لعل اهتمام الفرد بحب الآخرين له، ينبثق من الدافع الاجتماعي، الذي يؤكد
رغبةً عند الإنسان بأن يكون مقبولاً من المحيط الذي يعيش فيه.
ويزداد هذا الاهتمام عندما يَمنح الفردُ الآخرين حبَّه وتقديره، فهو ينتظر
منهم أن يقابلوا حُبّه بحبّ، وتقديرَه بتقدير.
أما الحب في الله، فهو ذو مرتبة رفيعة لا ينالها إلا المخلصون، لأن مَن
يحبك في الله يزداد حبه لك كلما رأى منك ما يرضي الله تعالى. ومن هنا جاءت
الأحاديث النبوية في فضل هذا الحب.
روى الترمذي – وقال: حديث حسن صحيح – عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال
الله عز وجل: المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور، يغبطهم النبيّون والشهداء".
في لقاء ضمّ إخوةً كراماً، تحدَّث أحدهم عن الحب المفقود، أو عن نضوب
القلوب من مشاعر الحب الذي كانت تجيش به في عهودٍ خلتْ. وعقّب أخ آخر فقال: إنني
أعتقد أن الحب ما يزال بيننا كسابق عهده، إلا أن الإنسان إذا تقدّم به العمر
اختلفت طريقة تعبيره عن مشاعر الحب الكامنة.
ومع احترامنا لوجهة النظر الأخيرة، فإننا نشعر أن الحب الأخوي الصادق
العميق قد خبا في أجوائنا إلا قليلاً، منتظراً منّا أن نهيئ أجواءه ليعود إلينا من
جديد. وليس التقدم في السن سبباً كافياً لتعليل مظاهر الجفاف!.
الحب في الله عاطفة فياضة، نشطة، هادفة... وخطاب روحي، ورسالة قلبيّة
حارة... ولا يصعب على صاحب قلب أن يلحظه في العيون والبسمات والكلمات.
دلائل الحب لا تخفى على أحد
كحامل المسك لا يخلو من العَبَقِ
أخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن زيد بن حارثة رضي الله عنه قدِم
المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرْياناً (لم يستر كتفيه وصدره) يجرُّ ثوبه. والله
ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده. فاعتنقه وقبّلَه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسِنّه حينذاك تقارب الستين، يخرج من بيته
فرحاً بقدوم زيد، حتى إنه لم يستكمل ارتداء ثيابه، تُحَرِّكُه العواطف الجياشة،
والحب الصادق.
إن من طبيعة الحب البشاشة والاستبشار، ووضوح بهاء الفرح والسرور، والشوق
والتلهف للقاء الحبيب، والتودّد والسماحة والبذل والتضحية والوفاء والإيثار...
وروى البخاري أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتبادحون
(يترامَوْن) بالبِطّيخ. فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال.
هذا المزاح بينهم، ألا يدل على عمق المحبة بينهم؟!
ويقول الأستاذ عباس السيسي: إنه عندما قارب الستين شعر أن عواطفه تشتد
تألّقاً تجاه إخوانه.
وعندما تجيش العواطف تعبّر عن نفسها بطرائق أكثر وضوحاً!
هل يمكن تعليل إعراض بعض الشباب عن الدعوة، بشُحّ العواطف التي تفيض عليهم
من إخوانهم؟! فكل شاب في حاجة ملحّة إلى قلب وحنان ورحمة... مما يفتقده المجتمع
الذي يعيش فيه.
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده
وقال: "يا معاذ والله إني لأحبُّك..." حديث صحيح رواه أبو داود
والنسائي.
وتأمّلْ عبارات التوكيد التي عبّر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن شدّة
حبه: يأخذ بيده، ويناديه باسمه، ويُقسم بالله، ثم يؤكد الكلام بـ"إن"
وباللام: يا معاذ والله إني لأحبك.
إنها مشاعر الحب الجياشة، وإنه الجمال في التعبير وفي الصلة.
وما أحوج الداعية اليوم أن يجذب أخاه إلى قلبه بعاطفةٍ حلوة من الحب الذي
سرعان ما يفجّر ينابيع القلب، ويُطْلق مسجون العواطف، ويلهب المشاعر، ويوقظ مَوَات
الحواس!!!.
وأنت حينما تحب أخاك لا تحبه لنفسك، إنما تحبه لله، فيفيض هذا الحب قوة
ونماء في الصف المسلم، وقد سئل الإمام البنّا رحمه الله: هل أنت غني؟! قال: نعم.
أنا غني بهذه القلوب التي تحابّت معي في الله.
روى الترمذي وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب
رجلاً مسلماً من البدو اسمه "زاهر" وكان رجلاً دميماً، فأتاه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل. فقال: أرسلْني،
من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر
النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه...
هل منّا، ممن هو في عمر الرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك، من يفعل ذلك؟ وهل
نتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة؟ إن هذه الدعابة من رسول الله لم تنقص
قدره، لكنها أثْرت مشاعر الحب المتأصل في نفوس الصحابة تجاه رسولهم وحبيبهم صلى
الله عليه وسلم.
ونجد كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتم مشاعره بالتعبير عن شدة
فرحه عندما عاد جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فقال: "والله لا أدري بأيّهما
أنا أشد فرحاً؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!".
وهذه مقارنة عظيمة. قد يَستغربها مَن لا يشعر بقيمة الحب في الله: بين فتحٍ
فَتَحَه الله على المسلمين بكل ما فيه من معانٍ دينية وسياسية... وبين لقائه صلى
الله عليه وسلم مع جعفر!!. أفرْحةُ هذا اللقاء تعادل فرحة نصر وفتح...؟؟ نعم إنها
لكذلك!.
وهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قدِم الشام استقبله أبو عبيدة
بن الجراح رضي الله عنه فصافحه وقبّل يده، ثم خَلَوَا يبكيان!! ترى ما الذي جعلهما
يبكيان؟ أهو شدة الشوق؟ أم هو الحب الذي لم يقدِرا أن يُعبرا عنه بالكلمات فقامت
الدموع مقامها...؟؟ ونعود لنسأل: كم كان سنّهما آنذاك؟؟.
وقد مرت على كل منا فترة من حياته كان الحب فيها هو السيّد، وكان الأخ لا
يطيق فراق إخوته عنه يوماً، بل ساعات... فلابد من الاتصال والاطمئنان واللقاء، ثم
يكون الوداع مقروناً بموعد اللقاء القادم، وهكذا...
وفي تلك الأوقات كانت الدعوة في أوج عطائها وتقدمها وقوتها، لأنها تستمد من
قوة الحب والإخاء قوة الاستمرار والبناء.
وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على زيد بن حارثة رضي الله عنه حين
أعلمه الله باستشهاده حتى انتحب فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله ما هذا؟ فقال
عليه الصلاة والسلام: "هذا شوق الحبيب إلى حبيبه".
فأين نحن من ذلك؟؟.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كنّ فيه وجد طعم
الإيمان: من كان يحب المرء لا يحبه إلا لله..." رواه مسلم. وقال صلى الله
عليه وسلم أيضاً: "من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل
الإيمان" رواه البخاري.
فإذا كان الحب في الله طريقاً لاستكمال الإيمان والشعور بطعمه وحلاوته
فلابد أن يُثْمِر عملاً وجهداً ونشاطاً وجهاداً يقدمه الأخ إلى أمته
وإخوانه... فمشاعر الحب في الله تُمِدُّ
الإخوة بطاقات وجدانية سامية، تفتح أمامهم مجالات للعمل والإنتاج، وهي كذلك تعمل على
تدريب الأخ من خلال شعوره بذاته العملية المنتجة.
إن الشعور بالحب والثقة بين الإخوان يجعلهم يَنْشُدون المثالية في التعامل:
إيثاراً وصفاءً وسماحة. وإن نضوب هذا الشعور يولّد حساسية مرهفة نحو أدنى تقصير
يراه الأخ من أخيه، ولو كان هذا التقصير عفوياً، أو كان موهوماً. وإذا حصل الخلاف
فسوء الظن، والامتناع عن قبول العذر، أو الامتناع عن الاعتذار، ثم التهاون في هتك
الأستار، وفضح الأسرار، وتلقّي أخبار السوء من غير توثيق، والترخّص في الغيبة
والنميمة.
إنه لا شيء يعوّض عن الحب في الله، ولا شيء يقوي الصف مثل الحب في الله،
ولا شيء يرفع مقام العبد عند ربه كالحب في الله... فلا عجب بعدئذ أن نجد التأكيد
مرة بعد مرة، في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على أهمية الحب في الله. لذلك
نختم هذا الحديث بكلام النبي صلى الله عليه وسلم:
روى النسائي وابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
من عباد الله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم
عند الله تعالى. قيل: من هم، لعلنا نحبهم؟ قال: "هم قوم تحابّوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب.
وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس"
ثم قرأ: }ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون{.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق