عدت إلى البيت أطير فرحاً وأنا
أحمل شهادة الدكتوراه في الطب ...
تلقتني أمي سعيدة باسطة ذراعيها
لاحتضاني، فأهويت لأقبل قدميها عرفاناً لدورها في نجاحي .. لكنها منعتني، وطوقتني
بذراعيها وانهمرت علي تقبيلا، وهي تقول :
-
الحمد لله .. الحمد لله .. الله يرضى عليك ..
مبروك .. ألف مبروك (وضحكت ضحكتها
الرنانة المعتادة حين تكون في قمة السعادة قبل أن تقول) صار لازم نفرح بك
الفرحة الكبيرة .. ونبحث لك عن بنت الحلال ؟!
وكان أبي قد توقف عن تلاوة
القرآن، فطوى المصحف ووضعه في الجراب وعلقه في مكانه العالي، وجاء فأخذني بين
ذراعيه، وقبلني وهو يردد:
-
الحمد
لله .. الحمد لله ..
وأخذ الشهادة من يدي وراح يتأملها
بسعادة غامرة، وترقرقت عيناه، وأردف :
-
الله
يرضى عليك .. الله يرضى عليك .. رفعت راسنا
وأشار بيده نحو أمي وأضاف :
-
الحجة
معها حق .. لازم نفرح بك الفرحة الكبيرة .. وبنت الحلال جاهزة .. بنت عمك المعلمة
"زهرة" تنتظر إشارة منك ..
قلت بامتنان :
-
على
راسي أنت والحجة .. ( وقلت في نفسي :
نعم الاختيار .. زهرة أجمل بنات العيلة .. والوحيدة بينهن التي حصلت على شهادة
جامعية )
وتصنعت الجدية التي
تليق بهذا الخبر الذي انتظرته طويلاً، وقلت :
-
أنا
جاهز .. وما دامت هذه رغبتكما فعلى بركة الله
فرفع أبي رأسه نحو
السماء وردد :
-
على
بركة الله .. الله يرضى عليك .. الله يوفقك ويهنيك ..
وتزوجت زهرة ..
وسكنت وإياها الغرفة الصغيرة في
دار الوالدين
وبدأت زهرة تنجب ..
ليس كل تسعة أشهر مثل بقية النساء
.. بل كل ثمانية أشهر وأحياناً سبعة .. وليس بالمفرق .. بل بالجملة .. توأمين ..
توأمين .. في كل بطن ..
وغمرتنا السعادة بالأولاد الذين
حباهم الله جمال الأم .. وذكاء الأب .. لكن ضاقت علينا الغرفة، وبدأت الديون تثقل
كاهلنا، وبدأنا نحمل هم المستقبل الذي أصبح حاضراً أسرع مما توقعنا، فجلسنا ذات
مساء نبحث عن حل لهذه الزيادة السكانية غير المتوقعة، فقالت زهرة :
-
أفضل
حل أن نسافر للعمل في الخليج .. كما فعل جارنا الخباز "أبو سعيد" الذي
سافر سنتين فقط وعاد فاشترى بيتا .. وبنى فرنا جديداً..
قلت :
-
والله
.. فكرة طيبة .. ولا أكتمك أنها فكرة تلح علي منذ مدة .. لكن.. لمن أترك الوالدين
؟!
قالت :
-
لن
نتركهما .. سنرسل لهما من هناك مالاً يكفيهما وزيادة .. فقد آن لعمي أبي عدنان أن
يستريح من السعي بين الحارات لبيع البليلة ، وآن لخالتي أم عدنان أن تترك شغل
الدايات وتتفرغ للصلاة والعبادة ..
قلت :
-
كلام
معقول .. لكن لا بد أن أشاورهما أولاً ..
قالت زهرة :
-
صدقت
.. شاورهما هذا واجب .. وأنا واثقة أنهما لن يعارضا .. ثم .. نحن لن نغيب طويلا ..
كلها سنتين أو ثلاثة نجمع فيها عشرة آلاف ونعود فنشتري دارا واسعة لنا جميعا،
ونفتح لك عيادة محترمة تدر علينا دخلا طيبا بإذن الله ..
قلت :
-
هو
كذلك .. وعلى بركة الله ...
ووافق الوالدان دون تردد ..
وسافرنا ..
وبقينا في الخليج نكدح ليلا
ونهارا .. لا سنتين .. ولا ثلاثة .. بل ثلاثين .. حتى ضقنا بالغربة، وبرح بنا
الشوق إلى ياسمين الشام، وإلى دفء الأهل والعشيرة .. فعزمنا على المغادرة ..
فأنهيت كل علاقاتي ..
ورددت لأصدقائي ما تراكم علي من
ديون .. وجلست أحصي ما بقي لدي من مال فوجدتها خمسة عشر ألفا، فسجدت شكراً لله
الذي وفقنا لتوفير أكثر مما حلمنا به .. ودونما تردد تناولت هاتفي الجوال وأرسلت
على الفور رسالة إلى أخي "محمود" :
-
(محمود
.. نحن راجعون إلى الشام خلال شهر .. صار معي خمسة عشر ألفا .. الله يرضى عليك..
فتش لي عن أفضل دار في الشام .. لأشتريها )
ولم يطل انتظاري، فقد رد محمود
برسالة قال فيها :
-
(
صح النوم .. يا حكيم .. البيوت في الشام لم تعد بالآلاف !! صارت بالملايين !!
)
قلت في نفسي :
-
(
ملايين !؟ لا يهم .. وسوف أعود إلى الشام ولو نمت على الرصيف
وفكرت لو بقيت بعيدا عن الشام سنة
أخرى.. لن أراها ثانية .. فلم يبق في العمر بقية، وقد جاوزت الستين !
وعدت إلى ياسمين الشام، ودفء
الأهل والعشيرة ..
وحطت بنا الطائرة مساء في مطار
دمشق ..
فأجلست زوجتي والأولاد في الصالة،
وأسرعت لأنهي الإجراءات الرسمية ..
دفعت جوازاتي الثمانية إلى
الموظف، فراح يقلبها بين يديه، حتى عثر على جوازي وبدأ يتفحصه، ثم ضغط على أزرار
الكمبيوتر، وراح يتفرس في وجهي تارة، وفي الجواز تارة، وفي شاشة الكمبيوتر تارة
أخرى، ثم مد يده الغليظة فضغط على شيء أمامه على المكتب، وما هي إلا لحظات حتى
أحسست بقبضتين غليظتين تمسكاني عن يمين وشمال، وقبل أن يشحطاني من الطابور التفت
إلى الموظف أنبهه قائلاً :
-
عائلتي
في الصالة ؟!!
فقطب بين حاجبيه واحتقن وجهه
بالغضب ، واكتفى بوضع سبابته على فمه ( اخرس) وحرك يده بعصبية ظاهرة، فشحطوني على
الفور حتى وجدت نفسي أمام مكتب بابه حديدي، فتحه أحدهم ودفعني الآخر إلى الداخل،
وسمعت مغلاق الباب من خلفي، ونظرت حولي فإذا أنا وحيد في غرفة خالية من كل شيء ..
لا فرش على الأرض.. لا كرسي أجلس عليه ..لا كأس ماء .. لا نافذة ..
-
(إذن
أنا رهن الاعتقال) قلت أحدث نفسي، وأسرعت فأسندت ظهري إلى الجدار تحسباً من
الانهيار، ورحت أسترجع ما مر بي في حياتي لعلي أجد تفسيراً لما يحصل لي ..
فلم أجد سبباً، وداهمني النعاس فانزلقت إلى الأرض .. ولم أصح إلا على بسطار عسكري
يركلني في الخاصرة بلا رحمة، وصوت يأمرني بنبرة تهديد :
-
قم
.. تحرك .. وإلا !
فتحاملت على نفسي، ووقفت بصعوبة
على قدمي خوفا مما هو أشد من البسطار والتهديد، وانتبهت إلى ضوء النهار يتسلل من
أطراف الباب الحديدي، فأدركت أني قضيت الليل نائما على الأرض، فضربت الأرض بقدمي
انتقاماً لبرودتها التي جمدت أطرافي وكسرت عظامي!
وسارع الجندي فأخرج الكلبشات وقيد
يدي من خلفي، واقتادني خارجا حتى وصلنا إلى سيارة عسكرية كانت تنتظر عند الرصيف،
وفتح الباب ودفعني إلى الداخل حيث تولى جندي آخر ربط عصابة نتنة على عيني !
وانطلقت بنا السيارة .. تسرع تارة
.. وتبطئ تارة .. وتميل تارة نحو اليمين .. وتارة نحو اليسار.. ونحن خلال ذلك
نرتطم بالأطراف الحديدية القاسية!
وطال بنا الطريق ..
وغفوت عدة مرات لشدة تعبي، وكلما
أفقت ظننت أنا وصلنا .. لكنا لم نصل إلا وقد أشرفت الشمس على المغيب وأشرفت أنا
على الموت ..
-
احترامي
سيدي ..هذا هو الموقوف 13 ..
قال العسكري الذي أدخلني على ضابط
يحمل على كتفيه الكثير من النجوم فنظر الضابط إلي نظرة متعالية، وتناول جوازي من
العسكري وقلب صفحاته ونقر نقرات سريعة على لوحة الكمبيوتر، ثم بحركات عصبية ألقى
الجواز في درج مكتبه كأنه يتخلص من قذارة، وأخرج قطعة بلاستيكية قدمها للعسكري
الذي سارع فربطها على ذراعي كالإسورة، فلمحتُ مكتوباً عليها الرقم 13 بخط أسود
عريض، فأيقنت أني أصبحت من هذه اللحظة مجرد رقم بين الآلاف الذين سبقوني إلى هنا
ممن اعتقلوهم خلال السنوات القليلة التي مضت على انقلاب "حافظ الأسد"
على رفاقه في الحزب عام 1970 فيما سماه "الحركة التصحيحية"
التي تسلط من خلالها على حكم البلاد، وبدأ يعتقل الناس على الشبهة ! لكن (
تساءلت بيني وبين نفسي ) ما دخلي أنا بكل ذلك ؟! فأنا .. لست عضوا في حزب ولا
جماعة، ولم أتعاط السياسة في حياتي .. فلماذا أعتقل ؟!) وجمعت كل شجاعتي وما تبقى
من قوتي وتجرأت فسألت الضابط بلسان متعثر، وأطرافي ترتجف:
-
سيدي
.. هل لي .. أن .. أعرف .. ما هي مشكلتي ؟
فانتفض الضابط من خلف مكتبه
كالملسوع، وعاجلني بصفعة على وجهي أجهزت على ما تبقى بي من قوة، فهويت إلى الأرض،
وأظلمت الدنيا في عيني، وعندما صحوت وجدت نفسي على الأرض وحيدا في غرفة ضيقة أشبه
بالثلاجة، فقد كانت برودة الأرض الاسمنية تنخر في عظامي ورياح الشتاء تتسلل من خلل
الباب المكون من قضبان حديدية فتضاعف آلامي .. وتلفت أبحث عن دفء العشيرة الذي
أعادني إلى الشام فلم أجد في هذا الخلاء الموحش غير البرودة والسراب!
وتحاملت على نفسي حتى قمت عن الأرض
لأنجو من برودتها المعادية، وأسندت ظهري إلى الجدار، ورحت أفكر بما ينتظرني في
نهاية هذه المتاهة، فغامت الدنيا في عيني، وأظلم المكان فجأة، ولم أصحو إلا على
بسطار عسكري يركلني للمرة الثالثة فأحسست بالسخط وأنا أكتشف مهمة وطنية جديدة
للبسطار في هذا العهد العسكري (الميمون .. كما يصوره إعلامهم )!
ولدهشتي.. رأيت على وجه العسكري
ابتسامة هادئة أدخلت إلى نفسي بعض الراحة، واطمأنت نفسي عندما رأيته يمد لي يده
ويساعدني على النهوض وهو يقول :
-
اطمئن
.. أخي .. اطمئن .. سنذهب الآن إلى العيادة لإجراء بعض التحاليل
لك (وأنهى السيكارة التي كانت في يده وألقاها أرضا وداسها بنفس البسطار
الذي داس كرامتي، وكرر يقول) اطمئن .. هذا إجراء طبي معتاد نجريه لكل ضيوفنا
...
( ضيوف ؟! أهكذا أصبحت الضيافة
في هذا العهد الميمون ؟!! ) قلت في نفسي وكدت أنفجر بالضحك وأنا أتذكر قول
القائل ( شر البلية ما يضحك !) ومضيت مع الحارس إلى العيادة التي أجلسني فيها
بانتظار الطبيب الذي لم يكن قد حضر إلى الدوام بعد !
ولم يطل بي الانتظار فما هي إلا
دقائق حتى رأيت الدكتور من بعيد مقبلا بردائه الأبيض، ولما صار على بعد خطوات مني
هممت أن أخرج لملاقاته والسلام عليه، إذ لم يكن الدكتور سوى زميلي في كلية الطب "سهيل
الأحمد" الذي كان من أقرب الزملاء إلي في الكلية، بعد أن التقينا على حب
الرسم والشعر والفن، وتوطدت بيننا صداقة عميقة شجعتني على طلب الزواج من أخته "سلافة"
لكن عائلتها رفضت بسبب اختلافنا في المذهب !
وكانت فرحتي عظيمة بهذه المصادفة
السعيدة التي جمعتني بهذا الصديق العزيز، في هذا المكان المفخخ بالمفاجآت !
ولشدة فرحي بلقائه نسيت طبيعة
المكان الذي جمعنا بعد سنوات من الفراق، ووجدتني أستعيد نشاطي وأنسى كل العذابات
التي مرت بي في يوم وليلة، وتضرعت لله في نفسي قائلاً:
-
(
الحمد لك يا رب .. جاء الفرج سريعاً)
لكن فرحتي لم تدم طويلاً ..
فقد وجدت صديقي العزيز يتجاهلني،
لكن سرعان ما استدركت وقلت في نفسي ؛
-
(
إنها سنوات طويلة لم نلتق خلالها .. فلا غرابة أن لا يعرفني سهيل .. لاسيما وقد
غزاني الشيب والصلع )
وتأكدت ظنوني وأيقنت أنه لم
يعرفني فعلاً حين رأيته يدخل العيادة ويجلس خلف مكتبه دون أن يسلم علي، ودون أن
يقول كلمة، وجلس إلى مكتبه فأخرج سيكارة اشعلها بهدوء دون أي اكتراث لوجودي، لكنه
بدا قلقاً متوتراً يتلفت هنا وهناك كأنما يخشى وجود من يراقبه، فلما اطمأن دفن
السيكارة في المنفضة وانفرجت أساريره وقام من خلف مكتبه، وأقبل نحوي، شد يدي حتى
وقفت، فأخذني بالأحضان وهمس في حذر :
-
اعذرني
.. أخي دكتور عدنان لقد عرفتك من أول لحظة .. لكني تعمدت أن لا أظهر ذلك ..
فالأفضل هنا أن لا يعرفوا العلاقة بيننا !
فهززت رأسي شاكرا وموافقا، وعدت
إلى الجلوس وأنا أردد :
-
والله
زمان يا سهيل .. والله زمان !!
قال :
-
نعم
.. والله زمان .. يا عدنان ! نصف قرن مضى لم نلتق خلاله .. أليس كذلك ؟!
هززت رأسي قائلاً :
-
تقريبا
..
وانطلقنا نضحك فرحين بهذا اللقاء
بعد سنين طويلة من الفراق .. ونظرت إلى وجهه فرأيته قد تهلل بسعادة ذكرتني بأيام
زمان، فقلت :
-
والله
اشتقت لك يا سهيل .. واشتقت لبقية الشلة المشاغبة ..
في إشارة مني إلى الفرقة المسرحية
الغنائية التي شكلناها معا في الكلية..
واطمأنت نفسي وأنا أجدني مع هذا
الصديق العزيز الذي قضيت وإياه سنوات طويلة كنا فيها أشبه بأخوين ليس فقط بسبب
الأدب والفن والرسم، بل لاتفاقنا الفكري حول الحياة والحرية، واستنكارنا
للدكتاتورية والطائفية التي بدأ "الأسد" يؤسس لها في البلاد، وقد
توطدت علاقتي بسهيل لاستنكاره الشديد للطائفية رغم أنه من نفس الطائفة!
ورأيته يعود فيجلس في مكتبه وقد
أشرق وجهه بهذا اللقاء .. واستدار فتناول من الثلاجة الصغيرة بجانبه زجاجة عصير
وقدمها لي، لكنه طلب مني التريث في تناولها ريثما يأتي الممرض فيسحب مني عينة
الدم، ومد يده فرفع السماعة وطلب الممرض "عمر" .
وبدأ يخبرني عن نفسه.. فعرفت أنه
تطوع في الجيش بعد تخرجه من كلية الطب بسنة واحدة وأنه أصبح الآن برتبة عميد، وأنه
منتدب للعمل نائبا لمدير السجن لمدة سنة واحدة تمهيداً لإرساله في بعثة خاصة إلى
الاتحاد السوفياتي للاختصاص في "طب السجون" وقطع حديثه فجأة حين
سمع وقع خطوات في الخارج، واستدار عني، وتظاهر بالقراءة في إحدى الصحف تحسبا لدخول
أحدهم علينا ، فلما اطمأن عاد يسألني همساً بحذر ظاهر :
-
وأنت
.. أخي عدنان .. خبرني .. ماذا فعلت بك الأيام .. ؟ وما الذي أوصلك إلى هنا ؟!
فحكيت له قصة التغريبة الخليجية
وما عانينا فيها .. ولما علم أنني بعد ثلاثين سنة من العمل في لهيب الخليج عدت (
ربِ كما خلقتني .. يد من ورا ويد من قدام !) انفجر ضاحكاً حتى سقطت السيكارة من
بين شفتيه، فيما أكملت أنا :
-
أما
سبب استضافتي هنا عندكم .. فأتوقع أن أجد الجواب عندك .. سيادة العميد (
واستدركت قائلاً ) يا نائب المدير !
فانطلق يضحك بانبساط، ولم يتوقف
إلا عندما رأى عبر ستارة النافذة خيال أحدهم يمر قادما إلى العيادة ..
وعندما دخل القادم كانت المفاجأة
الثانية لي ..
فلم يكن القادم سوى الممرض "عمر"
تلميذي المقرب في المعهد الصحي، سلم عمر علينا، وأخذني بالأحضان وهو يناديني (
أستاذي ) كعادته أيام المعهد، وسأله سهيل عن علاقته بي فأخبره بقصة المعهد .. وبدأ
سهيل يجمع أوراقه وأشياءه استعداداً للذهاب، وقبل أن يغادر طلب من عمر سحب عينة
الدم مني وإرسالها فورا إلى المختبر مع توصية خاصة باسمه شخصيا لإرسال النتيجة فور
ظهورها ودون تأخير، قال عمر :
-
حاضر
.. سيدي !
وغادرنا سهيل، بعد أن طمأنني أنه
سوف يعمل اللازم للاهتمام بي وعدم التعرض لي بأي أذى ..
لكني في الحقيقة لم أطمئن ..
ولم يزايلني الخوف رغم إحساسي
بصدق صاحبي، ورغم لقائي بعمر .. فهذا النوع من السجون تنطوي دوماً على مفاجآت غير
متوقعة .. لكني حاولت إبعاد كل الهواجس عن
بالي كي لا أعكر فرحتي بلقاء هذين الصديقين العزيزين !
وجلست مع عمر ..
ورحنا نسترجع أيام المعهد، ثم
سألته عما جاء به إلى هنا، فأخبرني أنه بعد تخرجه من المعهد أصبح موظفاً في
المستشفى المركزي، وأن وزارة الصحة انتدبته للعمل في السجن لفترة محدودة لتغطية
عمل الممرض "محمد" الذي سجنوه ثم طردوه بسبب تعاونه مع بعض
المساجين ..
وفاجأني عمر فقام إلى باب العيادة
وراح يتلفت هنا وهناك حتى يطمئن أن "المكان أمان" وعاد فاقترب مني
وسألني بهمس وحذر :
-
ما
علاقتك بهذا الدكتور .. الحقير ؟!
-
حقير
؟! كيف تقول هذا يا عمر ؟! سهيل من أعز أصدقائي !!
ضرب عمر كفه على جبهته في ألم
واستنكار وقال :
-
مستحيل
!! أين الثرى من الثريا ؟!
-
ماذا
تعني ؟
-
أعني
أنت رجل محترم .. كل الذين عرفوك في المعهد مازالوا يحلفون برأسك حتى اليوم .. أما
سهيل فهو طبيب خائن .. خان شرف المهنة .. وخان الوطن.. وخان كل شيء !!
-
كيف
.. عمر ؟! شغلت بالي .. قل لي ما الحكاية ؟!!
-
الحكاية
.. أن هذا الطائفي المسعور يشرف بنفسه على تعذيب المعتقلين .. بل ابتدع وسائل طبية
للتعذيب لا تخطر على بال الشياطين ..
-
معقول
؟!! سهيل يفعل هذا ؟! مستحيل !!
قال عمر وهو ينفخ في يأس :
-
أستاذي
.. ليت الأمر توقف عند هذا الحد !
-
ماذا
تعني ؟!
-
أعني
صاحبك هذا.. لم يكتف بكل هذه الجرائم .. بل أمر ببناء محرقة رهيبة في السجن للخلاص
من جثث المعتقلين الذين يموتون تحت التعذيب حماية للنظام الفاجر من أن يجرونه إلى
المحاكم الدولية بتهمة انتهاك حقوق الإنسان !
وفوجئت
بعمر يضحك ضحكة مقتضبة قبل أن يكمل :
-
صاحبك
.. هذا .. بعد بناء محرقته اللعينة صار لقبه بين المساجين "أبو لهب" !
قلت في حيرة :
-
عجيب
! شيء .. لا يصدق !!
قال عمر وهو يضحك في ألم :
-
مهلك
.. أستاذي الغالي .. لم تنته حكاية أبو لهب بعد ..
قلت
في حيرة :
-
وهل
هناك بعد .. أكثر من هذه الجرائم ؟!!
هز
عمر رأسه وأشار لي بيده ( طول بالك ) وأردف :
-
أستاذي
الكريم .. أنت لم تسمع بعد أهم فصل في سيرة هذا الحقير .. فهو يختار بين الحين
والآخر نخبة من شباب المعتقلين الذين يتمتعون بصحة جيدة، فيرسلهم إلى
"المستشفى المركزي" بعد أن يوهمهم بإجراء بعض التحاليل .. وهناك يخضعون
إلى عمليات جراحية لاستئصال بعض أعضائهم وإرسالها إلى إيران ولبنان وروسيا
وإسرائيل وأوروبا لاستخدامها في زراعة الأعضاء .. مقابل أموال طائلة .
سألت عمر وأنا لا أكاد أصدق أن
تصدر كل هذه الأفعال عن صديقي الفنان الذي كان غناؤه يبكي العشاق لرقته وعذوبته :
-
أخي
عمر .. ما الذي يحصل لهؤلاء المساكين بعد ذلك ؟ لابد أنهم يصدرون لهم أحكاما
بالبراءة ويطلقون سراحهم !؟
قال عمر وهو يبتسم ابتسامة ذات
مغزى وقال :
-
أستاذي
الكريم .. أنت رجل طيب أكثر من اللازم ..
-
...؟!!!
-
هؤلاء
المساكين .. أستاذي .. تختفي أخبارهم تماما بعد ذلك، فبعضهم يموت بعد العملية
بساعات قليلة لكثرة الأعضاء التي يخسرونها، ومن يبقى منهم على قيد الحياة يحقنونه بحقنة سامة تخفي آثاره
إلى الأبد..
-
مستحيل
!! مستحيل .. كل هذا يجري في البلد !!
قال عمر وقد ترقرقت الدموع في
عينيه :
-
أستاذي
الكريم .. نعم يحصل ما هو أشد فما خفي أعظم !!
فسألته :
-
وكيف
عرفت أنت هذه المعلومات ؟!
فأجاب :
-
هذه المعلومات عرفتها من زملائي في المستشفى
المركزي .. ومن الدكتور سهيل نفسه .. فهؤلاء الحاقدون لم يعودوا يحرصون على إخفاء
هذه الجرائم بعد أن أحكموا السيطرة على البلد .. بل أصبحوا يتعمدون تسريب أخبارها
بين الحين والآخر لنشر الرعب بين الناس !!
قلت وقد صدمني الخبر :
-
هذا
آخر ما كنت أتوقعه من سهيل صاحب الأصابع الرشيقة التي خط بها أجمل ما رأيت في
حياتي من لوحات، وأعذب ما سمعت من تقاسيم العود والبيانو ؟!!
قال
عمر :
-
لا
غرابة .. أستاذي الكريم .. فما يحصل في البلد في ظل هذا النظام الحاقد أغرب من
الخيال !!
وسكت عمر وانسكبت عبراته .. فربت
على كتفه أهدئ روعه وأخفف الحزن الذي استولى عليه !
ونمت تلك الليلة مرتاحاً بعد أن
أعطاني عمر بطانيتين ..
وفوجئت في الصباح الباكر بسهيل
يرافق الحارس الذي فتح علي زنزانتي، ومد سهيل يده نحوي بورقة وهو يبتسم ابتسامة
عريضة ويقول بعد أن صرف الحارس :
-
مبروك..
مبروك .. هذا قرار رسمي بتكليفك لمساعدتي في العيادة .
قلت :
-
أشكرك
.. أشكرك .. أخي سهيل ..هذه خدمة لن أنساها لك أبداً
واحتضنته شاكراً وقلت في نفسي
(الحمد لله، فمن اليوم سوف يعاملوني طبيبا لا معتقلا) ونظرت إلى سهيل وقلت مع ضحكة
مداعبة :
-
شكراً..
شكراً .. سيدي العميد
-
عميد
؟! (رد سهيل وهو يضحك، وأردف يقول) وهل
نسيت اسمي ؟!
قلت :
-
لا
.. طبعاً .. لم أنسَ .. لكن يجب أن أتعود على مناداتك بصفتك الرسمية ما دمت قد
أصبحتُ هنا مساعدك ..
قال :
-
صدقت
.. فهذا أفضل كي لا يكتشفوا العلاقة بيننا
وبدأت العمل معه في العيادة ..
وبدأت أكتشف أسرار السجن، وحزنت
لما صار إليه سهيل الذي كان أشدنا حماسة في معارضة الاستبداد والفساد والطائفية ..
فكيف انقلب هكذا وحشاً معجوناً بالشر ؟!
وجاء يوم ..
طلب فيه سهيل إحضار عدد من
المعتقلين الشباب، وجهزهم ليرسلهم إلى المستشفى المركزي فتذكرت حديث عمر ورحت أفكر
بطريقة لأمنع الكارثة الوشيكة، لكني لم أستطع أن أفعل شيئا.. فأنا هنا لست سوى
معتقل .. ولا يغير من هذه الحقيقة ذلك القرار الرسمي الذي جعلني مساعداً لنائب المدير !؟
وفاجأني سهيل فطلب مني مرافقة
الشباب لتسليمهم إلى المستشفى، وأحصل على توقيع المسؤولين هناك بالتسليم، فوافقت
دون تردد.. فهي فرصتي لأطلع بنفسي عما يجري هناك ..
وانطلقنا نحو
المستشفى في رحلة طويلة لم يرقأ لي فيها دمع وأنا أرى وجوه هؤلاء الشباب وهم يتبادلون
نظرات باسمة مختلسة عن عيون الحراس المرافقين؛ بعد شهور وربما سنوات من الفصل
القسري في الزنازين المنفردة .. كانوا شبابا في ريعان الصبا تملؤهم أحلام لا حدود
لها ، نظرت في عيونهم فلمحت سعادة غامرة؛ فقد أحسوا بمجرد مغادرة سور السجن أنهم
أصبحوا أحراراً؛ غير عارفين بالكارثة التي تنتظرهم في المسلخ، وضاعف من ألمي
ومأساتي أني عاجز على فعل شيء من أجلهم، بل ركبني إحساس مرير بالذنب أني أنا الذي
سوف أسلمهم للذبح !
وصلنا المستشفى ..
وتم التسليم بسلاسة غير معهودة في
مثل هذه المؤسسات الحكومية التي عشش فيها الفساد والخراب، وأصر المدير الطبي "دكتور
أصلان" على دعوتي إلى مكتبه للراحة من تعب الرحلة التي استغرقت منا
ساعتين أو تزيد .. فجلسنا معاً نشرب القهوة ونتبادل أطراف الحديث حتى مالت الشمس
إلى الغروب ..
وصحوت على نور الشمس الساطع يلسع
وجهي، وفوجئت بنفسي مستلقياً في السرير، وإبرة المصل مغروزة في ذراعي، وجاء طبيب
مع ممرضة تدفع أمامها عربة الضمادات، واقترب مني فعدل سرعة قطرات المصل، وهو يقول
:
-
الحمد
لله على السلامة .. يا دكتور ..
-
(
ما الذي حصل ؟!)
سألت نفسي، وأنا أرى الطبيب يلبس
القفازات الطبية في كفيه، فيما سارعت الممرضة تكشف عن بطني، والتفت الطبيب نحوي
وقال :
-
عن
إذنك .. سوف نغير لك ضمادات العملية..
-
(
عملية ؟!) رددت في أعماقي، وانتابني الرعب وفار
الدم في رأسي وأنا أكتشف أنهم أجروا لي العملية بعد تخديري بفنجان القهوة !
وانتهى
الطبيب من تغيير الضماد وأعاد الغطاء فوقي، والتفت إلى الممرضة قائلاً لها :
-
هاتٍ
"الحقنة"
-
يا
لطيف ! الحقنة ؟!!
صرخت في أعماقي، وانخلع قلبي من
الرعب وأنا أتذكر حديث عمر عن الحقن السامة، فنفضت الغطاء عن نفسي وسحبت الإبرة من
ذراعي وسط دهشة الطبيب والممرضة، وانطلقت أبحث عن مهرب من هذا المسلخ، ولم يوقفني
إلا "بردى" الذي اعترض طريقي فانحنيت على مائه الطاهر؛ توضأت
وسجدت شكراً لله الذي أنقذني من موت محقق، ووقفت أبث بردى أحزاني وأسأله عما جرى
لي؟ فأخبرني أن سهيل .. صديقي العزيز .. هو الذي فعلها .. ورتب لي هذا "الفخ"
مع المدير الطبي ! والتفت فوجدت عن يميني شجرة حور وارفة قد حفر أحدهم على جذعها
صورة قلب بأنامل عاشق ولهان، وسهم "كيوبيد" رسول الحب يخترق
القلب، وحول الصورة حفرت أسماء كثيرة للعشاق الذين مروا من هنا، وعبارات عشق وهيام
تنتشر على الجذع ، ولفتني بين العبارات عبارات محفورة بعمق كأنما حفرت بأنامل
مكلومة تنادي بسقوط "البعث" وسقوط "الأسد" !
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق