لم يعد الخلاف السني الشيعي مسالة تطرح في الحوزات
والمعاهد الدينية، وتناقش في مؤتمرات وندوات مغلقة، لقد أصبح اليوم إعلاناً على
فوهات البنادق ورسوماً على الصواريخ الضاربة ووشما على اللحم والحسم، وبنداً أول
على مبررات قرارات مجلس الأمن، وسياسات الدول الكبرى في المنطقة، وهو ما يحمل صورة
غضب تاريخي قاتل يحمل صورة القنوط الموت، ولا يبشر بأي نهاية لعصر الحرب الطائفية
المجنونة.
لا أعرف في التاريخ رجلا قدم نموذجا لحل المشكلة
السنية الشيعية كالخليفة الناصر لدين الله العباسي، وأحب أن أقدم هذا الرجل للقراء
الكرام هذا الخليفة العباسي الفريد، وهو ما نأمل أن يولد مرة ثانية في هذا الشرق
التعيس، أو يولد مشروعه على الأقل في برنامج طموح لوقف الجنون الطائفي القاتل.
وصل الناصر لدين الله العبايس الى الحكم في بغداد
بعد مائتي عام من الحكم العباسي تميزت بالتوتر الشديد بين السنة والشيعة، بدات مع انتهاء
العصر العباسي الذهبي حين تسلط البويهيون
على الخلافة مائة عام وكانوا شيعة عباسيين
ومارسوا اضطهاداً منظماً ضد السنة، وعانى السنة في العراق وفي حواضر الخلافة من
التهميش والاتهام والقهر سنين طويلة امتدت نحو مائة عام، ولم تنجح خطط البويهيين
في استئصال السنة لصالح المشروع الشيعي التاريخي.
وحالما انتهت
أيام البويهيين وصل السلاجقة الى الحكم على خلفية سنية متشددة وأعادوا
الاعتبار للسنة، وخلال حكمهم الذي استمر أيضاً نحو مائة عام، فإنهم مارسوا أيضاً
اضطهاداً منظماً للشيعة وكرسوا المذاهب الفقهية السنية في القضاء والفتوى واعتبروا
الشيعة اصحاب عقيدة فاسدة، مارسوا بحقهم من التهميش والاضطهاد مثل ما مارسوه
وسقوهم بذات الكأس، ولكنهم أيضا فشلوا في تحقيق استئصال الشيعة كما كان يحلم
منظروهم وفقهاؤهم المتعصبون.
وهكذا فقد مرت مائتا عام عاش فيها السنة والشيعة
حرباً أهلية باردة كانت تتطور بين الحين والآخر لتصبح حرباً حمراء ساحنة وتطيح
بالرؤوس والنفوس.
وفي أعقاب هذه الفترة الدامية وصل إلى الحكم
الخليفة الحكيم الناصر لدين الله العباسي، وشهد عصر ابيه انهيار الدولة السلجوقية
وعودة البهاء للخلافة واستقل الخليفة بامره، وكان عليه أن يواجه المشلكة إياها
التي التهبت منذ مائتي عام ولا تزال.
اختار الناصر العباسي موقفا تحير فيه خصومه، فقد
اعلن من الأيام الأولى أن يبارك برامج الشيعة ومناسباتهم وذكرياتهم وأنه سيشهدها
معهم، وأعلن عن مشروع طموح لبناء مرقد الامام موسى الكاظم، وأنفق فيه نفائس المال
ومنحه منزلة فريدة في القداسة وأعلن ان المقام معصوم وأن من دخل اليه هو آمن، وأن
لا سلطان لأي خليفة أو حاكم على ضريح الامام موسى الكاظم وأن من دخله كان آمناً!!
وفي المقابل قام الخليفة ببناء عدد من المساجد
للحنابلة في بداد وقام بمشروع طموح لتجديد الحرمين وإصافة الأوقاف والمرافق
الفعالة في حواشي الجرمين الشريفين.
تحير أصدقاؤه وخصومه في سيرته على السواء واعتبره
كثير من السنة متشيعاً واعتبره كثير من الشيعة متقياً يمارس الديماغوجيا لاجتلاب
جمهور الشيعة، ولكنه في السواد الأعطم من الفريقين نال احتراماً غير مسبوق ونظر
اليه الجميع أميرا للمؤمنين وانخرطوا في برامجه وخططه ونجح بالفعل نجاجا كبيرا في
الحكم استمر نصف قرن من الزمان انتهى فيه أو كاد كل أثر للنزاع الطائفي المقيت
الذي طبع الخلافة نحو مائتي عام، وبعد رحيل الناصر 1228م الذي حكم نصف قرن تقريبا فإنه
يمكن القول إن القرون الثلاثة التالية شهدت وفاقا سنيا شيعياً مقبولاً استمر
باطراد إلى أن قامت الدولة الصفوية في بغداد عام 1500م وأعادت بعث الخلاف الطائفي
من جديد.
إنها محض رواية من التاريخ وربما يكون للمشهد قراءة
أخرى، ولكنني أدعو إلى التماس هذا المشهد في الحروب الطائشة اليوم التي تذكيها
سياسات عالمية كبرى في الصراع بين السنة والشيعة.
هل تمنحنا هذه التجربة التاريخية فرصة الأحلام،
فنتصور أن الخامنئي اتصل بالملك سلمان أو أن الملك سلمان بدا عهده بالاتصال
بالخامنئي ودعاه إلى زيارة الحرمين الشريفين في عمرة المصالحة والوفاق، وهناك بين
الركن والمقام او بين الصفا والمروة عقد أول لقاء بين الرجلين لتأسيس وفاق مجتمعي
مبني على احترام الحقوق جميعا والعمل المشترك لرأب هذه الغابات الرهيبة التي تفصل
بين المذهبين والمشاريع الطائفية الحمراء التي تروي بالدم صراعا لا يزال يثور
ويهدًأ ويشتد وينحسر منذ نحو خمسمائة عام.
يحق لنا أن نحلم أن اللقاء بين الرجلين قد تم
بالفعل في جولتين متتاليتين في قم وفي مكة، وبعد لقاء موسع مع زعماء الدول
الإسلامية اتفق الطرفان على البنود التالية:
فتح الحريات الدينية الكاملة لشيعة الجزيرة العربية
وسنة ايران، واستقبال مبعوثين من الطرفين لرعاية الحاجات الفقهية والمذهبية لكل من
الطائفتين.
إطلاق قنوات فضائية مراقبة ومحاسبة لنشر روائع
الفقه والحكمة لدى المذهبين وشرح وجهات النظر الأخرى عبر برامح إعلامية محكمة.
تستقبل الرياض وطهران ألف داعية وفقيه ينتمي الى
المذهب الآخر، وتمنحهم الصفة الدبلوماسية
ضمن برنامج مراقب من الطرفين يهدف الى تحقيق الحاجات العلمية والروحية
لابناء الطائفنتين في دائرة الاحترام المتبادل.
منع كل برنامج إعلامي أو اجتماعي يسيء إلى إحدى
الطائفتين، ومحاسبة كل من يروج للشقاق الطائفي عبر محاكم مشتركة بقيادة الدولتين.
منع أي وجود مسلح داخل الدولة الاسلامية وتحول الميليشيات
المسلحة الى احزاب سياسية تناضل في الشأن السياسي ضمن القانون السائد في كلبلد.
تشكيل لجان المناصحة والمصالحة مدعومة بقدرات
تنموية كبرى لتأمين التنمية وفرص العمل للمناطق الملتهبة في سوريا والعراق واليمن
والبحرين.
تشكيل حلف عسكري إسلامي لمواجهة الإرهاب بقيادة
سنية شيعية مشتركة.
إنها بالطبع أحلام وستدفع المعلقين على الفور
لاتهامي بالسذاحة السياسية وتسطيح المسائل الكبرى، ومطالبتي بوقف الكتابة في الشأن
السياسي وتركه لأهل الاختصاص، من المحترفين في الكتابة في شرح التآمر والمؤامرات
المحلية والاقليمية والعالمية والكونية!
مهما كان تقييم هذا المقال، فهو من وجهة نظري يضع
اليد تماما على الجرح النازف، والذي لا يوجد له أي حل دون وفاق وتنسيق على المستوى
الأعلى، يتجاوز الحلول الترقيعية.
مبادرات من هذا النوع هي وحدها من يوقف الحرب المجنونة
في سوريا والعراق، ويضع حداً للماساة اليمينية، وهذا بالضبط ما حققه الخليفة
العباسي الناصر لدين الله ونجح في تأمين ثلاثة قرون من السلم والعيش المشترك، وهو
عينه ما قامت به أوروبا التي عاشت عدة قرون من الشقاء والحرب الدامية بين الهيجونوت
والجيزوليت، في قماطيهما الكاثوليكي والبروتستانتي، وقذفت أوروبا في أتون هذا
الخصام المذهبي وأفرزت حرب التسعة أشهر وحرب السنوات الثلاث وحرب السنوات العشر وحرب
الثلاثين عما وحرب المائة عام... والقائمة تطول...
لم تنته هذه الحروب الاوروبية المجنونة التي كان
لها فلاسفتها ومؤصلوها وشراحها ومفسروها ... إلا عندنا قام الكبار بمبادرات شجاعة قفزت
فوق جراح التاريخ ووضعت الماضي في المكان الذي يجب أن يركن فيه وانطلقت بثقة
واقتدار لتبني المستقبل بروح من اليقين والبصيرة، حتى وصلت المجتمعات الأوروبية
إلى عصر الإنسان ودولة القانون والمواطنة التي استطاعت أن توقف هذا النزيف المجنون
وتؤسس للدولة الحديثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق