يقع
الكتاب في 210 صفحات ، وقد صدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر، ضمن
سلسلة "كتاب الأمة" ، العدد 110 ، عام 1426هـ/2006م ، ويرجع اختيارنا لهذا الكتاب إلى أنه يتناول موضوعاً نحن في أمس الحاجة إليه
في سياق "الربيع العربي" الذي طرح أمامنا جملة من الأسئلة الحساسة حول بعض
المفاهيم التي أثارها وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في عدد من الأقطار العربية ،
وكذلك الجدال الحاد الذي يجري اليوم حول مفهوم "الدولة المدنية" ذات المرجعية
الإسلامية ، وقد قدم المؤلف عدداً من الأجوبة المهمة في هذا الإطار ، ويعد كتابه
هذا إحدى القراءات المعاصرة لـ « وثيقة المدينة » التي أبرمها النبي محمد بن عبد
الله صلى الله عليه وسلم بين مكونات المجتمع في يثرب ( = المدينة المنورة ) حين
هاجر إليها حوالي عام 622م ، وهي تعد أول دستور مدني مكتوب في تاريخ الدول على
الإطلاق ، ففي هذا المناخ الثقافي السياسي المحموم الذي نعيشه هذه الأيام تشتد
الحاجة للعودة إلى دراسة تراثنا الإسلامي لاستلهامه وطلب إجاباته عن أسئلة الحاضر
ومآلات المستقبل ، لأن هذا التراث يظل هو الملاذ الآمن من ضياع الهوية والمحافظة
على الاتجاه الصحيح حين تضطرب القافلة وتتعرض الأمة لهزات عنيفة كالتي نتعرض لها
اليوم .
وإن
لنا أمثلة من هذا التراث في "حلف الفضول" و "صلح الحديبية" و
"وثيقة المدينة" و "العهدة العمرية" وغيرها من معطيات تراثنا الإسلامي
التي نرى ضرورة العودة إليها والتفكر فيها ، لا للتفاخر ومعالجة مركب النقص لدينا
، وإنما للاجتهاد والاستنطاق والاستلهام ، لعل هذا التراث الغني يعطينا مدداً
وحماية ودافعية لمواجهة تحديات الحاضر ، ويمنحنا القدرة على تقديم عطاء حضاري
إنساني مشترك نكون به في مستوى إسلامنا وعصرنا .
بدأ
المؤلف كتابه بمقدمة عرض فيها تاريخ الدساتير المكتوبة التي يعدون في أولها دستور
الولايات المتحدة الأمريكية الصادر سنة 1776م ، المعروف بـ "دستور فيلادلفيا"
، والدستور الفرنسي الذي ظهر في الفترة الثورية ( 1789-1791م ) ويشير المؤلف إلى أهمية
الدساتير في حياة الأمم منبهاً إلى أن السلطة الحاكمة إذا خرجت عن الدستور فقد
هدمت أساس وجودها القانوني ، وإذا فقدت هذا الأساس زالت صفة الشرعية عن تصرفاتها ،
ومن ثم يتعذر تصور وجود دولة القانون دون وجود دستور ، ومن هنا تأتي أهمية الحديث
عن "وثيقة المدينة" التي دشنت هذا الباب في تاريخ الدولة القانونية .
ويشير
المؤلف كذلك إلى أن « وثيقة المدينة » نصت على تنظيم
العلاقات بين جميع المتساكنين في يثرب آنذاك ، وجمعتهم بهذا
الحلف ، وجعلت منهم دولة قوية قادرة على مواجهة الأخطار المحدقة بهم من كل مكان .
وتتفق بنود «الوثيقة» مع نصوص الوحي التأسيسية في
المبادئ العامة التي منها مراعاة حقوق جميع أفراد المجتمع ، وتحديد المسؤولية
الشخصية ، ووجوب الخضوع للقانون ، ورد الأمر إلى الدولة بأجهزتها المختلفة للتصرف في
شؤون الحرب والسلم ، والأخذ على يد الظالم ، وغير ذلك من القضايا التي شملتها «الوثيقة» مما يتوافق مع المبادئ والمقاصد التي نص عليها الوحي
.
ينتقل
المؤلف بعد هذه المقدمة إلى الفصل الأول الذي بين فيه أنه أن وجود الدولة مرهون بوجود
أمة تؤلف بينها وحدة اللغة والجنس والدين ، ووجود الأرض أو الوطن الذي تقطنه الأمة
، ووجود سلطة عليا تنظم شؤونها ، وقد توافرت هذه العوامل كلها للأمة المسلمة بعد
استقرار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
في المدينة المنورة ، واتخذوها وطناً لهم ، وإنشؤوا دولة يتحقق فيها التعريف
القانوني للدولة .
وقد
لاحظ المؤلف أن «الصحيفة» ركزت في مجال الحكم على قضيتين أساسيتين
هما : العدل وتنظيم القضاء ، واعتبرتهما أولوية مطلقة واجبة لقيام المجتمع السليم ،
وقد كان غياب هاتين الركيزتين في العصر الجاهلي قبل الإسلام من أقوى أسباب القلق
والاضطراب في المجتمع العربي ، ولا يمكن لهاتين الركيزتين أن تتحققا إلا من خلال
سلطة مركزية عادلة يطمئن في الاحتكام إليها أبناء المجتمع بمختلف أجناسهم وألوانهم
، وهكذا ـ لأول مرة في تاريخ العرب ـ حكم القانون حياة
العرب ، وأصبحت الأمور تردُّ إلى الدولة ، ويرجع بالرأي الأخير إلى رئيسها ، وبذلك
أقام الإسلام مجتمعاً جديداً على مفاهيم جديدة ، بعيداً عن القيم القبلية التي
كانت سائدة في العصر الجاهلي .
في
المبحث الثاني تحت عنوان ( أساس المواطنة في الدولة ) ذكر المؤلف أن الدولة
الإسلامية الأولى تكونت على أساس دستوري مكتوب ، وضمت رعايا من ديانات مختلفة :
المسلمون من المهاجرين والأنصار ، وأهل الكتاب من اليهود ، وبقايا مشركي المدينة ؛
وكان الفقهاء يطلقون على الدولة الإسلامية اسم "دار الإسلام" وكانت رابطة
الأفراد بالدولة رابطة سياسية وقانونية ؛ هي "الجنسية" بمفهومها الحديث ،
وإن لم يسمها الفقهاء بهذا الاسم ، فالجنسية صفة في الفرد تفيد انتماءه إلى الدولة
وعضويته في شعبها ، وهذه الصفة تنبثق عن شعور نفسي وروحي تجسده وتدل عليه ، وهذا
المفهوم المركب للجنسية نجده في الدولة الإسلامية قديماً بوجود تلك الرابطة
الروحية والاجتماعية التي تربط الأفراد بالدولة ، وقد عاش المسلمون في المدينة
المنورة مع غيرهم ممن يخالفونهم في العقيدة ، يشاركونهم الحياة المجتمعية في رابطة
إنسانية نابعة من مبادئ الإسلام .
ويلاحظ
المؤلف أن صفة "المواطنة" في الدولة الإسلامية الأولى لم تنحصر في
المسلمين وحدهم ، بل امتدت لتشمل اليهود المقيمين في المدينة ، واعتبرتهم «الصحيفة»
من مواطني الدولة ( أمة مع المؤمنين ) وحددت ما لهم من الحقوق وما عليهم من
الواجبات ، ولاحظ كذلك أن عنصر الإقليم «المدينة» والإقامة فيه عند نشأة الدولة هو
الذي أعطى غير المسلمين حق المواطنة ، وضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها «الصحيفة»
بعد أن كان هذا الحق يقوم على أساس الانتماء القبلي ، فاختلاف الدين بمقتضى أحكام
«الصحيفة» ليس سبباً للحرمان من حق « المواطنة » ، وتلك كانت أول بادرة في تاريخ
الدول لظهور مفهوم "المواطنة" الذي أصبح يشمل جميع أفراد المجتمع بغض النظر
عن انتمائهم الديني ؛ وأصبح الجميع ينعمون
بالعصمة في أنفسهم وأموالهم وهي نفس آثار انتماء الأشخاص إلى دولهم وفقاً لرابطة
الجنسية بمفهومها القانوني الحديث ، وبهذا أصبح أساس المواطنة هو «الولاء» للدولة
عن طريق العهد ؛ لا عن طريق وحدة العقيدة ولا وحدة العنصر ، وفي هذا دلالة على
أمرين :
1. تأصيل مبدأ حرية
العقيدة .
2. التسامح
مع "الآخر" بأن جعل لهم الإسلام من الحقوق وأوجب عليهم من الواجبات ما
للمسلمين وعليهم ، وليس أعدل ممن يساويك بنفسه في النصفة والعدل والحكم .
وهكذا
شكل "دستور المدينة" تطوراً كبيراً في مفاهيم الاجتماع والسياسة ، فهذه
جماعة تقوم لأول مرة في التاريخ على غير نظام القبيلة ، وعلى غير أساس رابطة الدم ،
وانصهرت كلها فيما يشبه الاتحاد الكونفدرالي
حسب المفهوم المعاصر، وأصبح "القانون" لأول مرة يرد الأمور إلى الدولة ،
وقام مجتمع جديد على مفاهيم جديدة بعيداً عن القيم القبلية .
لقد
حولت «الصحيفة» يثرب إلى مدينة موحدة تعيش في أمن وسلام
، بعد أن كانت تحكمها الفوضى والعصبيات المتناحرة ، ووحَّدت الجميع ـ على اختلاف
دياناتهم وخصائصهم وأعرافهم ـ حول مفهوم دستوري مركزي هو الأول من نوعه في تاريخ
البشرية ، يخضع له الجميع ، وتسهر على تنفيذه حكومة مركزية تملك السلطة العليا ،
للحاكم فيها حقوقه ومسؤولياته ، وللمواطنين حقوقهم ومسؤولياتهم ، وللقانون كلمته
وسيادته ، وهذا ما جعل أحياء المدينة كالجسد الواحد بعد أن كانت تعيش في فرقة ونزاع
وتناحر .
في
الفصل الثاني تحدث المؤلف عن البعد الاجتماعي للصحيفة ، فتناول مفهوم الأمة في
الإسلام ، وهو مفهوم متجذر في القرآن الكريم والحديث النبوي
وكلام العرب ، وانتهى إلى أن التعريف الاصطلاحي للأمة أنها مجموعة من
الأفراد يشعرون أنهم متحدون ، تربطهم صلات مادية ومعنوية ، وتجمع بينهم الرغبة
المشتركة في العيش معاً ، فالرابطة بين الفرد والأمة رابطة نفسية تنشأ نتيجة
العديد من العناصر المتداخلة المعقدة مثل الجنس واللغة والدين والتاريخ والمصالح
المشتركة ، أما مفهوم "الأمة" من خلال بنود «الصحيفة»
فهي كيان اجتماعي سياسي يقوم على أساس الفكر لا على أساس الدم ، ولا تحدها لغة أو
جنس أو وطن ، ولا تصادر الأفكار والعقائد الأخرى ، بل لها من
الرحابة ما تستوعب به العناصر الأخرى دون صهر أو تهميش ، وهي قابلة للتوسع والتقلص
تبعاً لعدد من ينضم إليها أو يتركها باختياره ، وهكذا شكلت «الصحيفة» نقلة كبيرة في تاريخ العرب من حياة الفرد والقبيلة إلى
حياة الأمة الواحدة .
فالمجتمع
السياسي الذي أنشأته الوثيقة هو مجتمع "تعاقدي" متنوع في انتمائه الديني
؛ وبهذا فتحت «الصحيفة» المجال لكل من يريد الالتحاق بالأمة ولو من خارج حدود
المدينة ؛ لأن «كلمة الأمة هنا ليست اسماً للجماعة العربية القديمة التي تربطها
رابطة النسب ، وإنما هي تدل على الجماعة بالمعنى المطلق ، فدخلت بناء على هذه
القاعدة طوائف وأعراق متعددة دون أن يضع الرسول حواجز أو عقبات تمنعها أو تحول
بينها وبين المشاركة في بناء
الدولة الجديدة ، لاسيما وأن الإسلام دعوة شاملة للعالمين .
وفي
المبحث الثاني تناول المؤلف علاقة الفرد بالمجتمع ، وذكر كيف كان
الفرد قبل الإسلام يكسب للقبيلة ، وكان يقترف الإثم والجريمة وتؤدي عنه القبيلة ،
فهو يدور في حلقة من التبعية التامة لقبيلته ، لكن مع قيام دولة الإسلام في
المدينة على أساس دستوري مكتوب تحرر الفرد من سلطان القبيلة بذوبان القبيلة في
الأمة ، ما أدى إلى بروز ذاتية الفرد المكلف ومسؤوليته ،
وقد اعتنى «دستور» المدينة بالفرد اعتناءه بالجماعة على حد سواء ، فحدد مسؤولية
الفرد أمام المجتمع ، ودمج بينها وبين مسؤولية المجتمع عن الفرد في مسؤولية مشتركة
، لأن كل ما يخص الفرد يفضي في النهاية إلى المجتمع إيجابا أو سلباً ، والمواطنون يشتركون
بحقوق وواجبات تعبر عن وحدتهم وتقوي تماسكهم ، لكنها ليست طاغية ، بل تهدف إلى
تنسيق حرية الفرد مع مصلحة الجماعة ، ووجود الأمة لا يعني القضاء على كيان الفرد
ومكانته ، إذ المسؤولية المدنية والأخلاقية والدينية هي مسؤولية فردية آخر المطاف .
وفي
المبحث الثالث تحدث المؤلف عن الأخلاق الاجتماعية التي نصت عليها «الصحيفة» التي ألغت جميع الفوارق والامتيازات بين أهل «الصحيفة» وهذا هو الأساس الأول الذي لا بد منه لإقامة مجتمع
حضاري متماسك ، يتسم بالتكافل والتضامن والتعاون في أجلى صوره ، وهكذا بلغت
الإنسانية والتعاون والمحبة غايتها في المجتمع المديني الجديد .
وحول
مبدأ الولاء ذكر المؤلف أن «الصحيفة» أقرت مبدأ الولاء
أو الأحلاف التي كانت بين القبائل العربية قبل الإسلام ، لكنها عملت في الوقت نفسه
على تنظيمها وتقنينها وفق النظام الإسلامي الجديد ، فمنعت المؤمنين من التجاوز على
حقوق الآخرين ، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم الاستقرار وخلق مشكلات اجتماعية
وسياسية ، ولكن في مقابل إقرار مبدأ الولاء والحفاظ على التوازنات العشائرية عمل
الرسول على منع قيام تحالفات جديدة لأن العلاقات الداخلية بين فئات المجتمع
المديني الجديد يجب أن تكون علاقات تحاب وتعاون ، لذلك رفض الإسلام قيام أحلاف
جديدة لأنه ينافي التضامن العام داخل الأمة .
في
الفصل الثالث تناول المؤلف البعد الأمني للـ «الصحيفة» وبين
كيف حققت التآخي بين الناس ، والسلم الأهلي ، وأزالت ما
بينهم من عداوات ، وسلَّت ما في قلوبهم من السخائم ، وحاربت البغي والظلم ، وحرمت الثأر
، وقضت على الفتن والعداوات ، ومنعت إيواء المجرمين والدفاع عنهم وحمايتهم باسم
قرابة أو سلطان أو صداقة ، وحرمت «الصحيفة» الغدر ، وأكدت أن المتهم
بريء حتى تثبت إدانته ، وأن القضاء هو وحده الذي يقرر
العقوبة المناسبة ضد الجاني ، وأن العقوبة لا تسري إلى سواه من
الأبرياء ، فليس لأحد أن يثأر بالقتل من تلقاء نفسه ، وإنما القضاء هو الذي يصدر
الحكم وتنفذه الدولة تحقيقاً للعدالة ، وجعلت الدية سواء بين الجميع ، ومعظم هذه
الإجراءات التي أقرتها «الصحيفة» قبل أربعة عشر قرناً لم تعرفها المحافل القانونية
في العالم إلا منذ عهد قريب !
في
المبحث الثاني ناقش المؤلف مسؤولية الدفاع المشترك ، وكيف ساهمت
«الصحيفة» في توحيد الموقف السياسي الدفاعي الداخلي ضد العدوان الخارجي ، ووحَّدت
بين أهل المدينة وجعلتهم مواطنين مكلفين بالدفاع عن الوطن أمام أي اعتداء يفاجئ الدولة
من الخارج .
في
المبحث الثالث تحدث المؤلف عن مساواة الجميع أمام القانون ، بعد أن كانت حياتهم
قائمة على أساس التفاضل بالمال والجاه والشرف والتفاخر بالآباء والقبائل والأجناس ،
وكان من أعظم ما حققته الدولة الجديدة في المدينة أنها حطمت التفرقة
العنصرية والتمايز بين المتعاقدين في الحقوق والواجبات العامة ، فلا تمييز بين
الناس في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة ، وإن لكل شخص الحق
في التمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها الآخرون ، ويخضع
لجميع التكاليف التي يفرضها القانون على الأفراد .
ويسترعي
انتباهنا كذلك أن «الصحيفة» جعلت للمدينة "حرماً"
لا يحل انتهاكه باعتبارها مركز الدولة ومركز المجتمع التعاقدي المتنوع ، وقد بلغ
من حرص النبي صلى الله عليه وسلم أنه أرسل بعض أصحابه يبنون أعلاماً على حدود حرم
المدينة بين لابتيها شرقاً وغرباً ، وبهذا حل الأمن داخل المدينة ، ولم يعد أحد
يجرؤ على انتهاك حرمها وحدودها .
في
الفصل الرابع تناول المؤلف البعد الحضاري في «الصحيفة» وكيف رفع
الإسلام راية التسامح الديني الذي لم يعرفه الآخرون إلا منذ قرن ونيف ، بعد
قرون مظلمة طويلة من التعصب الديني والاضطهاد والمجازر الرهيبة بين اليهود
والمسيحيين، وقد أعلن الإسلام بكل صراحة ووضوح عداوته للتطرف
والغلو ، سواء في الدين أو في التعامل الأخلاقي بين البشر ، متوخياً في دعوته
أسلوباً حضارياً راقياً يقوم على مبدأ التسامح ويندد بالتعصب الديني والإرهاب
الفكري كما جاء في قوله تعالى : ﴿ لا إِكْراه في الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ سورة البقرة ، 256 ، والشواهد على هذا التوجه الإسلامي كثيرة وهي
تتوافق مع بنود "دستور" الدولة الإسلامية في المدينة الذي أقر مبدأ
التسامح بين جميع الأطراف المتعاقدة من مسلمين ويهود ووثنيين ، وترك للإنسان حريته
الفكرية والاعتقادية ، لأن دولة الإسلام دولة «الحرية»
لا «الحتمية» ، وقد قامت على أساس إنساني مفتوح ﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ
فَلْيَكْفُرْ ﴾ (الكهف:29) فهي لا تصادر الأفكار
والعقائد الأخرى وإنما تدفع العدوان من جانب أصحاب تلك الأفكار والعقائد فحسب ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن
يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ (الممتحنة:9) ، فإن توقف العدوان تقدست حرمات الإنسان وأصبح التعاون
هو الأصل ﴿
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ (الممتحنة:8) ،
ويصرح «دستور» الدولة الوليدة بجلاء أن لكل طرف من الأطراف المتعاقدة دينه ومعتقده
، يمارسه بكل حرية ، في ظل هذه الدولة التي لا تتلفع بعصبيات الدم والأرض لتصنع
عصبية أخرى ؛ لأنها ليست دولة قبيلة أو دولة مدينة ، وإنما هي "دولة فكرة"
تفتح أبوابها لمختلف الأديان ما برئت من نزعات العدوان ، وبهذا أرسى
الإسلام مبدأ التواصل الحضاري بصورة مطلقة ، من منطلق التعاون على البر والتقوى ، وإزاحة
العقبات التي تحول دون تحقيق هذا المبدأ الإنساني العظيم ، وبهذا فقد سبق الإسلام أمم
الأرض والمنظمات الدولية إلى إعلان "التعايش السلمي" بمقتضى قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ وتنديده
بالإخلال بمبادئ السلم معتبراً ذلك نزوعاً مشيناً إلى الشر ، لأن
البشر في منظور الإسلام من أصل واحد ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ﴾ (النساء:1)
فالأصل بين البشر هو التعارف والتعاون بعيداً عن أية عصبية جنسية أو عنصرية أو
إقليمية أو نعرة ثقافية .
لقد
أحدث «دستور» المدينة ، نقلة نوعية بإخراج أصحاب الديانات المختلفة من مأزق الصراع
والتناحر ـ وفتح للمتعاقدين عهداً من الوئام والتفاهم والتعايش يقوم على مبدأ ﴿
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ (الكافرون:6) ، ومبدأ ﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ (الكهف:29) ، وهذا هو أهم ركن من أركان الحضارة
المنشودة .
إن
الباحث المتأمل في هذا الدستور ومقاصده البعيدة التي كانت وراء تلك الثوابت ، التي
ألمحنا إليها ، لا يخامره أدنى شك أنه أعظم ميثاق للتعايش السلمي عرفه التاريخ ،
وليس كما يظن معظم الناس اليوم بأن المدنية الحديثة هي التي جادت علينا بهذه المفاهيم
والنظم والقوانين !
في
المبحث الثالث تحدث المؤلف عن رعاية "حقوق الإنسان" وتأكيد حرمتها، فقد كان
من أولويات «الصحيفة» كفالة الكرامة الإنسانية لمواطني
الدولة الجديدة التي تمكن الفرد من ممارسة حقوقه وحرياته الشخصية في هذه الحياة ،
معتبرة انتهاكها والاعتداء عليها جريمة تستوجب العقوبة ، وتلك
الحقوق في نظر الإسلام ليست مجرد حقوق وإنما هي ضرورات واجبة له يأثم إذا فرط فيها
، بعكس الإعلانات السياسية والإنسانية والدراسات الدستورية التي تركز على «الحقوق»
مع إشارة عابرة إلى الواجبات ، أو عدم الإشارة إليها إطلاقاً ، لقد أرست «الوثيقة»
حقوقاً للإنسان وواجبات عليه ، في تنسيق بديع يتوازن فيه الحق والواجب بما يحقق
للإنسانية الخير والعدالة .
باختصار
.. فإن «اصحيفة المدينة» كانت رائدة في تاريخ الدساتير ، وقد كشفت بوضوح تام البعد
الإنساني والحضاري في مبادئ الإسلام ، وبينت أن الاهتمام بالمسائل الاجتماعية
والعلاقات البشرية ليس أمراً عارضاً تمليه الظروف ، وإنما هو سمة أصيلة واهتمام
مركزي في المشروع الإسلامي . فالنبي محمد صلى الله
عليه وسلم لم يأت لتبليغ الرسالة باعتباره رائداً للدين ومبشراً ورسولاً
فحسب ، وإنما كان حاكماً تولى شؤون الأمة ووضع الحلول لمشكلات المجتمع ، وأقام
وحدة سياسية وتنظيمية ، ووضع الخطوط العامة لنظام حكم متكامل في الدولة الجديدة يختلف كلياً عن الأنظمة التي كانت سائدة في ذلك العصر ، وهو نظام لا
يقل تنظيماً عن الأنظمة القائمة في الدول الحديثة القائمة اليوم ، إن لم يتفوق
عليها في مجالات عديدة بسبقه وحسن تنظيمه ودقته ، وهذا ما يوجب علينا أن نعود إلى
هذه "الصحيفة" لنستلهم منها دساتيرنا الجديدة التي يمكن أن تلبي أشواق
"الربيع العربي" وتحقق آمال الشهداء الكبار الذين صنعوا لنا هذا
"الربيع" وتركوا الأمانة الكبيرة في أعناقنا !
د.أحمد
محمد كنعان
kanaansyria@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق