بعد أن
عرفنا عقلية الخوارج وقبائلهم، لا بد لنا من أن نتعرف على مبادئهم. والحق أن
مبادئهم مرآة واضحة لتفكيرهم وسذاجة عقولهم ونظرتهم السطحية، ونقمتهم على قريش،
وكل القبائل المضرية.
ويمكن إيجاز
أفكارهم بالآراء التالية:
لا يتم
تنصيب الخليفة إلا بانتخاب حر صحيح، يقوم به المسلمون كافة، لا فريق منهم نيابة عن
الأمة - وهذا الرأي هو الرأي السديد المحكم - ويستمر خليفة ما دام قائما بالعدل
مقيما للشرع، مبتعدا عن الخطأ والزيغ، فإن حاد وجب عزله أو قتله.
لا يختص بيت
من بيوت العرب بأن يكون الخليفة منه، فليست الخلافة مختصة بقريش، وليست لعربي دون
أعجمي، والجميع في الخلافة سواء، بل يذهب بعضهم إلى أن يكون الخليفة غير قرشي
ليسهل عزله أو قتله إن خالف الشرع وحاد عن الحق، إذ لا تكون له عصبية تحميه، ولا
عشيرة تؤويه، وعلى هذا الأساس اختاروا في أول خروجهم "عبد الله بن وهب
الراسبي" وأمروه عليهم وسموه "أمير المؤمنين" وهو ليس بقرشي.
وبعض الخوارج يرون أنه لا حاجة إلى إمام إذا
تمكن الناس من التناصح فيما بينهم، وإن لم يتمكن الناس من التناصح أقاموا إماما
يحملهم على الحق، وهذا يعني أن إقامة الإمام ليست واجبة شرعا بل جائزة. وإن وجبت
فإن وجوبها تفرضه المصلحة والحاجة.
ويجمع
الخوارج على تكفير أهل الذنوب، ولم يفرقوا بين ذنب وذنب بل اعتبروا الخطأ في الرأي
ذنبا، إذا أدى إلى مخالفة وجه الصواب في نظرهم، ولذا كفروا عليا رضي الله عنه
بقبوله التحكيم، مع أنه لم يقدم عليه مختارا، ولو سلم أنه اختاره فالأمر لا يعدو
أنه اجتهاد قد أخطأ فيه، إن كان التحكيم جانب الصواب، فلجاجتهم في تكفيره رضي الله
عنه دليل على أنهم يرون الخطأ في الاجتهاد يخرج من الدين، كذلك كان شأن (طلحة
والزبير) رضي الله عنهما وغيرهما من كبار الصحابة الذين خالفوهم في جزئية من
جزئيات كانت نتيجة لاجتهادهم. وهذه الاعتقادات التي جعلوها مبادئ راسخة في قلوبهم
وعقولهم جعلتهم يخرجون على جمهور المسلمين، ويعدونهم مخالفين مشركين، واقضوا مضاجع
الحكام بسببه، وسفكوا الدماء، وزرعوا الرعب في طول دولة الإسلام وعرضها.
كما اتصف
الخوارج بأنهم قوم خصمون يجادلون عن مذهبهم، ويتصيدون الحجج من خصومهم ومخالفيهم،
ويتمسكون بآرائهم أشد الاستمساك، لدرجة الأسود والأبيض. وكانوا حتى في حروبهم
يتحينون الفرص للحوار مع خصومهم، وكانوا كثيرا ما يوقفون القتال مع مقاتليهم
ليساجلوهم الآراء والأفكار.
وكان من
صفتهم التعصب في جدالهم، فهم لا يسلمون لخصومهم بحجة، ولا يقنعون بفكرة مهما تكن
قريبة من الحق، أو واضحة الصواب. وسبب ذلك استيلاء قلوبهم وهوى أنفسهم على عقولهم.
وكثيرا ما دفعتهم رغبتهم في نصر مذهبهم إلى أن يكذبوا أحيانا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقد روي عن خارجي تاب أنه دعا العلماء لأن ينظروا في أحاديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم فإن الخوارج كانوا إذا لم يجدوا دليلا يدعم حجتهم نسبوا
للرسول صلى الله عليه وسلم كلاما لم يقله.
وكان
الخوارج يتمسكون بظواهر القرآن، ولا يتجاوزون ذلك الظاهر إلى المرمى والمقصد
والموضوع، وما يظهر لهم بادي الرأي يقفون عنده ولا يحيدون عنه قيد أنملة.
وكانوا
يستخدمون الظاهر من القرآن من غير تحر في دفع التهم عما ينسب إلى بعضهم من جرائم.
فهذا عبيدة بن هلال اليشكري، اتهم بامرأة حداد، رأوه مرارا يدخل داره بغير إذنه،
فأتوا قطري بن الفجاءة الذي نصبوه أميرا لهم، فذكروا له ذلك، فقال لهم أن عبيدة من
الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم. فقالوا: إنا لا نقره على الفاحشة. فقال:
انصرفوا ! ثم بعث إلى عبيدة فأخبره، فقال: بهتّموني يا أمير المؤمنين كما ترى.
قال: إني جامع بينك وبينهم فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البريء، فجمع
بينهم فتكلموا. فقام عبيدة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (إن الذين جاءوا بالإفك
عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي
تولى كبره منهم له عذاب عظيم)، فلما سمع القوم هذه الآية بكوا وقاموا إلى عبيدة
واعتنقوه وهم يبكون قائلين: استغفر لنا.
سياسة
الخوارج:
لقد كان
الخوارج دعاة مثل سياسية متميزة، يخلصون لها، ويتشددون في طرحها، ويتطرفون في
تأييدها، ويشهرون السيف في وجه كل مخالف، ويثورون على كل حكومة لا تحقق مثلهم.
ولما كانت
نظرتهم تكاد تكون واحدة تجاه كل الخلفاء والولاة والحكام، مما يجعلنا ننظر إليهم
على أنهم حزب سياسي، تبنى مبدأ العدالة الاجتماعية التي دعا إليها الإسلام. وكان
الخوارج يمثلون في كل الأوقات القوى المعارضة في دولة الإسلام.
وكانت
دعوتهم الأولى تكاد تكون سياسية محضة، فلا خلاف بينهم وبين باقي المسلمين لا في
أصول الدين ولا في فروعه، اللهم إلا الخلاف حول رأيهم بعثمان وعلي رضي الله عنهما.
أما نظرة
الخوارج إلى بني أمية فهي أنهم لم يُختاروا اختياراً صحيحاً من الأمة بل جعلوا
ملكهم جبريا، وعليه يجب الثورة عليهم والخروج على طاعتهم ومحاولة قتلهم أو عزلهم.
واستطاع
الخوارج فرض أنفسهم على الساحة السياسية والعسكرية أيام دولة بني أمية ودولة ابن
الزبير، وكانت مدينتا الكوفة والبصرة تمثلان قاعدتين قويتين لانطلاقهم في كل ثورة
وعند كل خروج، بالإضافة إلى البحرين واليمامة وعُمان وبعض بلدان فارس. وبتعبير أدق
فقد كانت العراق قاعدتهم الصلبة، تموج بالرجال وأدوات الحرب وأما المال "فكانوا
زاهدين به إلا بقدر الحاجة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق