حذيفة رضي الله عنه مكّيّ الأصل مدنيّ النشأة، فأبوه اليمان مكي من بني
عبس، نزح إلى يثرب، وحالف بني عبد الأشهل وصاهرهم، وولد له حذيفة. ولما أهلّ
الإسلام بنوره كان اليمان أحد عشرة وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعلنوا
إسلامهم في مكة قبل الهجرة.
نشأ حذيفة في كنف أبوين مسلمين فأسلم قبل أن يرى الرسول صلى الله عليه
وسلم، لكن شدة حبه وشوقه إليه صلى الله عليه وسلم جعلته يرحل إلى مكة ليراه، وهناك
سأله حذيفة: أمهاجر أنا أم أنصاري يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئتَ
كنتَ من المهاجرين، وإن شئت كنت من الأنصار، فاختر لنفسك ما تحب، فقال: بل أنا
أنصاري يا رسول الله.
ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لازمه حذيفة ملازمة العين
لأختها، وأبلى معه في المعارك بلاء حسناً، فقد شارك في جميع الغزوات والمعارك عدا
بدر، حيث كان وقتها خارج المدينة فوقع أسيراً في يد كفار قريش، وعند استجوابه زعم
أنه مسافر إلى المدينة وأن لا علاقة بينه وبين محمد وجماعته، وعاهدهم أن لا
يقاتلهم فتركوه فشدّ الرحيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان، وأن
المشركين يتأهبون للغزو، فلم يأذنْ له النبي صلى الله عليه وسلم بالمشاركة في هذه
الغزوة إبقاءً بعهده. ورأى والده اليمان يُستشهد بسيوف المسلمين خطأً يوم أحد، وهم
لا يعرفونه، فما زاد على أن قال: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. نعم هكذا يفعل
الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيه دِيَةَ والده قال: يا رسول
الله، هو طالبُ شهادةٍ وقد نالها. وتصدق بها على المسلمين.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب حذيفة ويعرف طاقاته وقدراته، ويقدر فيه
ذكاءه وكتمانه السر، فجعله صاحب سرّه، وأفضى إليه بأسماء المنافقين، وعَهِدَ إليه
رَصْد تحركاتهم، ودَرْءَ أخطارهم.
كان حذيفة مثالاً للجندي الحاذق الملتزم الذكي المبادر كاتم السر، الذي
يُؤثِر رضا الله ورسوله على كل شيء، وينفّذ الأوامر الصادرة إليه بدقة وذكاء.
وانظر إلى المهمة الشاقة التي كلف بها في غزوة الأحزاب، عندما حاصرت جيوش الأحزاب
المدينة، واشتد الكرب على المسلمين، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر... لقد
اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ليبعثه إلى قلب جيش العدو تحت جنح الظلام ليأتيه
بأخباره ونواياه، حتى يتمكن من اتخاذ القرار الصائب. ويلبّي حذيفة نداء الرسول
القائد صلى الله عليه وسلم ولو كان في ذلك حتفُه، ويستمع إلى تعليماته باهتمام
بالغ: "يا حذيفةُ لا تُحْدِثَنَّ في القوم شيئاً حتى تأتيني".
وخرج حذيفة في شدة الظلام وشدة البرد وشدة الخوف وشدة الجوع، ووصل إلى الخيمة التي
فيها قائد المشركين أبو سفيان، وسمعه يُصْدر أمره إلى جيشه بالانسحاب والرحيل،
ويبيّن لهم أسباب ذلك: لقد هلكتِ الرواحل، وتخلت بنو قريظة، وقَلَبت الريح قدورنا
وأطفأت نيراننا. ورأى حذيفة أبا سفيان يفك بعيره من عقاله، وكانت فرصة مناسبة حتى
يرميه بسهم فيقتُلَه، ولكنه تذكر تعليمات قائده صلى الله عليه وسلم: "يا
حذيفةُ لا تُحْدِثَنَّ في القوم شيئاً حتى تأتيني".
إنه حبّه للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته وفداؤه... هي التي تجعل حذيفة
يَقْبَل بتنفيذ هذه المهمة الصعبة بسرور... ثم يُنجزها أفضل إنجاز، ثم يلتزم
الأوامر بهذه الدقة.
قال حذيفة: ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته قائماً يصلي...
فأخبرته الخبر فسُرّ به سروراً شديداً، وحمد الله وأثنى عليه.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم شهد حذيفة فتح العراق والشام، وشهد
اليرموك عام 13هـ، وبلاد الجزيرة 17هـ، ونصيبين وفتوحات فارس، وفي معركة نهاوند
جعل عمر بن الخطاب على كل جيش أميراً، فكان حذيفة أميراً على جيش الكوفة، وجعل
النعمان بن مقرن أميراً عاماً، فإذا استشهد فليأخذ الراية حذيفة، وسمّى سبعة
أمراء. وحين استشهد النعمان تسلّم الراية حذيفة وأوصى ألا يذاع نبأ استشهاد
النعمان حتى تنجلي المعركة، وكان حذيفة هو فاتح نهاوند.
ولأن حذيفة كان يعرف أسماء المنافقين كان عمر يسأل عن حذيفة إذا مات رجل:
هل حضر حذيفة الصلاة عليه؟ فإن حضر صلى عليه عمر، وإن لم يحضر لم يصل عمر عليه.
وهو الذي اختار أرض الكوفة لتكون مدينة للمسلمين. وقد جعله عمر والياً على
المدائن، وفيها توفي سنة 36هـ، بعد مقتل عثمان بأربعين ليلة، رضي الله عنهم
جميعاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق