بمناسبة حلول موسم الامتحانات، هذه قصة
جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين
وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت أمامي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان. وكما
ذكرت في قصص سابقة، فقد درست في كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية (همك) مابين
عامي 1975 و1980 حيث جرت أحداث هذه القصة في السنة الأخيرة حين كان العنف آخذاً
بالتصاعد مابين فصيل الطليعة المقاتلة في الاخوان المسلمين والنظام الديكتاتوري.
كان (سهيل) من الطلاب الذين لايتكلمون
كثيراً، دائم الوجوم وشبه معدوم روح النكتة، وقد اخترت له اسماً مستعاراً لأني
نسيت اسمه الحقيقي. ومن جهة ثانية، وكي لايتهمنى بعض القراء بالطائفية، كما حصل في
السابق، فعلي أن أوضح أن هذا الطالب لم يكن من (الطائفة الكريمة) وإنما من إحدى
قرى حوران. من جهتي، فأنا أصلاً مع مقولة أن الشر ليس له دين ولاطائفة ولاجغرافية،
بل هو صفة تتبع الشخص تحديداً. ولأن (سهيل) كان رفيقاً بعثياً، فقد كان دائم
التواجد في غرفة الفرقة الحزبية أو أمام بابها القريب من المقصف، شأنه في ذلك شأن
بقية (الرفاق) الذين كانوا يحرصون على أن يراهم الطلاب والأساتذة في هذا المكان
ليعرفوا أنهم حزبيون وأنهم مدعومون. وكانت قد أصبحت لهذه الوقفة أهمية خاصة في تلك
الفترة بالذات بسبب توزيع مسدسات على بعض (الرفاق) ليساهموا في محاربة (الارهاب)،
فاستغلوا هذا بوضع تلك المسدسات على خصورهم خلال تواجدهم في الكلية وبتقصد إظهارها
على (مؤخراتهم) لكي تكتمل عملية (المنفخة) اللازمة لارضاء (حيونتهم) وشخصياتهم
المريضة.
من جهتي، وكوني مصاب بالحساسية اتجاه كل
ماهو حزبي عموماً، وبعثي خصوصاً، فقد كنت أبتعد عن كل (الرفاق) وأكتفي برد السلام
عليهم إذا ماأتى منهم أولاً أو إذا ماالتقت عيني بالصدفة بعين أحدهم ممن هو من
دورتنا. وسبب حساسيتي اتجاه الحزبيين ليس لأني لاأفقه في السياسة، كما يبرر البعض
ابتعادهم عنها، وإنما وعلى العكس من ذلك، لأني أعرف تماماً ماذا جر هذا الحزب
بالذات على بلادنا من مصائب وويلات.
كان يوماً حاراً من أيام شهر حزيران 1980
حين توجهت لقاعة الامتحان لتقديم إحدى مواد نهاية العام، وكان ذلك في أحد مراسم
البناء الجديد الذي تم افتتاحه حديثاً حينذاك. كان (سهيل) أيضاً موجوداً في القاعة
واتخذ لنفسه طاولة قريبة من الباب وكنت أجلس خلفه وبيني وبينه طاولة واحدة. دخل
المراقبون ومعهم رئيس القاعة الذي تلى علينا (السيمفونية المعتادة) المشبعة
بالتهديدات لمن يحاول الغش أو النظر لورقة جاره أو التحدث معه. مالبث أن تم توزيع
أوراق الامتحان وبدأ الطلاب بتصفحها، البعض بسرور والبعض بامتعاض، حسب الأسئلة
ومعرفتهم أو عدم معرفتهم لأجوبتها. وكما جرت العادة أيضاً، فلم يلبث أن بدأ البعض
بتسليم أوراقهم مباشرة والانسحاب من القاعة لثقتهم بأنهم لن يتمكنوا من إحراز
العلامة اللازمة للنجاح، وبالتالي لا داعي لأن يضيعوا ساعتين بالبقاء حتى النهاية،
وهذا تصرف يتكرر كثيراً في الامتحانات الجامعية.
كانت قد مضت حوالي الساعة، وبقيت الساعة
الثانية، حين اقترب أحد المراقبين من طاولة (سهيل) وبدأ يتكلم معه بصوت خافت لم
يتمكن أحد من سماعه، ولكن وبعد ثوان، بدأ الحديث بينهما بالارتفاع وفهمنا منه أن
(سهيل) قد التقط (نوطة) المادة التي كانت تحت طاولته، ووضعها أمامه وفتحها وبدأ
يقرأ فيها ويبحث عن الأجوبة، ولما سأله المراقب عن تبرير ذلك، قال له بأن هذه
المادة مفتوحة؟ ولمن لايعرف ماذا يعني ذلك، فهناك بعض المواد التي يسمح بفتح نوطها
خلال الامتحان لأن الأسئلة تكون موضوعة أصلاً على هذا الأساس وأجوبتها غير موجودة
صراحة في النوطة، وإنما هي أجوبة استنتاجية وتعتمد على مدى فهم المادة. لما أجاب
(سهيل) المراقب بذلك، نظر الأخير حوله وعاد وسأله لماذا لايفعل بقية الطلاب نفس
الشيء؟ وهنا أجابه (سهيل): لاأعرف ولايهمني. ولكن ولما لم يقتنع المراقب بهذا
الجواب واستمر بالكلام معه، أتاه الجواب هذه المرة بلهجة تهديدية لايمكن لأحد أن يجهل
مغزاها، قال له (سهيل): اعرف مع من تتكلم، وأنصحك أن تذهب من أمامي وأن لاتعود،
فأنا لاأريد أن أوذيك.
لاحظت التردد على وجه المراقب المسكين،
والذي بلا شك لم يكن من (الطائفة الكريمة)، وإلا لما تجرأ (سهيل) على الكلام معه
بهذه الطريقة، فالناس تصبح (عناتر) على الضعفاء فقط. ويبدو أن الرجل حزم أمره
سريعاً وقام باستدعاء رئيس القاعة الذي كان مايزال يقف في الزاوية البعيدة، ربما
لأنه لم ينتبه بعد لتفاصيل الموضوع، أو ربما لأنه انتبه ولكن فضل أن يصاب فجأة ومن
دون مقدمات بالعمى والطرش والخرس على أن يتدخل في أمر قد يسبب له مشكلة هو في غنى
عنها. ولكن ولما ناداه المراقب صاحب العلاقة، لم يجد مهرباً من الاقتراب والتدخل، وسأل
الاثنين: ماهي المشكلة؟ وهنا حصل مالم يكن متوقعاً من أحد على الاطلاق، حيث وقف
(سهيل) على قدميه وسحب مسدسه بحركة مسرحية ووضعه على الطاولة وقال موجهاً كلامه
لرئيس القاعة: أعتقد أن هذا (البغل)، مشيراً إلى المراقب، ينتمي لجماعة الاخوان
المسلمين الارهابية، وهو لما عرف أني رفيق حزبي، وقف أمام طاولتي ليزعجني ويتسبب
برسوبي، وهو أيضاً قد يقوم باغتيالي. ولكن نحن (الرفاق البعثيين) تعلمنا في الحزب
أن لانخاف من أمثال هؤلاء (الرجعيين) وسنبقى خلف القيادة التاريخية للرفيق القائد
حتى نهزمهم، وأنت إذا لم تأخذه من هنا، فأقسم بأني سأفرغ هذا المسدس في رأسه. كان
(سهيل) منفعلاً للغاية أثناء إدلاءه بهذه العبارات، حتى أن الجميع لاحظ انطلاق
(التفتفة) من فمه (رشاً ودراكاً) لتغسل الرجلين الواقفين أمامه، كما أن لهجته كانت
انفعالية واسلوبه خطابي لدرجة أني ظننت لوهلة بأنههم سيطلبون له منصة ومايكروفون
ليتابع حديثة. ولكني ظننت أيضاً أنهم سيأتون للمراقب بمشنقة ويقومون بشنقه هنا في
ذات القاعة بعد محاكمة صورية بعد أن وجه له (سهيل) هذه التهم القاتلة.
مرت لحظات بطيئة وثقيلة والمراقب ورئيس
القاعة لاينطقان بحرف ويحاولان تجميع أفكارهما كي لايقوما بعمل يندمان عليه
لاحقاً، في حين كان (سهيل) مايزال يقف أمامهما كالديك (المنفوش)، عارفاً أنه قد
نجح (بكبح) المراقب و(ضبع) رئيس القاعة. ومالبث أن حزم الأخير أمره وطلب من
المراقب أن يتبعه إلى الخارج لتداول الأمر على انفراد، وطبعاً لم يعودا يومها إلى
القاعة مرة ثانية، في حين عاد (سهيل) إلى طاولته واستمر بنقل الأجوبة من النوطة
وسلم ورقته للمراقب الآخر الذي كان قد بقي هناك والذي استلمها منه دون أن ينطق
بكلمة واحدة. حين سلمت ورقتي وخرجت بدوري، كان (سهيل) مازال واقفاً خارج القاعة، مزهواً
بفعلته وجامعاً حوله بعض الطلاب الذين يستمعون لروايته كيف تصدى للمراقب (الرجعي)
وأعطاه حجمه المناسب ووضعه عند حده، وكان يروي الحادثة بطريقة تظنه معها وكأنه
تصدى للجيش الاسرائيلي وحرر الجولان أو القدس. حاولت تجاوزه دون الالتفات إليه،
إلا أنه ناداني باسمي وسألني: طريف، مارأيك بما فعلته مع هذا الصعلوك؟ لم يكن يخفى
على الحزبيين، ومنهم صاحبنا، وبعد خمس سنوات من الدراسة في نفس الكلية، أني
لاأودهم، وربما كانوا لذلك يحاولون دائماً استدراجي بالكلام، علهم يجدون مادة دسمة
يكتبون بي فيها تقريراً أمنياً. التفت إلى (سهيل) دون أن أتوقف، موجهاً له رسالة ضمنية
بأني مستعجل وليس لدي وقت لسماعه، ولكني أجبته (على الماشي) رداً على سؤاله: تمام،
صعلوك. وسألت نفسي بعد ذلك: هل سيظن أني قصدت المراقب بالصعلكة أم هل سيعرف أنه هو
من كان المقصود بها؟
هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها،
ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، هنا في سورية يتحول المثل العربي الشهير
القائل (عند الامتحان، يكرم المرء أو يهان) إلى (يكرم المراقب أو يهان)
***
يسمح بنشرها دون إذن مسبق
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 1 رمضان المبارك 1437، 6 حزيرا/ جون 2016
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق