دخل أبو خالد يوما على الخليفة أبي
جعفر المنصور، فقال له المنصور: يا ابن أنعم، ألا تحمد الله أراحك مما كنت فيه،
ومما كنت ترى بباب هشام وذوي هشام؟ فقال له عبد الرحمن: ما أمر كنت أراه بباب هشام
إلا وأنا أرى اليوم منه طرفاً، فكبا لها أبو جعفر.
ثم قال له: فما منعك أن ترفع ذلك
إلينا، وأنت تعلم أن قولك عندنا مقبول؟ فقال: إني رأيت السلطان سوقاً، وإنما يرفع
إلى كل سوق ما يجوز فيها، فكبا لها أبو جعفر، ثم رفع رأسه فقال: كأنك كرهت صحبتنا
؟، فقال: ما يدرك المال والشرف إلا في صحبتك، ولكني تركت عجوزاً وإني أحب
مطالعتها، فقال: اذهب فقد أذنا لك.
هكذا كانت مواقف القاضي عبد الرحمن
من السلطان يقول كلمة الحق ولا يخاف في الله لومة لائم.
كان أبو خالد من جلة المحدّثين
منسوبا إلى الزهد والورع، صلباً في دينه، متفنناً في علوم شتى. وكان أول مولودٍ
ولد في الإسلام بعد فتح إفريقية. روى عن جماعة من التابعين، وكان مشهوراً وسيرته
على كل لسان في زمانه.
وكان مسكن ابن زياد بالقيروان بقرب
باب نافع، ومولده بإفريقية، وتوفي بالقيروان في شهر رمضان سنة (161هـ/777م) ودفن
بباب نافع.
وأسر الروم ابن زياد، فرفع إلى
الطاغية مع جماعة من المسلمين، قال: فبينا نحن في حبسه إذ غشيه عبد له، فأقبل
علينا فيه من الحار والبارد ما يفوق المقدار، إذ خطرت امرأة نفيسة على الطاغية،
فأخبرت بحسن صنيع الملك بالعرب، فخرقت ثيابها ونشرت شعرها وسودت وجهها، فقال لها:
مالك؟ فقالت: العرب قتلوا ابني وزوجي وأخي وأنت تفعل بهم هذا الذي رأيت؟ فنخر
وصلّب، وقال: عليَّ بهم، فصرنا بين يديه سماطين، وأمر سيافه بضرب عنق واحد واحد
حتى قرب الأمر مني، فحركت شفتي، وقلت: الله، الله، الله، ربي لا أشرك به شيئا، ولا
أتخذ من دونه ولياً، ثلاثا. وأبصر فعلي، فقال: قدموا شماس العرب - يريد عالمهم -
فقال لي: لعلك قلت: الله، الله، الله، ربي لا أشرك به شيئا ؟ فقلت: نعم. فقال: ومن
أين علمته؟ قلت له: نبينا، عليه الصلاة والسلام، أمرنا به فقال لي: وعيسى أمرنا به
في الإنجيل. فأطلقني ومن معي. وقيل في رواية أخرى: فداه أبو جعفر المنصور.. فداه
وولاه قضاء إفريقية.
وحدّثوا أنه لما غلب البربر على
القيروان وفد على الخليفة رجال، قال عبد الرحمن بن زياد: فكنت أنا فيهم، فلما صرت
إليه قال: كيف رأيت ما وراء بابنا؟ فقلت: رأيت ظلماً فاشياً وأمراً قبيحاً. قال: فقال
لي: لعله فيما بعد من بابنا؟ قال: فقلت له: كلما قربت من بابك استفحل الأمر وغلظ،
فقال لي: أنت لا تهوى الدخول في شيء من أمرنا. فقلت له: عجوز خلفتها بالقيروان
وأنا أحب الرجوع إليها. قال: فأذن لي.
وروي عن قبيصة بن عقبة أنه سمع
سفيان الثوري يقول: لما قدم بابن أنعم على المنصور قال: ما رأيت في طريقك ؟ قال:
ما زلت في منكر وجور عظيم حتى قدمت عليك. فقال له أبو جعفر: ما نعمل؟ ما نصنع؟ لا
يلي لنا مثلك. فقال له: أتدري ما قال عمر بن عبد العزيز؟ قال: الملك سوق، وإنما
يجلب إلى السوق ما ينفق فيها، فإن كان براً أتوه ببرهم وإن كان فاجراً أتوه
بفاجرهم.
وعن ابن أنعم قال: من دخل على سلطان
ظالم يتقيه فقال: اللهم إني أستعينك عليه وأدفع بك في نحره وأعوذ بك من شره، إلا
صنع الله تعالى به ذلك.
وقال عيسى بن مسكين: كان ابن أنعم
بالعراق، فأرسل إليه أهله كتاباً من إفريقية، فلما فتح الكتاب تغير لونه واصفر،
فما فرغ من قراءة الكتاب حتى رؤي السرور في وجهه واحمر ورجع إليه لونه. فقال له
أصحابه الذين حوله: أصلحك الله، لقد رأينا منك عجباً: رأيناك لما فتحت الكتاب
وقرأته تغير لونك، ثم لم تفرغ من قراءته حتى رجع إليك لونك. فقال لهم: (نعم، لما
قرأت أول الكتاب قرأت سلام أهلي ومالي وولدي فتغير لذلك لوني واغتممت، إذ لم
يذكرني الله عز وجل بمصيبة، ثم قرأت آخر الكتاب فذكروا: إنك ابتليت بكذا ومات لك
كذا ومات لك كذا، ففرحت بذلك).
ولما وليّ ابن أنعم القضاء وسار
بالعدل ولم يقبل من أحد صلة ولا هدية، نزه نفسه عن ذلك فرفع الله قدره وأعلى
مناره.
وذكر أن امرأة من أهل القيروان
كانت لها خاصة بحرمة يزيد بن حاتم أمير إفريقية، فدار بينها وبين رجل من أهل
القيروان خصومة. واستدار الحكم لها على خصمها وكتب لها ابن أنعم قضية بحقها وختمه
بخاتمه وأعطاه لها، فمضت به المرأة مسرورة إلى يزيد لعلمها بمسرته، فلما دفعت
الكتاب إليه أخذه يزيد ففض خاتمه وقرأه ثم رده إليها. فبكت المرأة وخافت أن لا
ينفعها الحكم إذ فض خاتم القاضي، فلما رأى يزيد مشقة ذلك عليها قال لها: لا تجزعي،
أنا أوجهه إلى القاضي فيختمه كما كان، فبعثه إليه فأبى من ذلك وقال: لا أختمه حتى
تعيد المرأة البينة، فرده عليه يزيد ثانية ليختمه، فأبى وقال: لا أفعل. فلما ولى
رسول يزيد راجعا أخذ عبد الرحمن خاتمه فكسره، ودخل بيته وقال: أنا أسبقه إلى
العزل.
وليَّ القضاء مرتين: الأولى في
أيام بني أمية، ولاه عليها مروان بن محمد - المعروف بالجعدي - وهو آخر من ملك من
بني أمية، وكتب بذلك كتاباً يقول في بعضه: (..وقد ولاَّك أمير المؤمنين الحكومة
والقضاء بين أهل إفريقية، وأسند إليك أمراً عظيماً وحملك خطباً جسيماً، فيه دماء
المسلمين وأموالهم، وإقامة كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى اله عليه وسلم، والذب
عن ضعيفهم من قويهم وإنصاف مظلومهم من ظالمهم، والأخذ من شريفهم بالحق لخاملهم.
وقد رجاك أمير المؤمنين لذلك لفقهك وعدلك وخيرك وحسبك وعلمك وتجربتك. فعليك باتقاء
الله عز وجل وحده لا شريك له، وإيثار الحق على ما سواه. وليكن جميع الناس: قويهم
وضعيفهم، في الحق، عندك سواء).
فأقام قاضياً إلى سنة
(132هـ/749م)، وفيها زال ملك بني أمية، فعزل عن القضاء إذ كان من قبل مروان.
وولي بعده أبو كريب، وكان فاضلاً
ورعاً. قتلته الصفرية سنة (140هـ/757م)، حين تغلبوا على القيروان وملكوها. فلما
رأى ذلك علماء إفريقية بعثوا إلى المشرق جماعة من شيوخهم إلى أبي جعفر المنصور،
وكان رئيسهم ابن أنعم، مستغيثين به، فوجه معهم محمد بن الأشعث بجيش كبير، وأمره
إذا وصل وملكها وأخرج البربر منها، أن يولي عبد الرحمن بن أنعم قضاء إفريقية.
وفي هذه السفرة استغل ابن زياد
وجوده في العراق فجلس للدرس والوعظ، فسمع منه سفيان الثوري وكبار أصحاب أبي حنيفة
وابن أبي زائدة.
وأجمع أهل القيروان على ولايته،
لما علموا من دينه وفضله وزهده. فسار فيهم بسيرة أهل العدل، وأقام فيه الكتاب
والسنة. ولم يزل على ذلك حتى جرى له مع يزيد بن حاتم ما جرى، فترك القضاء ورحل عنه
إلى تونس. ولم يزل معظماً في صدور الناس رفيع القدر عندهم حتى توفي سنة
(161هـ/777م).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق