمناداة بسلطان
باشا الأطرش قائدًا
عامًا للثورة السورية الكبرى، والتي طالبت بوحدة البلاد، والاعتراف باستقلالها،
والشروع بتنظيم انتخابات جمعية تأسيسيّة تضع دستورًا للبلاد يحقق سيادة الأمّة
والحرية والمساواة والإخاء لجميع السوريين. وفي 26 آب ألقي القبض على القوتلي وعدد
من الزعماء الوطنيين بينهم عبد
الرحمن الشهبندر وجميل مردم وآخرين، ونفوا
إلى جزيرة
أرواد. وبعد إطلاق سراحه، غادر القوتلي البلاد من
جديد لصدور حكم آخر بالإعدام عليه.
خلال
مرحلة اشتداد الثورة وامتدادها إلى دمشق وحمص وحماه، نظم القوتلي من المنفى حملة
تبرعات مالية وعينية شملت الأسلحة أيضًا للمناطق الثائرة، وذلك بالتعاون مع
المغتربين السوريين. قبل الثورة، كانت القوى الوطنية المعادية للانتداب تقسم إلى
مجموعتين، هما الاستقلاليين والشعبيين؛ وبعد خمود الثورة عاد التقسيم السبق
للظهور، وكان كلا الطرفان قد سُميّا "الوطنيين" خلالها. تحلّق
الاستقلاليون حول شكري القوتلي، والشعبيون حول عبد الرحمن الشهبندر، وبلغت
المنافسة بين الفريقين حد التراشق بالتهم كالعمالة لبريطانيا والفساد المالي
والسيطرة على ما يرسله المغتربون لدعم الثورة في الداخل؛ وقد تناقلت
الصحف والأوساط الشعبية أخبار هذه الاتهامات، التي ساعدت بشكل أو بآخر تعزيز شعبية
القوتلي. في 16 شباط 1926، صدر عفو عام عن جميع الجرائم المرتكبة خلال الثورة،
واستثنت منها سبعين شخصية منهم شكري القوتلي وعدد من القادة الوطنيين. وقد جاء
العفو بعد بداية حكم تاج
الدين الحسني وقبل
موعد انتخابات الجمعية التأسيسيّة، التي تمت أخيرًا عام 1928، والتي سبقها في
العام نفسه تشكيل الكتلة
الوطنية التي
كان القوتلي أحد أركانها، رغم بقائه خارج البلاد.
خلال
مرحلة كتابة الدستور
السوري دعم
القوتلي إعادة النظام الملكي إلى سوريا، سواءً من خلال مبايعة الملك فيصل بن
الحسين من
جديد، أو أحد أولاده، أو أحد أعضاء الأسرة
المالكة السعودية من
أبناء الملك عبد العزيز، إلا أنه فشل
في تحقيق ذلك. كان
القوتلي قد استقر في السعودية منذ عام 1926 وتوثقت علاقته مع الإدارة السعودية،
وبحسب أنيس الصائغ، فإن رغبة الملك فيصل السعود بملك سوريا أمر شائع ومعروف آنذاك،
إلا أن القوتلي قد نفى أن تكون صداقته مع الأمير فيصل تحمل في طياتها أي بعد
سياسي، كما أعرب في وقت لاحق عن تمسكه بالنظام الجمهوري. وحسب
باتريك سيل، فإنّ "صداقة القوتلي مع البيت الملكي السعودي ذات أثر حاسم في
عمله"، وهي صلة تقوّت بعد عمل عدد من أفراد أسرة القوتلي في التجارة داخل
المملكة.
في
عام 1930 أسقط حكم الإعدام عن القوتلي، واستطاع العودة إلى سوريا، وشارك في مؤتمر
القدس عام 1932، وكان من داعمي الإضراب
الستيني الذي قاده الشيخ المجهول (الشيخ أحمد الإمام) عام
1936، وترأس الكتلة الوطنية خلال غياب الأتاسي في باريس مع الوفد المرافق لإجراء المفاوضات حول اتفاق الاستقلال؛ ثم شارك في الانتخابات النيابية التي حصلت بعد التوصل للاتفاق، وفاز
بمقعد عن دمشق، وشغل منصب نائب رئيس المجلس عن تلك الدورة. وبشكل
عام فقد أفضت الانتخابات لفوز الكتلة الوطنية الساحق، انتخب على إثرها هاشم
الأتاسي رئيسًا للجمهورية وشكل جميل مردم الحكومة التي
شغل فيها القوتلي منصب وزير الدفاع وكذلك منصب وزير المالية؛ تعتبر هذه الحكومة
الأولى للبلاد السورية الموحدة كما هي عليه اليوم.
في
3 شباط 1937 كلّف مردم بك، وزير الدفاع القوتلي تسيير شؤون رئاسة الوزراء أثناء
غيابه للمفاوضات مرة أخرى في فرنسا، وساءت في أعقاب عودته سمعة الحكومة بعد تأخر
إقرار المعاهدة مع فرنسا من جهة، وشيوع أنباء عن فصل لواء
اسكندرون وضمه
إلى تركيا من جهة ثانية. وفي 15 كانون الثاني
1938 سافر القوتلي إلى السعودية لأداء مناسك
الحج، ولدى عودته تفاقمت الخلافات مع جميل مردم، وكذلك
السخط على السياسة الفرنسية وردة فعل الحكومة اتجاهها، فاستقال في 22 آذار 1938،
وبرر استقالته بكونها "لأسباب صحيّة".
في
عام 1939 استقال الأتاسي وعلّق العمل بالدستور، وكلّف بهيج
الخطيب رئاسة
الجمهورية؛ وفي 7 حزيران 1940 اغتيل عبد
الرحمن الشهبندر في
دمشق، الخصم الصلب للكتلة الوطنية، وقد حضر القوتلي الجنازة واتجه نحو قبر
"خصمه" حيث دعا جميع السوريين إلى التوحد والتضامن والعمل يدًا واحدة، رغم ذلك فقد اتهم أربعة من قادة الكتلة الوطنية
باغتياله ومن بينهم القوتلي، كما ذكر الشيخ المجهول (الشيخ أحمد الإمام) في
مذكراته أن القوتلي وسعد الله الجابري فاتحاه بالإعداد بموضوع اغتيال الشهبندر،
فرفض الشيخ هذا الموضوع جملة وتفصيلا. فهرب القادة الأربعة إلى العراق ثم إلى
السعودية، لعدم ثقتهم بالحكم العراقي آنذاك. خلال تواجده في بغداد، انخرط القوتلي
في "لجنة التعاون مع ألمانيا" تحت رئاسة أمين
الحسيني خلال الحرب
العالمية الثانية وضمت
في عضويتها عراقيين وفلسطينيين وسعوديين وكان القوتلي السوري الوحيد فيها، وكانت
نشاطاتها الأساسية ممالأة للنازية ومعاداة
للسامية. ومن ثمّ ظهرت براءة الكتلة من حادثة الاغتيال فعاد
القوتلي من جديد إلى سوريا مع رفاقه، غير أن القضية ساهمت في نمو شعبية القوتلي
بشكل كبير، وخولته قيادة الكتلة الوطنية في المرحلة اللاحقة، لاسيّما
بعد دوره القيادي في احتجاجات
1941، حيث قاد سلسلة مظاهرات حاشدة، ثم تولى مفاوضة
المندوب الفرنسي نيابة عن جماهير المحتجين، وقال أن مطالب الشعب هي إقالة وزارة الخطيب، والتصديق على معاهدة 1936،
وإصدار عفو عام، وإلغاء رقابة الصحف، والعمل على معالجة الآثار الاقتصادية للحرب
العالمية الثانية خلال
الاحتجاجات، حضرت السلطات الفرنسية "المؤتمر السياسي السوري الشامل"
الذي كان القوتلي قد دعا لعقده في دمشق؛ وفي 15 آذار 1941 استقال الخطيب بناءً على
طلب المندوب الفرنسي، غير أن سائر طلبات الكتلة لم تتحقق بعد
خمود الاحتجاجات، سافر القوتلي إلى سويسرا كمنفى اختياري
حتى ربيع 1942، وعاد في ظل حكم الشيخ
التاج، وبعد وفاة هذا الأخير في كانون الثاني 1943،
اقترح المندوب الفرنسي على القوتلي ثم الأتاسي رئاسة حكومة مؤقتة، غير أنهما رفضا
العرض فشكلها عطا
الأيوبي. ترأس
القوتلي خلال الحرب أيضًا لجنة جمع التبرعات لدعم العراقيين خلال ثورة
رشيد عالي الكيلاني ضد
الإنكليز، والحكم الهاشمي في العراق.
نودي
بسوريا المستقلة عام
1941، ونظمت الانتخابات النيابية عام 1943 وفازت بها الكتلة الوطنية فوزًا
ساحقًا. خلال لقاء خاص في حمص ضم هاشم الأتاسي وفارس الخوري وشكري
القوتلي، اتفق على ترشيح القوتلي لمنصب الرئاسة نظرًا لتقدم الأتاسي في السن،
والمسؤوليات الخطيرة خلال مرحلة استلام السلطة من فرنسا. وافق
الأتاسي، زعيم الكتلة الوطنية على ترشيح القوتلي، الذي فاز بما يشبه الإجماع في 17
آب 1943 بمنصب رئيس الجمهورية. بعد
ثمانية أيام فقط من اعتلائه سدة الرئاسة، أرسل القوتلي بالاتفاق مع بشارة
الخوري ورياض
الصلح رئيسي
الجمهورية والحكومة في لبنان، وثيقة مكتوبة إلى الممثلية الفرنسية للمطالبة بتفعيل
الاستقلال، ذلك يتم بإلغاء اعتبار الفرنسية لغة رسمية، وتحويل "الممثلية
الفرنسية" إلى بعثة دبلوماسية عادية، وإلغاء المادة 116 من الدستور السوري،
التي جعلت من صك الانتداب مادة فوق الدستور. غير أن الممثلية الفرنسية بعد اجتماع
استثنائي عقد مع شارل ديغول
في الجزائر، رفضت الاقتراح، ودعت للتفاوض حول اتفاقية جديدة شبيهة بمعاهدة العام
1936. ولم يتم إلغاء المادة 116 من الدستور إلا ما بعد الجلاء عام 1946.
أول
أعمال الرئيس الجديد أيضًا، كانت إيفاد رئيس الوزراء سعد الله الجابري، ووزير
الخارجية جميل مردم إلى مصر بناءً على دعوة النحاس
باشا، لعقد اجتماع عربي مشترك، كان من الخطوات
التمهيدية لقيام الجامعة العربية.
قامت
الحكومات السورية المتعاقبة خلال عهد القوتلي، بعدة خطوات بارزة، أهمها محاربة
غلاء المعيشة والتضخم الذي رافق الحرب
العالمية الثانية، والتضامن مع لبنان الذي اعتقل فيه رئيس الجمهورية المنتخب
بشارة الخوري ورئيس الوزارة رياض الصلح، واستلام إدارة المصالح المشتركة وطنيًا
بدلاً من الانتداب، وتشمل المصالح المشتركة، الأمن العام والجمارك والسكك الحديدية
وشؤون العشائر ومراقبة المطبوعات ووسائل الإعلام والشركات ذات الامتياز، وعقد أول
اتفاق تسليح في تاريخ البلاد الحديث مع بريطانيا لتسليح الشرطة السورية بالبنادق
والمصفحات، ورغم نقل المصالح المدنية للحكومة السورية، فإن المصالح العسكرية ظلت
خاضعة لفرنسا. قامت
الحكومة أيضًا بإعلان الحرب على ألمانيا واليابان في 26 شباط
1945، وشاركت في مؤتمر سان
فرانسيسكو في
31 آذار 1945 والذي مهد لتأسيس الأمم
المتحدة؛ وكذلك شاركت في لقاء الإسكندرية يوم 7 تشرين أول
1944، والذي مهد لتأسيس جامعة
الدول العربية في 22 آذار 1945. وإلى جانب سعد
الله الجابري الذي
عهد إليه بتشكيل حكومة عهد القوتلي الأولى في 17 آب 1943، فإنّ القوتلي عيّن فارس
الخوري رئيسًا
للوزراء منذ 14 تشرين أول 1944.
في
26 أيار 1945 رفض البرلمان ثلاث اتفاقيات مع فرنسا لمخالفتها مصالح البلاد، وشهدت
دمشق في أعقاب جلسة مجلس النواب مظاهرات حاشدة تدعم مقررات النواب وتطالب بإنهاء
الانتداب بكافة صوره، وأعقب هذه المظاهرات إضراب طلاب المدارس والمعاهد والجامعات،
ولم تتوقف المظاهرات والأعمال المعبرة عن النقمة على الانتداب كإحراق الكتب
الفرنسية في الأيام التالية. أنزلت قوات فرنسيّة سنغاليّة في دمشق، واحتلت ساحات
العاصمة. وفي 29 أيار، قبيل موعد جلسة البرلمان، قصفت دمشق بالمدافع الثقيلة،
واستهدف القصف أحياءً سكنية. فضلاً عن الاعتداء على مجلس
النواب وقتل ثلاثين شرطيًا من حامية المجلس واحتلال المبنى؛ وكذلك احتلال قلعة دمشق التي اتخذها
الفرنسيون مقرًا لعملياتهم.
لجأ
القوتلي إلى قصر خالد العظم في سوق ساروجة،
في حين غادر سعد
الله الجابري رئيس
مجلس النواب إلى بيروت بسيارة بطريرك
روسيا والذي
كان يزور البلاد؛ أما رئيس الوزارة الخوري فكان في زيارة رسميّة إلى الولايات
المتحدة. في
31 أيار 1945، تدخلت بريطانيا وأوقفت القصف
الفرنسي، غير أن المظاهرات وتخريب المصالح الفرنسية كان قد امتدّ ليشمل المدن
السورية الأخرى أكبرها في حمص وحلب واللاذقيّة. دعت بريطانيا إلى مفاوضات ثلاثية
في لندن؛
وبنتيجة المفاوضات الثلاثية، رفعت القضية إلى مجلس
الأمن الدولي الذي
أقرّ في شباط 1946 إنهاء الانتداب رسميًا وجلاء القوات الفرنسية عن كافة الأراضي
السورية، وهو ما تم في 17 نيسان 1946، الذي غدا اليوم
العيد الوطني لسوريا.
كان
الولاء لوحدة سوريا
الكبرى منذ
أن أقيمت المملكة
السورية العربية، أحد المواضيع التي واجهت النظام
الجمهوري الناشئ في البلاد، وغدا أكثر جدية وشعبية منذ 1947 حين تبناه الملك عبد
الله الأول على
أساس وحدة التاج الهاشمي. وقد شكل المشروع الذي عارضه القوميون العرب، ومنهم
القوتلي، أحد مضامين السياسة العربية في تلك المرحلة فبينما دعمت مصر والسعودية
الاستقلال، دعمت العراق والأردن الوحدة تحت التاج الهاشمي؛ وهو ما تردد صداه في
الحياة الحزبية السورية، وقد كان لهذا الصراع الإيديولوجي تأثير بالغ على المشاعر
الوطنية. قال القوتلي للحكومة في جلسة عقدتها
بناءً على طلبه ومخصصة لشجب مشروع سوريا الكبرى علانية: "يجب الاحتجاج
بالإجماع، على المشروع الذي يخفي وراءه المطامع الفردية والمخططات الصهيونية،
والارتباطات التي تهدد استقلال سوريا، وسيادتها، ونظامها الجمهوري".
واجهت
سوريا ونظامها بعد الاستقلال تحديات خطيرة، تمثلت بالأزمات الاقتصادية، إذ ارتفعت
تكلفة المعيشة 500% عن عام 1939، وجلاء الفرنسيين أفضى إلى جعل جميع العمال في
القواعد والمصالح الفرنسية عاطلين عن العمل؛ ودعم الحكومة للنظام الإقطاعي رغم
كونه جائرًا بحق الفلاحين، دفع أعدادًا متزايدة منهم لترك الريف باتجاه المدن، ما
أدى إلى التضخم وازدياد الفقر والبطالة. وسوى ذلك، فإن تكاليف التمثيل الخارجي
والأمن الداخلي وبناء الجيش، قد أثر سلبًا على التنمية الاقتصادية من جهة وأدى إلى
رفع الضرائب على الدخل من جهة ثانية.
كما
أن سيطرة الكتلة الوطنية على مجلس النواب والحكومة، قد جعل أي رقابة على العمل
الحكومي شبه مستحيل؛ واتهمت الصحافة القوتلي ورئيس وزرائه الجابري بتعيين وترقية
مقربين منهم في المناصب الحساسة؛ كما أن اتهامات بالفساد طالت أركان الكتلة
الوطنية وأدائها الحكومي. حتى الحريات السياسية نفسها، مرر القوتلي عددًا من
التشريعات التي وصفت بكونها "ذات نفس ديكتاتوري" ومنها قانون الطوارئ،
وقانون حظر الجمعيات الأجنبية، وقانون ترخيص الأحزاب، وقانون مراقبة الصحف
والمطبوعات، المكتبات ودور السينما والمسارح، وإمكانية إغلاقها، واعتقال أصحابها
في حال مسّ هيبة الدولة أو الجيش أو أثر سلبًا على علاقات سوريا مع الدول الأخرى؛
وعلى سبيل المثال فإن انتقاد صحيفة
النضال لوزير
الداخلية صبري
العسلي أدى
لإغلاقها بعد أيام قليلة. كذلك، كما مرر القوتلي قرار إعدام سلمان المرشد (الذي
ادعى الربوبية) وسميت الطائفة التي آمنت به واتبعته بالطائفة المرشدية، (وأصبحت
هذه الطائفة ذات قوة وشكيمة بعد عام 1970 بتسلم حافظ الأسد رئاسة الجمهورية عقب
انقلاب غادر على رفاقه البعثيين، وشكلت العمود الفقري لقوات سرايا الدفاع التي
شكلها رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد). كما
اعتبر القوتلي مسؤولا عن أحداث
السويداء الفاشلة
لكسر نفوذ آل الأطرش، والتي انتهت بفشل "الشعبيين" المدعومين من
القوتلي.
في
أواخر 1946، أجريت انتخابات فرعية ونقابية في حلب، أفضت إلى خسارة مرشحي الكتلة
الوطنية المدعومين من القوتلي، ما يفسر حالة السخط الشعبي على أداء حكومته. تزامن ذلك، مع تزايد الانشقاقات عن
الكتلة، وتشكيل حزب
الشعب بقيادة ناظم
القدسي ورشدي الكيخيا والذي اعتبر أكبر حزب معارض للكتلة
الوطنية ونظام القوتلي، إلى جانب كون نقابات العمال التي تكاثر تشكيلها خلال تلك
الفترة عارضت القوتلي أساسًا. أثر
تراجع شعبية الكتلة سلبًا على العلاقة بين القوتلي ورئيس الوزراء سعد الله الجابري
مع تزايد الانتقادات له حتى من داخل الكتلة نفسها، فاستقال في 23 تشرين الثاني،
وكلف جميل مردم تشكيل الحكومة، فجاءت حكومة وحدة وطنية قبيل الانتخابات. بعد
استقالة الجابري من الحكومة، استقال أيضًا من الكتلة الوطنية، وألّف حزبًا خاصًا
به أسماه الحزب الجمهوري العربي.
تعتبر
الانتخابات النيابية التي جرت في تموز 1947 هامة في التاريخ السوري؛ فللمرة الأولى
اتجه الناخبون على أساس مطالب اجتماعية-اقتصادية وليس على أساس سياسي متمثل
بمقارعة الانتداب. كما أنها أول انتخابات تجري على أساس نظام الدرجة الواحدة بدلاً
من نظام الدرجتين، تحت ضغط الشارع، إذ كانت الكتلة الوطنية والتي تزايدت
الانشقاقات عنها، تسعى للحفاظ على نظام الدرجتين.
خسر
القوتلي والحزب الوطني في حلب وحماه ونصف حمص، في حين فاز في دمشق - رغم قوّة
التحالف المقام ضدّه والمتمثل باتحاد علماء الشام وحزب الشعب والقوى العمالية
والاشتراكية - ودرعا والسويداء. النتيجة العامة كانت خسارة الكتلة الوطنية
الأغلبية النيابيّة لكنها مكنت الحزب المتصدر بأربعة وعشرين نائبًا يليها حزب
الشعب بعشرين نائبًا. وعلى الرغم من المصاعب التي واجهها في التأليف، فإن جميل
مردم استطاع تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات في 12 تشرين أول 1946 جمعت أعضاءً
من حزب الشعب والحزب الوطني.
بعد
الانتخابات النيابية، بحث تعديل الدستور بهدف انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة بدلاً
من المجلس النيابي، غير أن المشروع قد أجهض؛ خلال الدورة الاستثنائية ذاتها وافق
89 نائب على تعديل المادة 68 من الدستور والتي تحدد ولاية الرئيس بدورة واحدة، على
أن يعود له الحق بالترشح بعد مضي ولاية كاملة أخرى. وأقرّ التعديل رسميًا في 30
آذار 1948. التبرير جاء، بأنه مع تصاعد قضية فلسطين فإنه يجب تجنب رئيس وإدارة
جديدة لتتمكن البلاد من التفرغ لموجهة الخطر المحدق بفلسطين؛ ومن جهة ثانية دافع
بعض النواب أن القوتلي هو الشخص الأجدر لقيادة تلك المرحلة؛ في حين وجد البعض أن
القوتلي استطاع رسم علاقات جيدة مع جميع الدول العربية، في حين أن انتخاب رئيس
جديد، قد يسبب انقسامات بين محوري السعودية - مصر من جهة والعراق - الأردن من جهة
ثانية، ما ينعكس سلبًا على الوضع الداخلي. رجح هذا الرأي، مدعومًا بوفاة سعد الله
الجابري كبير معارضي تعديل الدستور لترشح القوتلي وأكثر رجال الكتلة شعبية في حلب،
وانتخب القوتلي في 18 نيسان 1948 على أن تبدأ ولايته الثانية في 17 آب 1948.
وبرأي باتريك سيل، فإن التعديل الدستوري الذي أجراه القوتلي لتمديد حكمه، أعاق
حركة الإصلاح حين كان ذلك ممكنًا، وأسهم في انهيار النظام البرلماني السوري -
بانقلاب الزعيم - بعد أربعة أشهر.
منذ
صدور القرار الدولي بتقسيم فلسطين في تشرين الثاني 1947، كانت فلسطين
القضية الأولى في الشارع السوري. رفعت الضرائب، وأعلنت حالة الطوارئ، واستقال عدد
من الضباط لتشكيل جيش التحرير العربي؛ وفي فبراير 1948 وقع القوتلي اتفاقية
التعاون السياسي والعسكري العربي، وكان مؤتمر بلودان قد انعقد
برئاسته في أيلول 1946، وفي
11 أيار 1948 عقد اجتماع الجامعة العربية على مستوى القمّة في دمشق، وأعطى القوتلي
الأمر بدخول الجيش السوري إلى فلسطين في 16 أيار، أي بعد يوم من إعلان دولة إسرائيل،
واعتبر جميل مردم رئيس الحكومة، أن النصر قادم خلال "بضع أيام".
في
آخر أيار 1948 قبل القوتلي استقالة وزير الدفاع أحمد الشرباتي؛ لكنه رفض طلب 87
نائبًا بدعوة البرلمان لدورة استثنائيّة؛ وفي آب خلال الهدنة الثانية بين العرب
وإسرائيل، انتقل القوتلي إلى مقره الصيفي في الزبداني،
وأدى القسم الثاني في 17 آب، وعهد إلى جميل مردم تشكيل الحكومة. أخذت الحكومة تضيق
على الحريات العامة، واعتقل ميشيل عفلق وعدد من
القادة اليساريين، وخلال جلسة البرلمان لمناقشة بيان الحكومة حصلت معارك واشتباكات
بالأيدي بين النواب. كما دعا القوتلي قادة الأحزاب والكتل السياسية إلى القصر
الجمهوري للتباحث حول تشكيل حكومة وحدة وطنية لكنه فشل، تزامنًا مع
حظر القوتلي الحزب
الشيوعي السوري لعلاقة
الاتحاد السوفياتي بإسرائيل، على الرغم من العلاقة الطيبة التي جمعت القوتلي مع
الشيوعيين خلال الأربعينات والتي ستعود خلال ولايته الثانية.
عمّت
البلاد مظاهرات وإضرابات مع الذكرى السنوية الأولى لصدور قرار التقسيم، أدت إلى
استقالة الحكومة وإعادة تفعيل حالة الطوارئ وإخضاع البلاد للأحكام العسكرية وإغلاق
المدارس في 3 كانون أول 1948؛ وبعد 12 يومًا من الأزمات الحكومية تمكّن خالد العظم من تشكيل
حكومة القوتلي الأخيرة في عهده الأول.
لم
تستطع حكومة خالد العظم حل الأزمة السياسية في البلاد، بل زادت الوضع سواءً بعد
اتفاقية التابلاين والاتفاقية
النقدية مع فرنسا، واللتين وصفتا بأنهما إمبرياليتين وممالأتين للغرب. كما برز اسم
قائد الجيش حسني
الزعيم كمنقذ
للبلاد ومخلّص من الأزمة. ورسم الزعيم، بعد جلسة نيابية مغلقة تعرض فيها الجيش
لانتقادات لاذعة، مع عدد من الضباط، لانقلاب عسكري من القنيطرة؛
ورغم أن القوتلي سمع بأنباء عن التخطيط للانقلاب، إلا أنه لم يعر القضية اهتمامًا.
فجر
30 آذار 1949، طوقت وحدة من الجيش القصر الجمهوري، واعتقلت القوتلي وكان حينها في
المشفى يعالج من قرحة في المعدة ومرض في القلب، ونقلته قيادة الانقلاب إلى مشفى
المزة العسكري، وأعلنت حالة الطوارئ في البلاد وقيام قيادة الجيش بتحمل مسؤولية
قيادة البلاد. في 6 نيسان، نشر كتاب استقالة القوتلي موجهًا للشعب السوري، وكان
نصّ الاستقالة مكتوبًا بخط يد القوتلي نفسه منذ 30 آذار، بوساطة من فارس
الخوري إذ
كان القوتلي رافضًا الاستقالة وأصرّ على المقاومة "ما دامت في عروقي
دماء" وقد
ورد في وثائق دبلوماسية لسفارات غربية أن الولايات المتحدة وبريطانيا قد تدخلتا
لمنع الزعيم من تصفية القوتلي، وبرر
الزعيم انقلابه في البيان الأول، بأنّ القوتلي "سرق خزينة الدولة، وتواطأ على
الفساد الذي أدى إلى تبذير الأموال العامة، وانتهاك القوانين وهدر مصالح
الأمة". أطلق القوتلي في منتصف نيسان،
وصودرت أملاكه وأملاك ابنه، ونفي إلى خارج البلاد فاختار الإسكندرية في مصر،
مقرًا له. وقد قيل في رواية غير محققة، أن الزعيم أمر بأن يطاف بعيد الانقلاب،
برئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في مدينة دمشق داخل عربة مدرعة ليريا بنفسيهما
الشعب وهو يبتهج في الشوارع بخلعهما.
بعد
انقلاب الزعيم بفترة وجيزة، اتهمت الأردن القوتلي
بمحاولة اغتيال الملك عبد الله الأول من خلال تجنيده أربع سوريين لزرع قنابل في
طريق سيسلكها الموكب الملكي، رئيس المجموعة حسب السلطات الأردنية هو محمد هندي
المفتش العام للشرطة السورية سابقًا والذي كان قد اعتقل مع القوتلي لفترة قصيرة
بعد الانقلاب؛ كما اتهم أمين الحسيني.
أحيل
القوتلي إلى المحاكمة غيابيًا غير أن القضاء صرف النظر عنه "لانعدام
الأدلة" وكذلك الحسيني، أما المجموعة المؤلفة من أربعة أشخاص فقد أدينت،
وبحسب أندرو راثميل فإنّ "المخابرات المصرية، قد تكون لعبت دورًا ما في
التخطيط، نتيجة العلاقة الحميمة بين نظام القوتلي ومصر". بعد خلع الزعيم،
وتشكيل حكومة الأتاسي على
أساس الوحدة الوطنية، مثل الحزب الوطني بشكل ضعيف في الحكومة بحقيبة وزير الدولة،
لاسيّما أنّ انقلاب الحناوي قام ضد
التقارب المصري خلافًا للقوتلي والحزب الوطني عمومًا، وقد قاطع الحزب الوطني انتخابات الجمعية التأسيسية لكتابة دستور بناءً على طلب القوتلي، خلال تلك المرحلة سرت معلومات حول
انقلاب عسكري مدعوم من أنصار القوتلي في القاهرة والرياض يؤسس لعودته إلى السلطة،
بكل الأحوال فإن سرعة الانقلاب الثالث بقيادة أديب الشيشكلي، والصلة الطيبة
له مع نظامي القاهرة والرياض قد دفع لتعليق المشروع.
خلال
خطوات هاشم الأتاسي الوحدوية مع العراق تحت مشروع وحدة الهلال
الخصيب، وجه القوتلي من منفاه في الإسكندرية خطابًا للشعب
يعلن فيه معارضته لأي وحدة على أساس الهلال الخصيب؛ وبكل الأحوال فإن
انقلاب أديب
الشيشكلي قد
أجهض المشروع. لم تكن علاقة القوتلي مع سلطة الشيشكلي جيدة، وبعد خلع الشيشكلي عام
1954، وجه القوتلي تهانيه للحكومة الجديدة والرئيس هاشم الأتاسي. في 9 نيسان
1954 زار وفد سوري مؤلف من رجال دين مسلمين ومسيحيين القوتلي ودعوه للعودة، فردّ
خصومه بمظاهرات حاشدة في المدن السورية، فعاد يوم 7 آب 1954 قبيل موعد الانتخابات
الرئاسية عام 1955 أراد القوتلي العودة إلى سوريا، ونظم أنصاره وأنصار الحزب
الوطني استقبالاً حاشدًا؛ ودعا لعقد مؤتمر في منزله يوم 3 أيلول غير أن المؤتمر
المذكور لم يفض إلى نتائج هامة.
كانت
نتائج الانتخابات التشريعية لعام 1954 صادمة بالنسبة
للأحزاب التقليدية سواءً حزب الشعب أو الحزب الوطني برئاسة القوتلي. تراجع الحزب
الوطني برئاسة القوتلي من المركز الثاني إلى المركز الثالث، وحافظ حزب الشعب على
المركز الاول لكن تمثيله انخفض من 40% إلى 24% مقابل صعود قوى اليسار لاسيمّا حزب
البعث، الذي حقق المركز الثاني.
هذا
الواقع الشعبي دفع الأحزاب التقليدية الخاسرة في الانتخابات، وبشكل أخص الحزب
الوطني، العدول عن سياستها والاقتراب من الدولة الاجتماعية وتدخل الدولة في الحياة
الاقتصادية، كما دفعها للتعاون مع بعضها البعض نابذة خصومتها القديمة. هذا التعاون
بين خاسري الانتخابات، دفعهما لترشيح شكري القوتلي، فتم انتخابه عام 1955 رئيسًا،
وبحسب رأي المؤرخ غودرن توري، أثبت الحدث قصور النظام الديموقراطي السوري واعتماده
على العلاقات العائلية والشخصية سيّما فيما يخصّ انتخابات رئيس الجمهورية. أول حكومة في
ولاية القوتلي الثانية كانت برئاسة سعيد الغزي وشملت أعضاء
من الحزب الوطني وحزب الشعب، أي الأحزاب التي خسرت في الانتخابات.
وقف
القوتلي ضد حلف بغداد والتحالف
التركي العراقي، وكان يريد اتفاقًا شبيهًا بحلف بغداد يعقد بين مصر والسعودية
وسوريا؛ سياسة القوتلي العروبيّة قربته من حزب البعث ومكنته من كسب تأييد القوى
القومية العربية، وبشكل خاص اكتسب البعث أهمية خاصة لارتفاع عدد الضباط المنتمين
لفكره. كذلك
فإنّ اغتيال عدنان
المالكي، وهو ضابط بعثي، على أيد أعضاء من الحزب السوري القومي الاجتماعي،
شكل القضية الأساسية في السياسة السورية خلال عام 1955. قاد البعث حملة ضغوط على
النظام، دفعت لاستصدار قرار بحل الحزب واعتقال قادته وفصل الضباط الممالئين له من
الجيش، لاحقًا اكتشفت الحكومة - كما زعمت - مخططًا لانقلاب عسكري يقوم به قوميون
سوريون بالتعاون مع السفارة الأمريكية، وبهدف إعادة أديب الشيشكلي إلى السلطة.
هذه
الخطوة التي وصفها بعض المؤرخين أمثال توري بأنها كاذبة وملفقة، كان لها آثارًا
عميقة على السياسة السورية والمزاج الشعبي: أولها الاقتراب من الفكر الناصري من
بوابة القومية العربية، وثانيها "خلق عدو" ممثل بالإمبريالية العالمية
التي تتزعمها الولايات المتحدة ما يدفع حكمًا للتحالف والتقارب من الاتحاد
السوفياتي والكتلة
الشرقية، وثالثها تحوّل المعارضة التي شكل البعث عمادها
الرئيسي إلى ما يشبه حكومة ظل تسيّر قرارت القوتلي وحكومته.
أول
ثمار هذا التحول، كان التوقيع على صفقة أسلحة ضخمة وبأسعار مخفضة مع تشيكوسلوفاكيا في كانون
الثاني 1956؛ تبعتها في تشرين أول اتفاقية ثانية حول تبادل القطن والمنسوجات وزيت
الزيتون مع بولندا، ثم تبادل العلاقات الدبلوماسية مع الصين ورومانيا وكلاهما
واقعتان تحت حكم شيوعي – اشتراكي. على
صعيد السياسة العسكرية، فإنّ 68% من الموازنة السورية لعام 1955 كانت مخصصة للجيش،
وفي 20 تشرين أول 1955 حقق القوتلي أحد مشاريعه القديمة بتوقيع اتفاقية الدفاع
المشترك بين سوريا ومصر، والتي كان من بين بنودها إنشاء قيادة مشتركة للحرب ومجلس
دفاع مشترك. في
العام نفسه، أشهر القوتلي اتفاقًا للدفاع المشترك مع لبنان.
في
6 آذار 1956، كان القوتلي يعقد مع الملك
حسين والملك سعود
بن عبد العزيز وجمال
عبد الناصر قمّة في عمان تبعتها قمة أخرى بين القوتلي والملك
حسين في 11 نيسان 1956، نجح القوتلي فيها من تحييد الأردن عن حلف بغداد، وتوقيع
اتفاق للتعاون العسكري بين البلدين في حال العدوان الإسرائيلي على أحدهما، لكنه
فشل في إقناع القيادة الأردنية التحول نحو الكتلة الشرقية - الناصرية، وفضل تحالفه
مع بريطانيا. وكمكافأة لجهود القوتلي، قدّم ناصر في 17 أيار مبلغًا ماليًا كبيرًا
كتبرع للجيش السوري.
أراد
القوتلي تحقيق تقارب بين الأحزاب السورية المختلفة ودعا إلى اجتماع لتوقيع
"الميثاق الوطني" عام 1956 والذي جاءت أفكاره تعكس أراء تلك المرحلة
برفض الإمبريالية والصهيونية والسلام مع إسرائيل، وتقوية الجيش والتسلّح الشعبي وعدم
استقلال العرب والتعاون الوثيق مع مصر والحياد الإيجابي في الحرب
الباردة ومساعدة
الأردن. شهدت تلك المرحلة انقلابًا هامًا في التحالفات، فالقوتلي الذي وصل إلى
الرئاسة بتعاون الحزب الوطني - حزب الشعب، انقلب على حزب الشعب بشكل نهائي
متعاونًا مع البعث. وعند استقالة الغزي من رئاسة الحكومة في حزيران 1956 كلّف
القوتلي لطفي
الحفار ثم
عاد واعتذر نتيجة اعتراض البعث، فكلّف صبري العسلي، والذي استطاع تشكيل حكومة
الوحدة الوطنية بناءً على رغبة القوتلي ذاته.
سرعان
ما دبّ الخلاف بين القوتلي والبعث وحكومة الوحدة على خلفية قيام وزير الدفاع عبد
الحسيب رسلان بفصل محمد شقير وعبد
الحميد السراج وكلاهما
من كبار ضباط الجيش، ما استدعى قيام البعث بضغوط لإعادتهما. الحكم النهائي في قضية
المالكي صدر في الفترة ذاتها بإعدام ثلاثة من القوميين السوريين، غير أنه بموجب
الدستور لا يمرّ حكم الإعدام دون توقيع الرئيس، والذي وجد نفسه في مأزق، فإن وقّع
عاداه قسم من الجيش والقوى المعادية للناصرية، وإن لم يوقع عاداه قسم من الجيش
والبعث وسائر حلفاؤه. وكلاهما طرفا حكومته، وكلاهما يهددان بانقلاب عسكري، أو حتى
محاولة اغتيال الحزب السوري القومي كبار معارضيه.
هدد
البعث على خلفية القضية بالاستقالة، وهدد القوتلي أيضًا بالاستقالة، بل ذهب البعض
أنه كتبها دون أن يوقعها، أخيرًا في 3 أيلول 1956 مرر القوتلي حكم الإعدام رميًا
بالرصاص على اثنين من المدانين، في حين قضى الثالث حياته في السجن. فشل حكومة الوحدة، جاء بتشكيل جهة معارضة لحكم القوتلي، ضمت حركة
التحرر العربي وحزب
الشعب وبعض المستقلين. في 31 أيلول 1956
شكل صبري العسلي حكومته الثانية، واعتبرت أقوى من الأولى، وضمت البعث والوطني
وكتلة خالد العظم.
كان
من نتيجة العدوان
الثلاثي على
مصر وأزمة قناة
السويس خلال
فترة 1956 - 1957، نتائج بالغة الأثر على سوريا، فأعلنت حالة الطوارئ بموجب
اتفاقية الدفاع المشترك، وتفشت في سورية شعبية عبد الناصر، وهوجمت المصالح
العراقية التي تمثل "الرجعية العربية"، وساءت العلاقات مع لبنان تحت حكم كميل شمعون. نهاية حكومة الوحدة الوطنية ولّد حكومة
أكثر يسارية قائمة على تحالف البعث - القوتلي - العظم، ونصّ بيانها الحكومي للمرة
الأولى على إقامة وحدة فيدرالية مع مصر.
خلال
عام 1957 أعلن الرئيس الأمريكي آيزنهاور مشروعه الشهير
الخاص بدعم دول الشرق الأوسط لمحاربة الشيوعية، غير أن حكومة العسلي رفضته. وكان
القوتلي قام بين 30 تشرين أول و4 تشرين ثاني 1956 بأول زيارة لرئيس سوري للاتحاد
السوفياتي أتبعت
بأضخم سلسلة اتفاقات اقتصادية وعسكرية بين سوريا والكتلة الشرقية. أخذ الملك سعود
ينعطف بعيدًا عن التحالف مع جمال عبد الناصر، وأراد القوتلي زعامة اليسار السوري
متخطيًا البعث، فقام بالتعاون مع رئيس الوزارة وقائد الجيش، بنقل مئة من كبار
الضباط المحسوبين على البعث من مواقعهم وعلى رأسهم عبد الحميد سراج الذي نقل إلى
القاهرة ونبيه الصباغ الذي نقل إلى عمان. باستثناء السراج، رفض الضباط قرار نقلهم،
ورفض كذلك خالد العظم وزير الدفاع المتحالف معهم، وأصدر مرسومًا بفصل قائد الجيش
المحسوب على القوتلي؛ فتوترت العلاقة بين القوتلي وحليفيه البعث والعظم، ودخلت
البلاد في أزمة سياسية عسكريّة، كانت وساطة مصريّة كافية بحلها.
في
منتصف حزيران هاجم العظم القوتلي ووصفه بأنه رجعي وعميل للإمبريالية ضمن انتقادات
أخرى وجهت إلى ملكي السعودية والأردن، ما تسبب بأزمة دبلوماسية مع السعودية. وفي
13 آب 1957، رفضت الحكومة عرضًا أمريكيًا بتقديم 400 مليون دولار، أي أربع أضعاف
حجم موازنة الدولة السورية، مقابل السلام مع إسرائيل وكسر الحلف مع ناصر، كما
أعلنت إذاعة دمشق في الوقت ذاته إحباط مؤامرة أمريكية للانقلاب على حكم القوتلي
وأرسلت مصر قوات إلى سوريا وإلى ميناء اللاذقية في 11 أيلول بعد توتر العلاقات بين
سوريا وتركيا،
التي هددت بغزو سوريا نفسها وضم حلب،
متهمة نظام القوتلي بتهديد الأمن القومي التركي من خلال تحالفه مع الاتحاد
السوفياتي.
في
تشرين أول 1957 بدأت المفاوضات حول الوحدة، وفي 9 كانون الأول 1957 طرح ميشيل عفلق تصوّر البعث للاتفاق
مع مصر، وكانت المفاوضات سريعة للغاية، وأشبه بالاندماج بالنظام الناصري دون
تعديل، فقبل القوتلي مكرهاً حل الأحزاب والتخلي عن اقتصاد السوق المفتوح وقيام
نظام جمهوري
رئاسي يمنح
ناصر أغلب الصلاحيات. وفي 21 شباط نظم استفتاء شعبي على الوحدة، فصدرت
نتيجة بموافقة 99.80% من سوريا، وكانت قريبة من نتيجة مصر التي قبلت الوحدة بنسبة
99.99%؛ خصوصًا أن أغلبية حلب وأكثرية حمص كانتا ضد الوحدة ونحو 60 من أصل 140
نائبًا عارضوها. وفي اليوم التالي، أعلن القوتلي نتيجة الاستفتاء، متنازلاً عن
الرئاسة بعد أن حاز من ناصر على لقب المواطن العربي الأول.
فكّ
الجيش السوري بانقلاب في 28 أيلول 1961 علاقة سوريا بمصر، فانتقد القوتلي الخطوة.
استلم حزب الشعب السلطة وانتخب ناظم القدسي رئيسًا. بعد انقلاب
البعث في
8 آذار 1963 صودرت أملاك القوتلي وغادر إلى بيروت حيث اعتزل العمل السياسي، واستمرّ في
دعم جمال عبد الناصر، ليموت بعد أيام من هزيمة العرب في حرب 1967. فنقل جثمانه
إلى دمشق، وصليّ عليه في جنازة غير رسمية في الجامع
الأموي، قبل أن يوارى الثرى في مقبرة باب صغير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق