عدنان رجل استهوته السياسة إلى حد
العشق والهيام، فقضى شطر حياته في تأسيس الأحزاب والمشاركة في الحياة السياسية بانتظار
فرصة تجعل منه زعيماً لأحد الأحزاب، لكنه بعد محاولات عديدة انتهت بالفشل، نزل بسقف
طموحاته فاكتفى بحلم الوصول إلى مقعد في " مجلس الشعب" لكنه حتى في هذه فشل،
وذهبت كل طموحاته أدراج الرياح، واستمر يواجه الفشل بعد الفشل ما جعله يقتنع أنه لم
يخلق للسياسة، فاعتزلها، فاعتزلته الأضواء، واعتزله الرفاق تاركين إياه للوحدة المؤرقة
وذكريات الفشل ، لهذا بدأ يفكر بالزواج الذي ظل يتهرب منه طويلاً كرمال عين السياسة!!
ولم يطل به البحث فقد وجد ضالته في
"عايدة" رفيقته في آخر حزب شارك بتأسيسه، وقد أسعده أن عايدة أخذت بنصيحته
فاعتزلت السياسة، واختارت المضي في طريق الفن وأصبحت في برهة وجيزة نجمة من نجمات الشُّباك!!!
وعلى الرغم من أن عايدة قد تجاوزت
الثلاثين من عمرها، وأخذ الزمن الكثير من شبابها ونضارتها، إلا أنه رأى فيها فتاة أحلامه
لما تتمتع به من رقة وشفافية جعلته يراها قطة ناعمة مدللة !! فتزوجها، وقضى معها أياماً
عذبة جعلته يندم على كل ساعة ضيعها في السياسة !!
لكن سعادته بالقطة الناعمة لم تدم
طويلاً فقد تكشفت القطة عن نمرة شرسة، لا يفصلها عن الجنون غير شعرة، فقد أصبحت تثور
وتغضب لأتفه الأسباب، وتنطلق فتحطم كل ما يصل إلى يدها من أثاث وأدوات وتحف أثرية نادرة
كلفته مبالغ طائلة وزمناً طويلاً أمضاه في جمعها، فراح يحذرها ويهددها لكي تكفّ عن
شراستها وأفعالها المجنونة، فلم يزدها ذلك إلا نشوزاً، واستقوت عليه بأمها التي أصبحت
تزورها بصورة شبه يومية وتخلو بها فترات طويلة تعقبهاا فترة هدوء مريب كالهدوء الذي
يسبق العاصفة، حتى أصبح على يقين أنهما يشكلان حلفاً شيطانياً يعمل على طريقة
"الدولة العميقة" بانتظار الوقت المناسب لكي ينقلبا عليه فتستوليان على الشقة
التي يملكها وتطردانه إلى الشارع!
وحين أيقن أن الأمور وصلت إلى هذه الدرجة من التخطيط
والخطورة، واجه عايدة وراح وهددها بالطلاق إن هي استمرت على هذا المنوال من التآمر
والشراسة والجنون، لكنها ردت عليه باستخفاف وعبارات جارحة تتهمه في رجولته ماجعله يخرج
عن طوره ويضربها ضرباً مبرحاً اضطره أن ينقلها إلى المستشفى، وإذ رآها ملقاة في غرفة
العناية المشددة بين الحياة والموت ترميه بنظرات حادة متحدية، صار على يقين أن هذه
النمرة الشرسة لن ترتدع، وأن العنف لا ينفع معها، وأن عليه تغيير سياسته معها لترويضها..
- أجل .. يجب أن أغير سياستي معها
.. أجل السياسة .. السياسة .. هي الحل!!
قال يحاور نفسه وهو شارد عن ضجيج المقهى،
وتذكر أن السياسة التي استطاعت حل أعقد المشاكل بين الدول، هي الحل الأنسب للخلاص من هذه المصيبة التي ألقاها القدر في طريقه
!!
وإذ وجد أنه عثر على الحل في السياسة
تنهد بعمق، وسحب نفساً طويلاً من نارجيلته ونفث الدخان بارتياح مستشعراً أنه حقق ما
يريد، لكنه عاد فاعتكر مزاجه :
- فأي فن من فنون السياسة ينفع مع
هذه المصيبة ؟!
سأل نفسه في حيرة ، وانقضى النهار،
وخمدت نار النارجيلة دون أن يهتدي إلى جواب، فقام يغادر المقهى، وفي طريقه إلى الخروج
سمع مذيع الأخبار يذكر جملة ( الكيان الموازي) فصرخ بينه وبين نفسه :
- وجدتها!!
ودونما تردد قرر أن يحاكي نظرية
"الكيان الموازي" التي قرأها بشغف أيام نشاطه الحزبي، وفي طريقه إلى المنزل
راح يسترجع النظرية وتذكر أنها تقوم على خلق تنظيم سري موازي لنظام الدولة، بانتظار
الوقت المناسب للانقلاب على الدولة وتغيير كل شيء فيها، هكذا سوف تتغير عايدة فتتخلى عن شراستها وجنونها وتعود قطة ناعمة!
- أجل .. هذا هو الحل !
ردد في سره، وشعر باعتداد في نفسه
وهو يرى نفسه يفكر على طريقة السياسيين المحنكين، وبدأ على الفور يفكر كيف ينقل نظرية
الكيان الموازي من ميدان السياسة إلى ميدان الزواج، فهداه اجتهاده إلى الإقدام على
زواج موازي في سرية تامة، ووجد هذا الكيان الموازي في "سهير" رفيقته السابقة
في الحزب، التي ظلت على الدوام تأسره بجمالها الباهر، وخبراتها الفنية التي جعلت منها
نجمة أولى في الرقص، فتزوجها، وكانت سعادته بهذا الزواج عظيماً، فقد استطاعت سهير بفضل
إمكاناتها الفنية أن تعيده بنجاح إلى ميدان السياسة، وإلى الأضواء، بل أوصلته خلال
فترة قياسية إلى رئاسة الحزب، ومنها إلى رئاسة مجلس الشعب، فعلت كل ذلك لأجله وهو يخفي
عنها أنها الكيان الموازي الذي أعده للخلاص من الدولة العميقة، تاركاً مفاتحتها بخطته
للظروف المواتية، أخذاً بالحكمة التي تقول (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) !
لكن غاب عن باله أن سهير سياسية راقصة
تعرف كيف ترقص على الحبال دون أن تسقط، فلم تمض فترة على زواجهما حتى علمت أن لديه
دولة عميقة تسكن في الدور الأرضي من نفس العمارة، فواجهته بالحقيقة، لكنه أنكر، فطار
صوابها وهي تراه يضيف إلى جريمة خيانته جرماً آخر هو الكذب، فانفجرت في وجهه واندفعت
تخمش وجهه، وتشد ما تبقى من شعر رأسه، وتصمه بكل ما في معجم السياسة الأسود من مصطلحات
! فردّ عليها بصفعة غاضبة أشعلت نيران غضبها دفعة واحدة، فراحت تقذفه بما حولها من
أثاث وزجاج، واشتدت المعركة بينهما حتى أصبح البيت ميدان حرب طاحنة أيقظت الجيران الذين
جاؤوا يستطلعون الخبر، ووصلت أصداء الحرب إلى أسماع الدولة العميقة في الدور الأرضي،
فصعدت عايدة لتجده يعكف على كتابة إقرار تحت تهديد الكيان الموازي، فأسرعت إلى المطبخ
وعادت بعد لحظات تحمل سكيناً كبيرة أشبه بالساطور ، وفي اليوم التالي صحا عدنان فوجد
نفسه في السرير ومن حوله وفي ذراعه أجهزة العناية المشددة، وشيئاً فشيئاً بدأ يصحو
على الكوارث التي حلّت به ، فقد أجبره الكيان الموازي على الاستقالة من رئاسة الحزب، وقضت الدولة العميقة
على رجولته كي لا يفكر بالسياسة ونظرياتها مرة أخرى!!
- لكن ما الذي انتهى بي إلى هذه النهاية
؟!!
تساءل بينه وبين نفسه ..
فوجد الجواب في نظرية " الفوضى
الخلاقة" التي اختارها لتحكم مسيرة حياته، واكتشف بعد فوات الأوان أنه اكتفى من
النظرية بنصفها الأول ... الفوضى !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق