من يستقرئ تاريخ بعض حكام دولة
الإمارات يقف مشدوها أمام فعال أبنائهم المعيبة والمخجلة والمخزية، وأنا هنا لا
أرجم بالغيب أو أنقل روايات قد تصح أو لا تصح.. أنا هنا أروي حكاية عشت فصولها قبل
ثلاثة وأربعين سنة:
بناء على دعوة كريمة من الشيخ راشد
النعيمي أمير عجمان رحمه الله حزمت أمري وتوجهت إلى إمارة عجمان بعد أن حصلت على
موافقة من إدارة الجمارك التي كنت أعمل بها للسفر خارج سورية بإجازة بدون راتب،
وكان ذهابي بغرض العمل لدى الشيخ رحمه الله، بناء على رغبته دون أن يكون لدي أي
تصور عن طبيعة العمل الذي سأكلف به.
وصلت إلى مطار الشارقة – ولم يكن في
عجمان مطار – ومن هناك استقليت تكسي أو صلتني إلى قصر الشيخ راشد، وكان وصولي
حوالي الساعة التاسعة مساء، والتقيت أمام بوابة القصر برئيس الحرس الذي سارع إلى
إبلاغ الشيخ بوصولي، وبعد دقائق قليلة صحبني رئيس الحرس إلى مكان وجود الشيخ،
وكانت قاعة كبيرة يتصدرها الشيخ وعدد كبير من أعوانه وسمّاره، وما أن ولجت مدخل
القاعة حتى وقف الشيخ المهيب بطلعته وقامته المديدة ووجهه الأسمر وقد زينته لحية
كثة وطويلة.
تقدمت إليه بخطًى ثابتة حتى إذا ما
وصلت إليه قبلت يده وقد شعرت بدفئها فعانقني ورحب بي أيما ترحيب وأجلسني عن يمينه،
وقدمت لي القهوة العربية، ثم قدمت له رسالة من والدي الذي تربطه به قرابة وصداقة،
فأخذها وقبلها ثم دسها في جيبه، وبعد حديث متبادل بيني وبين الشيخ أمر أحد خواصه
بمرافقتي إلى مكان الضيافة داخل القصر للاستراحة من عناء السفر على أن يكون لنا
لقاء في الصباح.
في اليوم الثاني استدعاني الشيخ للقائه
فذهبت إليه في نفس المكان الذي التقيته فيه بعد وصولي فرحب بي وأجلسني عن يمينه
وسألني عن الوالد ووضعه الصحي وأحواله ثم قال لي ستعمل لدي مرافقاً لي في كل
شؤوني، وقدّرت أنه يريدني سكرتيراً له أقرأ رسائله وأكتبها له وأرافقه في تنقلاته
ورحلاته، وهذا ما كان عليه الحال.
في أحد الأيام جاءني سائق الشيخ الخاص
يوقظني وقد تجاوزت الساعة الثانية عشر ليلاً قائلاً الشيخ يريدك، فهرعت مسرعاً بعد
أن توضأت، وإذ بالشيخ يقف في ساحة القصر وكان يذهب جيئة وذهاباً، وكأن هناك أمر
جلل أصابه، وما أن وصلت إليه حتى ركب السيارة وأشار إلى كي أركب معه، وقد بدت
الهموم على محياه.
سارت السيارة باتجاه لم أستطع تقديره
فقد كان الظلام الدامس يحيط الكون من حولنا، وهنا انتابتني بعض المخاوف، ورحت
أسترجع ما كنت قد قمت به خلال الأيام السابقة لعلي أسأت التقدير في بعض تصرفاتي أو
أفعالي ووقعت في خطأ أو فعلت نقيصة تستحق العقاب.
توقفت السيارة فجأة فنظرت من حولي فلم
أجد لا شجر ولا حجر وهذا ما زاد من خوفي وسوداوية هواجسي.
نزل الشيخ من السيارة وظننت أن عليّ أن
أتبعه كما جرت العادة فأشار إلى بالبقاء في السيارة وذهب حتى لم أعد أره من ظلمة
المكان المقفر.
عاد الشيخ بعد أقل من ربع ساعة وبيده
كيس من ورق، وبعد أن ركب السيارة أعطاني الكيس وقال: انظر ما في الكيس، أخذت الكيس
بين يدي وقد تنفست الصعداء، فوجدت به زجاجة كحول، قلت له إنها زجاجة كحول من نوع
"كونياك"، فقال يعني خمر؟ قلت له نعم ومن أشدها تأثيرا.
عدنا إلى القصر فذهب هو إلى جناح نومه،
وعدت أنا إلى غرفتي فتابعت النوم حتى أذن المؤذن لصلاة الفجر فاستيقظت كالعادة
وتوجهت إلى المسجد لأداء صلاة الفجر بمعية الشيخ كما جرت العادة، وبعد الانتهاء من
الصلاة هممت بالخروج فأومأ لي الشيخ بالبقاء فامتثلت للأمر.
وعند بزوغ الشمس قام الشيخ فتبعته وبعد
أن صرنا في ساحة القصر وإذ ببلدوزر ضخم يربض كالديناصور فيه، وما لبث الشيخ أن ركب
سيارته وركبت معه، ثم أشار إلى سائق البلدوزر ليتبعه، وهنا عرفت أن وجهته هي
المقصف الذي يملكه الشيخ وقد ضمنه مستثمر من الجنسية اللبنانية، وما أن صرنا على
مقربة منه حتى أمر السائق بالتوقف وطلب منه أن يوقظ العاملين ويخرجهم بعيداً عن
المقصف، وبعد التأكد من خلوه أمر سائق التركس أن يسوي المقصف بالأرض، وبالفعل ما
هي إلا دقائق حتى بات المقصف أثراً بعد عين، وسط انفراج أسارير الشيخ.
وعدنا إلى القصر وبعد الفطور والراحة
لبعض الوقت عدت إلى حيث وجود الشيخ وجلست إلى يمينه كما هي العادة.
بعد شرب القهوة روى الشيخ لنا الأسباب
التي دعته لمسح المقصف كاملاً عن سطح الأرض قائلا:
أخبرني أحد خواصي أن المقصف يبيع
الخمر، ولم أتسرع بالحكم فقد قررت أن أذهب بنفسي لأتحقق من ذلك، فلا أريد أن يظلم
أحد في إمارتي عن غير بينة أو دليل، وقد أبلغني من أخبرني في الموضوع أن هناك
طريقة لابد من اتباعها إذا ما أردت التحقق من الموضوع، وهي بذهابي متلثماً وبعد
العاشرة ليلاً إلى المقصف من الجهة الخلفية حيث هناك نافذة صغيرة أدق عليها ثلاث
مرات وأنتظر حتى تفتح حيث يطل علي أحد العاملين يسألني ماذا تريد فأقول له (أريد
بطل خمر) فيطلب مني ثمنه وهو خمسون درهم، ويناولني كيس ورقي فيه البطل، وهذا ما
حدث البارحة.
فقلت له: يا عمي كان بإمكانك أن تقبض
على المستثمر والعاملين وتسفرهم، فهز برأسه مستهجناً كلامي قائلا:
إذا ما أبقيت على المقصف فإن الناس
سيتناقلون خبر بيع الخمر فيه في عهدي فكيف ألقى الله والناس سيرددون ذلك جيلاً بعد
جيل، وحتى أبيض صفحتي أمام الله كان لابد من إزالة المقصف عن وجه الأرض، الذي بيعت
فيه هذه الكبيرة وأرجو من الله أن يغفر لي ذلك.
وأتمنى على القارئ الكريم أن يتصور
الفارق والبون الشاسع مما كان عليه الآباء من صدق مع الله وما آل إليه حال الأولاد
الذي لا يفرح صديق ولا يغيظ عدو!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق