الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – وحدهم معصومون، وسائر البشر يخطئون، بين
مرتكب كبيرة، ومرتكب صغيرة، وبين متساهل كثير العصيان، ومتورع تنتدُّ عنه المعصية
في القليل النادر، ويشمل الناس جميعاً قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل
ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون". رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم
وقال: صحيح الإسناد.
لكن صنفين من الناس يحرِمون أنفسهم من التوبة:
صنف يستهين بالمعصية، فيرتكبها غير مبالٍ بما يقترف، غافلاً عن عظيم ما
يفعل، لا يكاد يحس بعظمة الله، وجلال الله، ورقابة الله... قد أدمن المعصية حتى
صارت سمة له، وجزءاً من سلوكه ملازماً له، وحتى فَقَدَ الشعور بمخالفة أمر الله
تعالى، بل لعله يَعُدّ معصيته حلالاً زُلالاً!!.
وصنفٌ علم أنه ارتكب من المعاصي شيئاً كثيراً، وأغرق في الشهوات، وجمع ماله
من الحرام، وبنى واقعه على الحرام، وأصبحت مسالكه في الحياة حراماً في حرام...
فإذا سمع من يذكّره بالله تعالى، ورضوانه وسخطه، وجنّته وناره... قال: كلامك صحيح،
ولكنه لا يفيدني في شيء، فأنّى تنفعني التوبة، وأنا – يقيناً – من أهل النار؟!.
لا شك أن الصنف الأول ليس كالآخر. فالأول يستخف بالمعصية ولا يأْبَهُ لها،
وقد يستبيحها، والآخر يقرّ بمعصيته، ويستفظعها لدرجة اليأس من رحمة الله وعفوه
ومغفرته.
لكن الصنفين جميعاً لا يفكران بتوبة، ولا يصدر منهما استغفار، وإذا صدر مرة
فهي كلمة يلوكها اللسان، ولا يواطئها القلب!.
وإذا كان هذان الصنفان لا يشكلان سوى قلة من الناس، فإن صنفاً ثالثاً يشمل
سواداً عاماً من المسلمين، فالواحد منهم يرتكب بعض المعاصي بتساهل عجيب، مجاراةً
لأعراف خاطئة جعلت هذه المعاصي كالخبز اليومي للناس، فبعض الغيبة، وبعض النميمة،
وبعض الكذب، وبعض المكاسب التجارية المحرّمة... تشيع في المجتمع حتى يرتكبها الناس
بغفلة وهم لا يشعرون، بينما هم يحرصون على الاستقامة والتقوى في شؤون حياتهم
الأخرى..
من هنا وهناك كانت التوبة نداءً موجّهاً إلى الناس كافة: (وتوبوا إلى
الله جميعاً أيُّهَ المؤمنون لعلكم تُفلحون). {سورة النور: 31}.
* * *
إن أول ما ينبغي أن يُعنى به المؤمن هو إيمانُه! أن يتعهد الإيمان في قلبه.
يتعهده بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن... ويتذكر أن الله تعالى رقيب عليه، وأنه
سبحانه يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، وأنه هو الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب
والأليم، وأنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، وأنه يحب التوابين ويحب
المتطهرين، وأنه يريد أن يتوب على عباده، بل إنه يفرح لتوبة عبده، وهو سبحانه –
كرماً منه وفضلاً – يبشر عباده الذين أسرفوا على أنفسهم أنه يغفر الذنوب جميعاً...
وأنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل،
وأنّ باب توبته مفتوح يستقبل التائبين إلى يوم القيامة، قبل أن تطلع الشمس من
مغربها...
* * *
المؤمن الذي تعهّد إيمانَه على النحو الذي أسلفنا، لا يمكن أن يستمرئ
المعصية ويتباطأ عن التوبة والاستغفار.
وإنّ تدبُّر كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لجدير بأن
يجعل المؤمن يتوجه بقلبه تائباً منيباً خاشعاً... مهما بلغت ذنوبه، وأن يندم على
ما فرّط في جنب الله، وأن يعقد العزم على التوبة النصوح.
قال الله تعالى: (قلْ يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من
رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعاً. إنه هو الغفور الرحيم). {سورة الزمر:
53}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجلّ يبسُط يده
بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلُعَ الشمس
من مغربها". رواه مسلم والنسائي.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ
سوداء في قلبه، فإن تاب ونَزَع واستغفر صُقِلَ منها، وإن زاد زادت حتى يغلَّف بها
قلبُه، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: (كلا بلْ رانَ على قلوبهم)".
حديث صحيح. رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لَلّهُ أفرحُ بتوبه عبده من أحدكم سقط
على بعيره [أي وجده بعدما فقده] وقد أضّله بأرضٍ فلاة ". رواه
البخاري ومسلم.
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، لكننا نختم بحديث عظيم يقصُّ علينا خبر
رجل من بني إسرائيل كان لا يتورّع من ذنب، فجاءته امرأة تطرق عليه بابه، وقد بدا
عليها الحياء، ونزلت بها ضائقة مالية، ولم تجد من يُقرضها، غيرَه، فاغتنمها فرصة
لينال منها ما يريد. وما الذي يمنعه، وهي التي جاءت إلي بيته، ولن تستطيع أن تمتنع
عنه؟! فلما اقترب جعلتْ ترتعد وتبكي خوفاً... قالت: إنه ليس من شأني أن أعمل ما تريد
مني، وما دفعني إليك إلا الحاجة!! فوقعت هذه الكلمة في قلبه موقعاً حسناً، وقال:
أنا أحقُّ منك أن أطيع الله، وأُقلع عن المعصية. وأراد الله به الخير، فمات من
ليلته تائباً، وشاء الله أن يجعل قصته بشرى للتائبين. فلنقرأ القصة كاملة من كلام
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"... كان الكِفْلُ من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله. فأتتْه
امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها. فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته
أُرعِدت وبكتْ. فقال: ما يبكيكِ؟ أكرهْتُكِ؟ قالت: لا، ولكنه عملٌ ما عملته قطّ،
وما حملني عليه إلا الحاجة. فقال: تفعلين أنتِ هذا، وما فعلتِهِ قط؟ اذهبي فهي لك [أي
الستون ديناراً]. وقال: لا والله لا أعصي الله بعدها أبداً. فمات من ليلته،
فأصبح مكتوباً على بابه: (إن الله قد غفر للكِفل)". رواه الترمذي وحسّنه،
وابن حبان والحاكم وصححاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق