يرفض الإسلاميون الدولة الدينية (
الثيوقراطية) بدعوى أنها تقاد من قبل رجال دين يزعمون أن ما يقولونه هو عين ما يقوله
الله، ما يجعل لرجال الدين صلاحيات مطلقة فيرتكبون ضد المجتمع فظاعات رهيبة سجلها تاريخ
أوروبا في العصور الوسطى، وهذا ما جعل الناس عبر العصور ينفرون من الدولة الدينية،
فلا غرابة أن يرفضها الإسلاميون على الرغم من طبيعتها الدينية، وللغرابة يرفضون في
الوقت نفسه "الدولة العلمانية" بدعوى فصلها الدين عن الدولة !!!
وفي مقابل رفض الإسلاميين هذين الشكلين
للدولة نراهم يختارون "الدولة المدنية" ويشترطون فيها المرجعية الإسلامية،
وبهذا الخيار يقعون - عن وعي أو غير وعي - في خطأ مضاعف، لأن الدولة المدنية ذات المرجعية
الإسلامية ما هي في الحقيقة إلا دولة خليط من الدولة العلمانية والدولة الدينية، وهما
الشكلان اللذان يرفضهما الإسلاميون، فالدولة المدنية هي في الحقيقة دولة علمانية لاعتمادها
آليات العلمانية كالديمقراطية وأخواتها ، والدولة المدنية هي دولة دينية لاشتراطها
مرجعية دينية !!
ولعل أخطر ما في هذا الخيار من الإسلاميين
أنه يدفعهم إلى تسويغ المفاهيم العلمانية من خلال ربطها ببعض النصوص الشرعية انسجاماً
منهم مع خيار الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، وبهذا يرتكبون خطأ كبيراً بحق الدين،
من هذه المفاهيم مثلاً (مفهوم حرية الرأي وحرية الاعتقاد، ومفهوم المواطنة .. ) وغير
ذلك من المفاهيم السياسية التي مهما حاول الإسلاميون تطهيرها فإنها لن تبرأ من دنس
العلمانية!!
وإن تعجب فعجب قولهم : إن الإسلام
لا يتعارض مع هذه المفاهيم، بل إن معظم الإسلاميين يفاخرون بأن الإسلام كان سباقاً
إلى القول بهذه المفاهيم مستندين في زعمهم هذا إلى نصوص من الكتاب والسنة بعد قطع هذه
النصوص عن سياقها، مثل تسويغهم حرية الاعتقاد بالاستناد إلى قوله تعالى : (لا إكراه
في الدين) وقوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) !!؟ ونحو هذه النصوص التي
يقطعونها عن سياقها في سبيل الانتصار لمذهبهم الساعي لتسويغ مفاهيم تأباها مقاصد الشريعة،
ولا جدال بأن هذا التعسف في التعامل مع النصوص سوف يعود مع الزمن بكوارث جمة على الإسلام،
لأن هذا التعامل مع النصوص يسيء إلى مبادئ الإسلام، ويحرف بعض أصوله عن مقاصدها
!!!
ومن هنا نقول إن الهروب من الدولة
العلمانية والدولة الدينية إلى دولة مدنية بمرجعية إسلامية لا يحل إشكالية الحكم التي
يجتهد الإسلاميون اليوم في تأسيسها، بل إن اشتراطهم للمرجعية الإسلامية هرباً من العلمانية
لا يمثل الحل، وإنما يضعهم في مأزق كبير يدفعهم للتعسف بالنصوص، وتجاوز بعض مقاصد
الشريعة كما بينا !
وعند التدقيق في هذه الإشكالية التي
يضع الإسلاميون أنفسهم فيها تعود إلى وقوعهم في أسر النظريات الغربية التي باتت توهم
الساسة عامة أن ممارسة السياسة اليوم غير ممكنة إلا باستخدام الطرائق والآليات العلمانية
، وبسبب الوقوع تحت أسر هذه الرؤية فقد أخفق الإسلاميون في تأسيس نظرية في الدولة تنطلق
من الإسلام تجيب عن الإشكاليات التي أشرنا آنفاً إلى جانب منها... نظرية تستطيع أن
تحاور العصر حواراً إيجابياً فاعلاً، لكن هذا في اعتقادي غير ممكن إلا بعد التحرر من
نظريات الآخرين التي تأسرنا ببريقها الكاذب ... فهل نحن فاعلون ؟!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق