بسم الله
الرحمن الرحيم
الأخ الذي قضى ردحاً من عمره في جماعة الإخوان المسلمين،
يختزن في ذاكرته فيضاً من ذكريات حلوة طيبة لإخوان العقيدة والدعوة، تذكّر بالصلاح
والتقوى، والتضحية والفداء، والحب والوفاء.
وفي هذه الزاوية ننشر ذكريات شتى لإخوة تحابّوا في الله
على غير أرحام بينهم، لعلّ هذه الذكريات تجلّي صورة الإخوان في النفوس، وتشحذ
العزائم.
المحقّق والكاتب
في المرة الأولى التي حصل فيها اعتقالي، جاءتني
"الدوريّة" إلى مكان عملي. قامت أولاً بتفتيشي. وجدتْ في جيبي دفتراً
صغيراً، كنتُ أكتب فيه جدول أعمالي التنظيمية، على شكل رموز. وحين أمسك رئيس
الدورية بالدفتر وفتحه يُقلّب أوراقه، قلتُ في نفسي: لقد وقعت الكارثة! سيطلب مني
أن أحلّ له الرموز، ولن يقتنع بما أقول له، وقد أُضطرُّ إلى الاعتراف على بعض
المواعيد، وستتسع دائرة الاعتقال... دارت هذه الخواطر في ذهني، ربما خلال ثانية
واحدة.. لكن الكابوس زال سريعاً حين ألقى بالدفتر من يده وهو يقول: دفتر حسابات،
لا شأن لنا به!.
عرفتُ بعدئذ أن رئيس الدورية هذا هو المحقق الأول في
"الفرع" الذي سأساق إليه!!.
كانت معاملتهم إياي في مكان العمل، وفي الطريق إلى الفرع
كذلك، معاملة حسنة: هناك ضرورات أمنيّة لاستدعائك إلى الفرع. قد يقتضي الأمر
توقيفك والتحقيق معك لمدة قد تصل إلى يومين!!.
دعوني أكمل الحديث عن "المدّة". بعد مضي
الأسبوع الأول، استدعاني نائب رئيس الفرع (الملازم أول، آنذاك، محمد سعيد بخيتان)
إلى مكتبه. تكرّر ذلك أربع مرات أو خمساً. كان حديثه يتراوح بين المسامرة اللطيفة،
وربما المداعبة، وبين التهديدات، وبين الإغراءات.. قال لي مرة: إذا لم تتعاون معنا
فقد لا تخرج من المعتقل إلى سنة!.
كان الإخوة المعتقلون معي يتوقّعون أن يُفرَج عنّا خلال
أيام، وكانت تسري باستمرار إشاعات عن إفراج قريب: في نهاية هذا الأسبوع، يوم السبت
المقبل، بمناسبة 8 آذار، بمناسبة 7 نيسان، بمناسبة عيد المولد النبوي، رأس
السنة... وبتكرار الإشاعات، ومرور الأوقات خالية من تحقق الآمال، صرنا نتعامل مع
الأمر بواقعية مناسبة. قال أحد إخواننا (الأستاذ محمد حميدة): "إنّ اعتقالاً
لا يبلغ السنة ليس له طعم!".
وبالفعل، بعد أن كنا نَعدُّ الأيام ثم الأسابيع، صرنا
نعدّ الشهور، ومضت سنة كاملة، ودخلت سنة جديدة. قلتُ لأخي هذا: لقد صار للاعتقال
طعم!! ثم رحنا نعدّ المدة بالسنوات!.
* * *
وأعود الآن إلى التحقيق:
دخلتُ القبو. انتهى بي الدرج النازل إلى فسحة صغيرة، كان
يقف فيها مجموعة من "العناصر" يصعب عليّ أن أميّز فيهم رئيساً ومرؤوساً.
قال لي أحدهم (محمد سعيد بخيتان): نحن نتابع تحرّكك منذ ستة شهور. نعرف إلى أين
كنتَ تذهب، ومن تزور، ومن يزورك...
توقّعت أنه كان يكذب عليّ، من أجل أن يوهمني أنه يعرف
عني كل شيء، وإذاً لا جدوى من الإنكار. تبيّن لي فعلاً أنه كان يجهل عني كل شيء.
والمعلومات القليلة التي استطاع أن يواجهني بها في التحقيق كان قد حصّلها من بعض
الإخوان الذين سبقوني إلى المعتقل.
بعد دخول القبو، فتّشوا جيوبي. أخذوا مني حقيبة النقود،
وساعة اليد، وجذبوني بفظاظة إلى غرفة التعذيب. وهي غرفة كبيرة عارية من كل أثاث،
في طرف فيها ألقي "دولاب" أي إطار خارجي لدولاب سيارة. وفي جانب الغرفة
باب يُدخل منه إلى غرفة صغيرة، هي غرفة التحقيق. والإنسان المعتقل ينقل بين غرفة
التعذيب وغرفة التحقيق، حسب الحاجة!.
غرفة التحقيق تحوي مكتباً، يجلس خلفه المحقق، وبجواره
كرسي يجلس عليه "الكاتب" وهو معاون للمحقق لا يتدخل في التحقيق لكنه
يُسجّل ما يسمع.
توالت الأسئلة، والإنكار، والشتائم، واللكمات والرفسات،
والضرب بالخيزرانة، والصعق بالكهرباء.
جرّدوني من ثيابي كاملاً إلا ما يستر السوأتين!. كان لسع
الخيزران على ظهري وجميع أجزاء جسدي يكوي جلدي كالنار... كان يتوقف الضرب بضعَ
ثوانٍ، لعلّ المحقق ينتزع مني بعض الاعترافات ثم يُتابع الضرب. كان هناك جلّادان
يشتركان في الضرب (شيخو وحميد)... فمرة يضربان معاً، ومرة يتناوبان. كان أشدّ
التعذيب هو الصعق بالكهرباء.. ربطوا طرفين عاريين لسلكين كهربائيين على إبهامي
القدمين.. وكان السلكان موصولين بجهاز لاسلكي عسكري، له ذراع صغيرة إذا أُديرت مرّ
تيار كهربائي شديد، وعندئذ لا يملك الضحية إلا أن يصرخ صراخاً حاداً. كان المحقق
يُدير هذه الذراع بين فينة وأخرى، ولعلّه كان يتلذّذ بصراخي!!.
وكان أحياناً يتوقف عن التعذيب بالكهرباء ليُتابع
التعذيب بالخيزرانة...
مدّ يده إلى وجهي وصار ينتف لحيتي. لم أحسّ بأيّ ألم
للنتف. ربما لأن شعوري بالاستعلاء عليه، واحتقاري إياه، والجو المشحون بالكلمات
الفاجرة جعلني في ذهول عن هذا الألم، أو أنّ تناوب التعذيب بين الخيزرانة
والكهرباء جعل ألم النتف هيّناً.
إدخال جسم الضحية في الدولاب يُسهّل على الجلّاد أن يضرب
على القدمين والساقين... ولا يمنعه من الضرب على أجزاء الجسد الأخرى... بينما يزيد
الألم على الضحية، الألم النفسي، وألم الانضغاط في حيّز صغير، وحروف الدولاب
الداخلية التي تُسبّب تخرشات شديدة في الظهر والفخذين...
وجّه إليّ المحقق اتهاماً عجيباً:
أنتَ المسؤول عن توزيع الكتب عند جماعة الإخوان
المسلمين!!.
قلتُ: هذا الكلام لا معنى له! كل أخ يشتري ما يريد من
المكتبات، من السوق البيضاء والسوق السوداء. أما أن أكون أنا أو غيري مسؤولاً عن
توزيع الكتب فأمر غير مفهوم.
قال: أنت كذّاب. كتاب سيد قطب، الذي يحمل اسم تفسير
القرآن أو ما يشبهه.. فتّشتُ بيتك فوجدتُ عندك منه عشر نسخ. لماذا؟!.
قلتُ: تقصد كتاب "في ظلال القرآن"؟
قال: نعم.
قلتُ: ثماني نسخ وليست عشراً!.
قال: ثمان! لماذا تحوي ثماني نسخ؟!
قلتُ: يا أستاذ إنه كتاب واحد في ثمانية مجلّدات!!.
وقلتُ في نفسي: هذا البهيمة الذي لا يفرّق بين ثماني نسخ
وثمانية مجلّدات يكون محققاً!!.
* * *
رنّ جرس الهاتف. رفع المحقق السماعة. تكلّم قليلاً، ثم
غادر غرفة التعذيب، وتبعه الجلّادان. وبقيتُ أنا وكاتب المحقق.
لستُ أدري هل كانت هذه المغادرة عفوية أم كانت تمثيلية
مرتّبة؟ لكنّ الذي حدث أن كاتب المحقق شرع يُكلّمني بلطف: يبدو أنك إنسان محترم
ومن طبقة اجتماعية راقية، وابن أكابر، ومثقّف..!! أليس مؤسفاً أن تعرّض نفسك لهذا
التعذيب كله؟! لو تعاونتَ معي على ذكر بعض الأمور التي يسألك عنها المحقق، لعلّي
أساعدك على التخلّص من هذا التعذيب.
نظرتُ إليه بطرف عيني. قلتُ في نفسي: يريد هذا الوغد أن
يحصل مني بكلماته المعسولة ما عجز المحقق عن تحصيله بالكهرباء، والخيزرانة،
والدولاب!.
* * *
تكرّرت جلسات التحقيق والتعذيب، كانت كل جلسة تطول بين
الساعة والساعتين. إلا الجلسة الأولى فقد كانت أشدها قسوة، وأطولها مدة.
* * *
لا يتّسع المقام لأن أذكر كل أنواع المعاناة. إنما
أختمها ببعض أبيات من الشعر، فقد كان أحد الإخوان المعتقلين معنا شاعراً، نظم
قصيدة يصف فيها أحوال التحقيق، والسجن، والطعام، والتعذيب... بأسلوب بسيط ساخر.
أحفظ من قصيدته هذه المقطعين:
قد توسّدنا حذاءً والْتحفنا بالحرام
شِقوة حلّت بنا في سجن أولاد الحرام
* * *
عذِّبونا واحرمونا
ساوِمونا لن نلين
نــحــن قـــــوم
قــــدّر الله فـــكنّــــا مســلمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق