خلق
الله تعالى الأمم ولم يتركها تعيش في ظلام الكفر وتعاسة الضلال . لقد أرسل إليها
أنبياءه على مر الدهور وكرِّ العصور، يهدونهم إلى السعادة ويأخذون بأيديهم إلى
سبيل الكرامة وعز الحياة .سنّ لهم قواعد الحياة وشرَع لهم ما يحييهم ، وبيّن لهم
الحلال والحرام ، ورغَّبهم برضاه والجنّة ورهّبهم من سخطه والنار، ولعل بعض الامم –
لفسادها وكِبْرها وصدّها عن سبيل الله تعالى – عجَّل اللهُ لها العقوبة في الدنيا
" وكأيِّن من قرية عتَتْ عن أمرِ ربِّها ورسلِه فحاسبناها حساباً شديداً وعذّبْناها
عذاباً نُكراً ، فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرِها خُسراً" الطلاق الآيتان
8-9. كان الحساب شديداً والعذابُ وبيلاً.ولعل كلمة ( ذاقتْ) تدل على الاستغراق في
العذاب الأليم والإحساس العميق به في كل جانحة من جوانح الإنسان .كما أن كلمة (
العاقبة) تدلُّ على الخسارة الفادحة التي لا تُعوّض.إنَّ العاقبة تعني النهاية
التي لا رجعة بعدها.
ما
مِن أمة إلا خلا فيها نذير .فإن استكبرتْ وأبتِ السير على هدى الله عاجلها العقوبة
المدمّرة " وكم أهلكنا من قرية بَطِرَتْ معيشتَها ، فتلك مساكنُهم لم تُسكنْ
من بعدهم إلا قليلاً ، وكنّا نحن الوارثين" القصص 58.إني لأعجب ممن يستكبر
ويأبى الهداية وهو يعلم ضعفَه ، ويحارب الحقَّ ويهوى الضلالة ويحارب لأجلها ،ولا
يعتبر بمصير الأمم السالفة ، وآثارُها تحكي نهاية فسادها.
(كم)هنا
و(كأيّن) في الآية السابقة تدُلاّن على كثرة من حاد عن الطريق فعوقب جزاءً وِفاقاً
، وكانت نهايتُه مأساويّة،بيدَ أن المولى سبحانه لا يظلم الناس شيئاً ، فقد أرسل
إلى البشريّة الهداة المصلحين والأنبياء المنذرين " وما كان ربُّكَ مُهلِكَ
القرى حتّى يبعثَ في أُمِّها رسولاً يتلو عليهِم آياتِنا، وما كُنّا مهلكي القُرى
إلا وأهلُها ظالمون" القصص 59. وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُبعث في
أم القرى ( مكة) فتصل دعوتُه إلى آفاق الجزيرة وبلاد الشام وفارس . وقد نجد أكثر
من نبيٍّ يرسلهم الله تعالى في مدينة واحدة" واضرِبْ لهم مثلاً أصحابَ القرية
إذْ جاءَها المرسلون ، إذ أرسلنا إليهِمُ اثنينِ فكذّبوهما، فعزّزْنا بثالث،
فقالوا إنا إليكم مُرسلون" يس الآيتان 13-14.
إن (إعدادَ) العذاب يوحي بالغضب الشديد على كل
من عصى وتجَبَّر، وحارب الله تعالى، وبارزه بالخصومة وحارب دينه، (الإعداد) يعني
الخلود في الهوان والذلِّ المقيم .
أَعَدَّ
اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ
الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَّسُولًا
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن
بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
الطلاق.
إن
أولي الألباب يتقون الله تعالى ويخافون عذابه ويسعَون إلى مرضاته، ألم يرفع الله
قدرهم حين أنزل إليهم ذكراً؟ بلى والله لقد أكرمنا بذلك حين قال:" لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه
ذكركم "الأنبياء 10
والذكرُ تكريمٌ ورفعٌ للدرجات ،لقد
جعل الله تعالى القرآن للنبي وللمسلمين شرَفاً وتعظيماً " وإنه لذكر لك
ولقومك " الزخرف 44 ".
إنَّ أولي الألباب ذوو أفهام مستقيمة وأعمال سليمة
لن يُصيبهم ما أصاب غيرهم من عذاب ،فهم ليسوا مثلَهم، لقد آمنوا بالله واتّبعوا
نبيّه صلى الله عليه وسلم.وصدّقوا كتابه الذي حفظه وأكّد على بقائه نقياً لاتُغيّره الظروف ولا تُبّدِّله الأهواء "
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ".
وكما يتلو الرسول صلى الله عليه وسلم آيات الله
بيّنات فيكون قد بلّغ رسالة ربه ووفّى فالدعاةُ ورثَةُ الأنبياء يسيرون على خطاهم
ويدعون إلى الله على بصيرة وهدى، ويمشون على خطا نبيهم لا يخافون في الله أحداً .
إن أولي الألباب مؤمنون،والمؤمن يعمل الصالحات
ويدعو إليها ، ومن عمل صالحاً أدخله الله تعالى في رحمته ورزقه جنات تجري من تحتها
الانهار أبَدَ الآبدين.
وهل هناك ثواب أعظم من أن يخلد المرء في جنات عرضها
السماوات والأرض خالداً لا يبغي عنها حِوَلاً في جوار رب كريم يتنعم بحياة لا تفنى
وملك لا يبلى ، ورزق حَسَنٍ يتجدد وصحبة الأنبياء والأبرار والشهداء والصالحين ؟...لمثل
هذا فليعمل العاملون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق