فقد أصبح من الثَّابت لديهم أنَّ الفترة
الزَّمنيَّة التي عاشها نبيُّ الله «نوح» عليه السَّلام هي تسعُ مئة وخمسين عامًا،
وإذا ما سألتَ أحدهُم عن مرجعه في ذلك لرأيته يسارع إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ العنكبوت:14.
ولا شكَّ أنَّ استدلاله صحيح من حيث «النَّقل»؛
لكنَّه مجانب للصَّواب من حيث الفهم، والتَّدبرُ، وأنَّ المدَّة التي ذكرها إنَّما
تسرَّبتْ من «التَّوراة» التي نصَّت في سفر «التَّكوين» «الإصحاح» التَّاسع أنَّ «نوحًا»
كانت كلُّ أيَّامه «تسع مئة وخمسين سنة ومات»«[1]».
وهذه المدَّة لم تقف عند حدود «التَّوارة»؛
بل ذكرها «المفسَّرون» الأوائل، وذكروا أقوالاً، وروايات متضاربة، جعلت «أبا
حيَّان» يضربُ عنها صفحًا في تفسيره فقال: «واختلف في مقدار عمره حيث كان بعث،
وحين مات، اختلافًا مضطربًا متكاذبًا، تركنا حكايتَه في كتابنا»«[2]».
من ذلك ما رواه «الطَّبريّ» حيث قال: «وَذُكِرَ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ
وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً كَمَا حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَ: ثنا نُوحُ
بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: ثنا عَوْنُ بْنُ أَبِي شَدَّادٍ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ
أَرْسَلَ نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وَثَلَاثِ مِائَةِ سَنَةٍ
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ
ذَلِكَ خَمْسِينَ وَثَلَاثَ مِائَةِ سَنَةٍ»«[3]».
وقد وجدنا في «التَّوراة»
ما ينصُّ على أنَّه عاش هذه المدَّة بعد «الطُّوفان» حيث جاء: «وعاش نوحٌ بعد
الطُّوفان ثلاث مئة وخمسين عامًا»«[4]»، ممَّا يؤكِّد التَّطابق الواضح بين «الخبرين».
بينما يروي
«ابن عبَّاس» أنَّه عاش بعد «الطُّوفان» «ستِّين سنة»«[5]»، قال: «وَبَقِيَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ
عَامًا، كَمَا أَخْبَرَ التَّنْزِيلُ»«[6]». وَقَالَ «قَتَادَةُ»: «يُقَالُ إِنَّ عُمُرَهُ كُلَّهُ أَلْفَ سَنَةٍ
إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا لَبِثَ فِيهِمْ قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، ودعاهم
ثلاثمائة سنة، ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين عامًا»«[7]».
ورُوي عن «وهب»:
«أنَّه عاش ألفًا وأربع مئة سنة»«[8]». وَقَالَ «كَعْبُ الْأَحْبَارِ»: «لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ
سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سَبْعِينَ عَامًا
فَكَانَ مَبْلَغُ عُمْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ وعشرين عامًا»«[9]».
وَقَالَ «عَوْنُ بْنُ
شَدَّادٍ»: «بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةِ سنة، ولبث في
قومه ألف سنة إلا خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلَاثَمِائَةِ
سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَكَانَ مَبْلَغُ عُمْرِهِ
أَلْفَ سَنَةٍ وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَنَحْوَهُ عَنْ
الْحَسَنِ»«[10]».
وقد ورد في «الحديث»: «لما
بعث الله نوحًا إلى قومه بعثه وهو ابنُ خمسين ومائة سنة، فلبث في قومه ألف سنة إلا
خمسين عامًا، وبقى بعد الطُّوفان خمسين ومائتى سنة، فلمَّا أتاه ملك الموت قال: يا
نوح، يا أكبر الأنبياء، ويا طويلَ العمر، ويا مجاب الدَّعوة، كيف رأيت الدُّنيا؟
قال: مثل رجل بنى له بيت له بابان، فدخل من واحد، وخرج من الآخر»«[11]».
يظهر من خلال هذه النُّقول
التَّناقض البيِّن، والتعَّارض الجليّ فيها، إذ لا مدَّة معروفة، ولا فترة زمنيَّة
محدَّدة يمكن الجزم بها، والتي يمكن من خلالها معرفة عمر «نوح» عليه السَّلام، ولا
خبرٌ صريح يمكننُا الرُّكون إليه.
والمرجَّح عندنا أنَّ «نوحًا»
قد عاش «ألف» سنة كاملة، بخلاف المزاعم والأقوال التي ذكرناها سابقًا، اعتمادًا
على منهج «تفسير القرآن بالقرآن»، إذ إنَّ تدبُّر الآية نفسها يدلُّنا على صحَّته،
ورجحانه، إذ جاء فيها «المستثنى» بلفظ مغاير لـ«المستثنى منه»، وهو مدحلُ الفهم
والتَّدبُّر، فكانت الأولى «سنة»، والثَّانية «عامًا».
وبالرُّجوع إلى الاستخدام
القرآنيّ لهاتين اللَّفظتين، نرى أنَّ الأولى كثُر استخدامها في الشَّدَّة،
والعذاب، ومنها قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ
سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾
المائدة: 26، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا
اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي
السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ يوسف:42، وقوله تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ
ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ الكهف:25، وقوله أيضًا: ﴿فَلَبِثْتَ
سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ طه:40، وقوله:
﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾
الشعراء: 18،
بينما جاء
استخدام الثَّانية في الرَّحمة، والفرج، والنَّصر، كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ
يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ يوسف:49،
وإلى هذا المعنى أشار «ابن عادل» في «اللّباب» فقال: «وقد روعيت نكتة لطيفة، وهو
أن غاير بين تمييزي العدد فقال في الأوَّل: سنة، وفي الثَّاني: عامًا؛ لئلا يثق
اللَّفظ، ثمَّ إنَّه خصَّ لفظ العام بالخميس إيذانّا بأنّ نبي الله صلى الله عليه
وسلم لما استراح منهم بقي في زمن حسنٍ، فالعرب تعبِّر عن الخصب بالعام، وعن الجدب
السَّنة»«[12]».
وقد نصَّ «السِّيوطيّ»
في «الإتقان» فيما ينقله عن «الرَّاغب» على ذلك أيضًا، حيث قال: «ومن ذلك السَّنة
والعام. قال الرَّاغب: الغالبُ في استعمال السَّنة في الحول الذي فيه الشِّدة،
والجدب، ولهذا يعبّر عن الجدب السَّنة. والعام ما فيه الرَّخاء والخصب، وبهذا تظهر
النُّكتة في قوله: ألف سنة إلا خمسين عامًا، حيث عبَّر عن المستثنى بالعام، وعن
المستثنى منه بالسَّنة»«[13]».
وأوردَ «الزَّبيديّ»
في «تاجه» المعنى ذاته، فقال: «فالعام كالسَّنة، لكن كثيرًا ما تُستعمل السَّنة في
الحول الذي يكون فيه الجَدْب، والشّدَّة، ولهذا يُعبَّر عن الجدب بالسَّنة، والعام
فيما فيه الرَّخاء والخصب»«[14]». وقد علَّل النُّكتة في «الآية» في موضع آخر فقال: «لأنَّ الخمسين سنة
مضتْ قبل بعثته وقبلها لم يحصل له أذًى من قومه، وأمَّا من بعثته فهي شدَّة عليه».
وهذا
التَّعليل يخالفُ النَّصّ الصَّريح للآية نفسها، إذ نصَّت على أنَّه لبث في قومه
«ألف» سنة، وهي مقدار حياته عليه السَّلام، لكن اُستثني منها «خمسون» عامًا بعد
«الطُّوفان»، وهي مدَّة الرَّخاء والخصب، إذ «استوت السَّفينة» على «الجودي»، وعاش
مع مَنْ آمن معه بقيَّة حياته، فاكتمل عمرُه «ألف» سنةٍ، والله تعالى أعلم.
وقد عقد «السُّهيلي»
في «الرَّوض الأنف» فصلاً كاملاً للتَّفريق بين «السَّنة» ، و«العام»، فقال: «والسَّنة
والعام وإن اتَّسعت العرب فيهما، واستعملت كلَّ واحدٍ منهما مكان الآخر اتِّساعًا،
ولكن بينهما في حكم البلاغة والعلم بتنزيل الكلام فرقًا»«[15]»، ومن ذلك قولهم: «أكلتهم السَّنة»«[16]»، وعليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ
وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾الأعراف:130، ومنه أيضًا ما ورد من دعاء النَّبيّ صلى الله
عليه وسلم على «مضر» كما في «البخاري»، إذ قال: «اللهمَّ اشدد وطأتَك على مضر،
اللهمَّ سنين كسنيّ يوسف»«[17]». أي: «اجعلها سنين ذوات قحطٍ وغلاء»«[18]»، «وهذا أكثر استعمال لفظ السَّنة بخلاف العام»«[19]»، فسمُّوا «القحط» سنة، وقيل أيضًا: «أسنتَ القومُ إذا قحطوا»«[20]».
وعلى ذلك
فصّل «السُّهيليّ» في قوله تعالى: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً﴾ يوسف:47،
فقال: «ولم يقل أعوامًا، نفيه شاهد لما تقدَّم، غير أنَّه قال: ثم يأتي من بعد ذلك
عام، ولم يقل سنة؛ عدولاً عن اللَّفظ المشترك، فإنَّ السَّنة قد يعبَّر بها عن
الشِّدة، والأزمة، كما تقدَّم، فلو قال: سنة؛ لذهب الوهمُ إليها»«[21]».
د. محمد عناد سليمان
22 / 11 / 2015م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق