النصب
كما في سورة العاديات: " والعادياتِ ضَبْحاً(1) فالموريات قَدْحاً(2) .
فالمُغِيراتِ صُبْحاً(3)، أو الوقف على ها المؤنثة كما في سورة الشمس "
والشمس وضحاها(1)، والقمر إذا تلاها(2)، والنهار إذا جلّاها(3) . وهذا ما كان
يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم()
.
وفي
سورة الكوثر تتوالى الحركة ثم الساكن بالوقف، فالآية الأولى على وزن ( فعْلن
فعْلن فعْلن فعْلن) وهي على نغمة البحر المتدارك، وكأنها قفزات صغيرات كقفزات
الطفل وهو يردد هذه السورة التي هي أقصر سور القرآن الكريم، وفي الآية الثانية
جاءت النغمة ( فعول فعول فعولن)، وتنتهي الآية الثالثة بـ ( فعِلن فعْلن ) كما
بدأت، وبهذا الانتظام والتوازن والتغيير في آن واحد يتحقق التناغم الجميل، وكأن
القرآن الكريم بسوره القصيرات علَّم شعراء الأطفال أن يستخدموا النغمات القصيرات
ليطربوا الصغار، ويسهِّلوا عليهم الحفظ وبذلك يتحقق الجمال في الانسجام الصوتي
والانسجام المعنوي، وهذه أسمى غايات الأدب القرآني .
وفي
سورة المسد نقرأ الشِّدة في مطلع السورة ذي الموقف الشديد، والقوة في الوقفات وذلك
في قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ
مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) " . فقد
جاء الوزن على ( فعلْ ) بالوقف، فكأن التبّ وهو القطع ترك
بصماته على أوزان الفواصل كلها فغدت مقطوعة أيضا في: ( وتبّْ،
كسبْ، لهبْ، حطبْ، مسدْ) وكان لوقع حرفي الروي الباء والدال أثره في إضفاء جو
الشدة الانفعالي، وهكذا ناسبت الفواصل بموسيقاها معاني وأفكار نصوص القرآن
الكريم المعجز .
وفي سورة الناس نقرأ في قوله تعالى الجرس الصوتي
المناسب لوسوسة الإنس والجن : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ
(4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
(6( " . وهذه السورة تتحدث عن لجوء
الإنسان إلى ربه ليحفظه من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، وجاء
حرف السين ليشارك في أداء معنى الوسوسة، وكان التذييل()
في وزن (فعْلان) الذي تنتهي به الفواصل كلها والمكونة من آخر لفظ مع جزء من
الكلمة السابقة ليشير بمدته ثم سكونه إلى امتداد الوسوسة، وكان لتكرار لفظ
الناس أربع مرات، وعدم استخدام الضمير بدلا من اللفظ، وتحقيق الجناس بين الناس
والخناس أثره الموسيقي أيضا .
وجلُّ
فواصل السور المكية تقصر حتى لتبلغ كلمة أو اثنتين أحيانا، ولكن بعضها يطول حتى
يبلغ أسطرا عديدة كما في سورة هود ويوسف وإبراهيم والحجر، وقد تكرر فيها كلمات
أو آيات، وللتكرار جماله وعذوبته، فسورة الشعراء وهي من السور المكية كررت
فيها الآيتان " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين . وإن ربك لهو على
العزيز " في الفواصل بعد ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم، وفي سورة القمر
وهي من السور المكية أيضا كرر فيها " فكيف كان عذابي ونذر. ولقد يسرنا
القرآن للذكر فهل من مدكر"، وسورة النحل جاءت فواصل آياتها(10-21) من
الأفعال الخمسة بالجمع بالواو على نحو:( تسيمون، يتفكرون، يعقلون، يذّكرون، تشكرون،
تهتدون، تذكّرون)،وكثر فيها هذا وما شابهه من وزن اسم الفاعل في الجمع
مثل"مستكبرون(22) المتكبرين(29) " .
وانتهت
معظم فواصل سورة الإسراء بنغمة ( فعيلاً) أو (فعولاً ) مع الراء أو اللام
المنونين المنصوبين على
نحو قوله تعالى ( وكيلاً، شكوراً، كبيراً، مفعولاً، تتبيراً ،عجولاً ... ) ووجدت
حروف أخرى منصوبة بتنوين النصب مثل( رحيماً جديداً )، أما سورة الكهف فانتهت
بتنوين النصب بلا مدة قبلها مثل ( عوجاً، حسناً، أبداً، بدلاً) .
على
حين انتهت سورة طه بالألف غالبا على نحو( لتشقى، يخشى، العُلى، استوى...)وقلما
خالفت هذه الألف على الرغم من أن آياتها بلغت خمسا وعشرين ومئة آية، وكان لهذه
الألف جرس ناغم وساحر، وقد جاءت بعض الآيات بتنوين النصب، ولا يخفى أنها عند
القراءة تقرأ ألفا أيضا، نقرأ منها قوله تعالى شاهداً على ذلك :
"
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي
نَسْفًا(105)فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفاً (106)لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا
وَلَا أَمْتًا(107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ
وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا(108)"
.فهذه الألف أعطت معنى المد في النسف والاستواء وخفوت الصوت، ولو قرئت
بالتنوين لكان لها أيضا جرس لطيف، ولما انتقلت الفاصلة إلى الألف ( غير
المنونة) جاءت على نحو : " وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ
فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا
آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ
الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى
(118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) " كان للمد
أثره في المعنى في نفي العزم وإباء إبليس وشقاء الإنسان، وهذا المد يناسب ذاك
التنوين ويتواءم مع نغمات السورة كلها . ومدود الألف في السورة أحدثت جمالا
معنويا إلى جانب الجمال الصوتي بنغماته الحلوة، ذلك لأن للمدود خصائص موسيقية
تجعل تأثيرها النفسي أقوى لتنوع الموسيقا بين الارتفاع والهبوط .
وسورة
مريم انتهت بألف تنوين النصب مسبوقة بشدة غالبا، أو بحرف قوي كالدال، على نحو
قوله تعالى : " وَقَالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ
السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ
الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا
يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ
أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ
لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ
لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ
لَهُمْ رِكْزًا (98) " . وهذه الفاصلة
الملتزمة بالدال المنونة المنصوبة المسبوقة غالبا بشَدَّة تناسب المعنى وتوحي
بالشِّدَّة المناسبة لتهديد المولى تعالى للكفرة المشركين،
وإذا أضفنا الدال المشددة أدركنا قوة النغم للموقف العسير، حتى الألفاظ
الداخلية شاركت في أداء المعنى، فالسموات يتفطّرن، والأرض تنشقّ، وتخرّ الجبال،
والمفعول المطلق هدّا وعدّا ، والوصف لدّاً .. جاء التنوين فيها كنقرات إضافية أكسبت الآيات
دندنة لفظية متناسقة وترنما جميلا، وصدى جمالياً يوحي بالقوة، والكلام إذا
انسجم بعضه مع بعض جرى على اللسان كما يجري الدهان على حد قول الجاحظ، ولذَّ
سمعه وقرب فهمه وعذب النطق به().
ولم يختلف
الروي في السورة إلا قبيل نهاية السورة عند تقرير حقيقة عيسى عليه السلام
ليلفت النظر بتغيير النغمة الموسيقية إلى هذه الحقيقة وذلك في قوله تعالى
" ذلك عيسى بنُ مريم قولَ الحق الذي فيه يمترون ..." وعندما انتهت
آيات التقرير عاد الروي إلى ماكان عليه ، ثم جاءت الآية الأخيرة بالزاي لتناسب
الهمس البسيط كهمس النحل، وهذا يدل على أن القرآن الكريم يأتي بالفاصلة
المناسبة بدون تكلف لها بحيث تبدو محطات نفسية ومرتكزات معنوية وصوتية معا .
وفي سورة
المؤمنون جاءت فواصل الآيات في مطلع السورة منتهية بالواو والنون في قوله تعالى
: " قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ
(10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) " .
وهذه
الآيات جاءت في المطلع على صيغة اسم الفاعل في حالة جمع المذكر السالم المرفوع
بالواو والنون، إلا واحدة هي ملومين، ولا ننسى أن الواو والياء تنسجمان عروضيا
لتقارب عدد ذبذباتهما الصوتية، أما الفعل المضارع (يحافظون) فهومن الأفعال
الخمسة بواو الجماعة وثبوت النون ويدل على استمرارية صلوات المؤمنين .
ولو نظرنا
إلى نغمتي (العادون، راعون) ، وهما اسمان منقوصان حذفت منهما الياء حينما
جاءتا على جمع المذكر السالم، لرأينا أنهما يحققان نغمة خاصة، ففيهما جناس
إضافة إلى وزن اسم الفاعل، ولو أن الله سبحانه جاء باسم الفاعل للفعل اعتدى:(
المعتدون) بدلا من الفعل (عدا: العادون)لانكسر الوزن وزال الانسجام .
ولما
انتقل تعالى إلى الحديث عن خلق الإنسان تغيرت النغمة بتغير الموضوع، فجاءت
الآيات بالياء والنون مثل " طين، مكين، الخالقين" وذلك في قوله
تعالى : "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ
طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ
خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)" . فكأن
تغير المعنى يناسبه تغير النغمة ليلفت المولى تعالى بذلك إلى قدرته في الخلق .
فسبحان من أعجز البشرية بكتابه لفظا ومعنى .
أما
فواصل السور المدنية فإنها تطول حتى تبلغ آيات كثيرة، ويكثر فيها الأفعال
الخمسة كما في سورة البقرة والمائدة والأنعام والأعراف، إذ كرر في الأولى
الفعل يعلمون أو تعلمون إحدى وعشرين مرة خلافا لسورة النساء التي جاءت فواصلها على
وزن فعيل وفعول مع تنوين النصب غالبا، على نحو قوله تعالى ( رقيبا، كبيرا،
حسيبا، سديدا، حكيما ... غفور رحيم، عليم حكيم، تضلوا السبيل ..) .
وفي
سورة الفتح جاءت الفواصل على وزن ( فعيلا) غالبا كما في مبينا، مستقيما، عزيزا،
قديرا، نصيرا ، أليما، قريبا ، شهيدا...)، كقوله تعالى:" إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا(9) " . ولو قال (وتسبحوه بكرة وعشيا،أو سحرا، أو مساء) لانكسر
الوزن، وأما اختلاف الروي بين ( نذيرا، أصيلا) فاللام والراء فاصلتان
متقاربتان لتقارب مخرجيهما، وهذا ما لا يؤثر على الانسجام الصوتي .
وفي
سورة محمد جاءت الفاصلة على ميم الجمع للغائب مثل (أعمالهم، بالَهم، أضغانهم،
إسرارهم، أدبارهم...) إلا بضع آيات جاءت بميم الجمع للمخاطبين من المؤمنين،
وآيتين فاصلتاهما (ها) التأنيث وهما (
أمثالها، أقفالها)، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مراعاة القرآن الكريم
للمعنى والصوت معا .
وقد نلقى
في السور المدنية والمكية تكرار كلمات أو آيات، كسورة الرحمن إذ كررت فيها (
فبأيِّ آلاء ربكما تكذبان) إحدى وثلاثين مرة لتحقق نغما متواليا وجرسا عذبا
بالألفات والنون . وفي سورة المرسلات كررت " وَيْلٌ يومئِذٍ للمكذِّبين
" عشر مرات فحققت تنغيما جميلا .
وفي سورة
الحج نرى مراعاة الفاصلة القرآنية في قوله تعالى:" قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ(٤٩) فَالَّذِينَ آَمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم(50)وَالَّذِينَ
سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(٥١"()
.
فالسورة
في مجملها مبنية على حرف قبله ردف الياء أو الواو، وعلى وزن فعول وفعيل، ولذلك
لما تحدث المولى تعالى عن الذين آمنوا قال " لهم مغفرة ورزق كريم "
ولم يقل جنات تجري من تحتها الأنهار مثلا، وكذلك الحال عندما تحدث عن الذين سعَوْا
في آيات الله معاجزين لم يقل (أولئك أصحاب النار) بل قال " أولئك أصحاب
الجحيم " لأن الألف لاتتناسب مع الواو والياء، وبذلك حقق التناسب الصوتي
فضلا عن التناسب المعنوي .
وكذلك
الحال في سورة الطلاق فقد جاءت قوافيها كلها على شكل كلمة تامة مثل " أمْراً
، قَدْرا ، يُسْرا، أجْرا، أخرى، نُكْرا، خُسْرا، ذِكْرا، رِزْقا، عِلْما " إلا
الآية الثانية فكانت (مخرجا)، وهذه القوافي بفواصلها المنونة بتنوين النصب جعل
وصف الجنة في السورة في قوله تعالى " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا " -
ينتهي بـ (رزقا)، واختصر بهذه الكلمة وصف الجنة ونعيمها، وكانت نغمتها مناسبة
للسورة، فضلا عن معناها المناسب للطلاق وذكر نفقة الرجل على المطلقة وضرورة
تقوى الله سبحانه في ذلك .
وانتهت
سورة البينة بروي الهاء( التاء المربوطة) وقبله شدة أو قبل حرف منه ، وذلك على
نحو : " البيِّـنة، مطهَّـرة، قيِّـمة، خشي ربَّـه " . وعند وصف
النار جاء قوله " أولئك هم شر البريّة " وفي وصف الجنة جاء "
أولئك هم خير البريّة " وذلك مراعاة للفاصلة والمعنى معا .
وبعض
الجمال يتحقق بالمجاز الذي يأتي لمراعاة الفاصلة صوتياً كما في سورة الإسراء
في : " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ
السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا
غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) "، فالفاصلة
( مستورا ) بمعنى ساترا وجاء اسم المفعول بدلا من اسم الفاعل ليناسب الفاصلة
السابقة ( حليما غفورا ) وبذلك يتحقق النغم العذب، بل إن فواصل سورة الإسراء
جاءت على ردف الواو والياء كما في ( مشكورا ، محسورا، بصيرا، تبذيرا... ) ولو
جاءت بالألف لكانت ناشزة لطول ذبذباتها الصوتية .
ومن هذا
القبيل قوله تعالى في سورة الذاريات : " وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ
إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي
الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40( " . فالله سبحانه قال مجازا ( وهو
مليم) بمبالغة اسم الفاعل ولم يقل (مُلام) باسم المفعول لأنه جاء بما يلام
عليه، لأن الألف أطول نغمة من الواو والياء، وينكسر النغم بها، وهذا المجاز المرسل
معروف في اللغة العربية .
ومن مراعاة
الفاصلة أيضا ارتباط مابعدها بها، وكان التوقف عند الفاصلة للانسجام
الصوتي والتفكر المعنوي معاً، ففي قوله
تعالى في سورة البقرة : "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ
مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي
الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) "
ففاصلة الآية (119) :(يتفكرون) تدع القارئ يفكر ، وكذلك يتعلق بها
الجار والمجرور( في الدنيا والآخرة) اللذين جاءا في مستهل الآية (220)، وذلك
لأن فواصل السورة كانت تنتهي عادة بفعل مثل يعلمون، أو بوصف مثل غفور رحيم لانسجام
النون مع الميم .
وكذلك
الحال في سورة الصافات : " هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ(21)احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا
يَعْبُدُونَ(22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ
الْجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(24) مَا لَكُمْ لَا
تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) " . لقد انتهت
الفواصل بكلمات تنتهي بالواو والنون،ولكن الآية(23) بدأت بجار ومجرور متعلقان
بفعل الفاصلة(22)،وكأن إنهاء الآية السابقة بفعل ينتهي بالواو والنون لا
بمتعلق الفعل كان لمراعاة الانسجام الصوتي()
فضلا عن الدلالة المعنوية، فكل ما يعبدون حشوا ليكونوا في الجحيم .
وقد يكون
هناك تقديم وتأخير مراعاة للفاصلة وتوكيدا للمعنى معا كما في قوله تعالى في
سورة طه :" قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67( " .إذ تأخر الفاعل (موسى) للدلالة
على شدة الخوف الذي انتابه من عصي السحرة، حين خُيِّل إليه أنها تسعى .
وقد يكون
تقديم الصفة على الموصوف مراعاة للانسجام الصوتي، ففي سورة الرعد جاء حرف
الردف الألف قبل الروي المتعدد، وكانت الفواصل مثل ( وال، الثقال، المحال، ضلال،
آصال، قهار... ) ولذلك قال تعالى في (الآية /18) مقدما الصفة(بئس) على الموصوف
( المهاد) مراعاة للفاصلة وتفخيما للمعنى : " لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ
لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ
أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ (18) .
وكذلك
الحال في الآية /21 من السورة نفسها : " وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ
الْحِسَابِ (21) فقد قدم الصفة ( سوء
) على الموصوف (الحساب) لتنسجم الفاصلة مع فواصل السورة .
وقد يتحقق
بالفاصلة أكثر من معنى، ففي مطلع الآية الرابعة من سورة آل عمران : " ألم~(1)اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) " . نرى أن فاصلة الآية الثالثة ( وأنزل
التوراة والإنجيل) ارتبط بها مطلع الآية الرابعة ( الجار والمجرور من قبلُ ) وفي الوقت
نفسه بدأت الآية الرابعة بهذا الجار والمجرور المتعلقين بكلمة ( هدى للناس )
فهذا الوقوف والبدء حققا معنيين هما أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل من قبل
الكتاب ( القرآن الكريم )، وأن التوراة والإنجيل كانا من قبل هدى للناس أما
بعدما أنزل القرآن فقد صار القرآن الكريم مصدر الهدى للناس وإلا فلم فصل
المولى تعالى بين (من قبل) و(هدى للناس )؟
وقد تبنى
الفاصلة على حروف قوية تناسب مواقف الشدة كما في ( سورة ق~)، فهي سورة تتحدث
عن أهوال يوم القيامة لمن كذب بالوعيد، وجاءته سكرة الموت فلا محيد عنها
وسيلقى في العذاب الشديد، ولذلك جاءت فواصلها بحروف قوية كالقاف والجيم والدال
والباء والظاء والصاد، على نحو قوله تعالى : " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا
تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
(16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ
قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
(19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ
قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ
كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي
جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ
(26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ
بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
(31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) .
فهنا نرى
الفواصل على وزن فعيل ( وهو للمبالغة)، وجاءت قافيته على الدال والباء في مثل
( الوريد ،قعيد، عتيد، تحيد، مريب،
الوعيد)، حتى في الحديث عن الجنة كانت حروفها قوية لتناسب أصوات حروف السورة في مثل (بعيد، حفيظ، الخلود، مزيد) .
وفي سورة
القمر نرى حرف الراء روياً لفواصلها كلها دونما استثناء حتى في تسميتها، وجاءت
القافية()
على وزن ( فاعلن) في تسع وثلاثين آية، منها اثنتا عشرة متواليات في مطلع
السورة، وست في أواخرها، وعلى وزن (فعلن) في ست عشرة آية، وأرى بعد النظر في
سبب الخبن()
الذي جاء في هذه التفعيلة أنها جاءت بعد الحديث عن تعذيب الأقوام، قوم نوح
وعاد وثمود ولوط وفرعون، وذلك في قوله تعالى " فكيف كان عذابي ونذر؟ ولقد
يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟ " كما وردت في ذكر التعذيب بالنار، وبعد
ذكر الجنة . من ذلك قوله تعالى في هذه السورة :
بَلِ
السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ
عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ
شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ
(53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55( " . فوزن فاعلن جاء في:( مستقر،
مدكر، نَ النذر،مقتدر،في الزبر، منتصر، نَ الدبر، بالبصر، مدّكر، في الزبر، مستطر، مقتدر)، أما وزن
فعلن فجاء في ذكر النار والجنة للإسراع بالعذاب والنعيم وذلك في: ( ونذر،
وأمَرّ، وسُعُر، سَ سَقَر، بِقَدَر، ونَهَر ) .
وكثيرا ً ما يأتي في الفواصل القرآنية وصف ثنائي يناسب
السياق، ففي سورة البقرة جاء هذا الوصف بـ ( سميع عليم ) في فاصلة قوله تعالى:
" لَا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(256) " .
وفي سورة النساء نقرأ هذا الوصف أيضاً في قوله عز
وجل : "إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ
نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ". فقد انتهت الآية (58) بوصف ثنائي بـ (سميعا
بصيرا)، أما الآية الأخيرة فالوصف جاء بـ(خير وأحسن تأويلا).
وفي مستهل سورة سبأ نرى الصفتين الثنائيتين في
فاصلتي الآيتين الأوليين: ( الحكيم الخبير ، الرحيم الغفور ) في قوله تعالى :
"الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ
الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا
يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) " .
ومن
مراعاة الفاصلة القرآنية الجر على الجوار وهو معروف عند العرب()،
وبه فسر بعضهم
قوله
تعالى في سورة هود " وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ
لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ(26)"، فقد جُرَّت( أليمٍ ) لمجاورتها ( يومٍ) مع
أنها صفة لــ( عذابَ )،
وأرجح أنها
من المجاز العقلي الذي علاقته زمانية، وصف به اليوم لا العذاب للمبالغة في
التحذير من
يوم القيامة
أو يوم الطوفان، وأسند فيه العمل إلى زمانه كما في ( نهاره صائم وليله قائم )
.
وقد لاحظت خلال محاولة حفظ القرآن الكريم _ وأرجو
الله سبحانه وتعالى أن ييسره لي _ أن الفواصل القرآنية قد تحوي حرفاً كثر
أمثاله ولا سيما بعدها، وقد يتشابه صوت أو رسم حرف الفاصلة مع ما قبلها أو ما بعدها
مما يسهل عملية الحفظ كثيراً :
فمن تشابه حرفٍ في الفاصلة مع حرفٍ قبلها وبعدها
قوله تعالى في سورة الحشر : " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً
عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) " .
فقد وجد حرف القاف ثلاث مرات اثنين قبل الفاصلة ، وآخرها في الفاصلة، ثم جاء
بعدها كلمة ما قطعتم وفيها القاف أيضا وبذلك الانسجام الصوتي يسهل الحفظ .
ومن
ذكر الحرف بعد الفاصلة قوله تعالى وقد كرر حرف القاف أيضا في سورة المائدة :
" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (38) " . فقد سهل حرف القاف في فاصلة الآية (37) الانتقال من
معنى يتحدث عن المفسدين والكفرة إلى معنى السرقة، كما حقق الانسجام الصوتي إذ
لم يقل تعالى ولهم عذاب أليم بل قال مقيم
.
وكذلك
ورد حرف الشين في الفاصلة وما بعدها في قوله تعالى في سورة يونس : "
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو
مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ
شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ
ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا
أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) " . فقد هون مجيء لايشكرون
لمعرفة مابعدها في كلمة شأن .
وكذلك وجد حرف الصاد في فاصلة آل
عمران فسهل معرفة مابعدها لوجود كلمة صدوركم التي
تحوي الصاد، قال تعالى : " لَا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ
مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا
أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ(28) قُـــــلْ إِنْ تُخْفـــُـــــــوا مَا
فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(29)"
كما لاحظت كثرة حرف الكاف بعد
فاصلة ( الآية 65 ) في سورة الإسراء في قوله تعالى : " إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ
الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا (66)" .
ويكثر هذا في فواصل آيات القرآن
الكريم()
مما يسهل الحفظ ، وهذا لم يكن ليتحقق لولا الانسجـــــــام
الصوتي للفواصل مع مايجاورها .
بل إن الانسجام بلغ أحيانا بتكرار
حروف كلمة كما في ( مَصْرِفا ولقد صَرَّفْنا ) في قوله تعالى في
فاصلة الآية 53 من سورة الكهف مع
ما بعدها : " وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا
عَنْهَا مَصْرِفًا(53) وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ
الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا(54)".
فسبحان من أعجز البشرية بقرآنه الكريم
فكراً ومعاني وانسجاماً صوتياً لامثيل له .
ثانيا: جماليات الانسجام الصوتي في الحذف والزيادة :
من
أهم عناصر الإبداع في النصوص الأدبية اللغة، وهي ليست حروفا تتآلف مع بعضها
بعضا، وإنما هي قيم صوتية ودلالات معنوية، ولهذا فإن حذف أي حرف أو زيادته قد
يضفي جرسا موسيقيا عذباً، وهذا الحذف والزيادة قد نراهما في القرآن الكريم في
الفواصل أو خلال الآيات()
.
من ذلك
أيضا حذف ياء العلة في الفعل وياء المنقوص في الاسم من فاصلتين في سورة الفجر
في قوله تعالى: " والفجرِ(1) ولَيالٍ عشْرٍ(2) والشفعِ والوَتْرِ(3)
والليلِ إذا يســـــرِ(4) هل في ذلك قسَمٌ لذي حِجْرٍ(5)أَلَمْ تَرَ كيف فعلَ
ربُّكَ بعادٍ(6) إِرَمَ ذاتِ العِمادِ(7) التي لم يُخْلَقْ مثلُها في
البلادِ(8) وثمودَ الذين جابوا الصخرَ بالــوادِ(9) ". فالوقف على الفواصل يجعل الدال ساكنة،
ولذلك حذفت ياء الفعل المعتل (يسري)، وياء الاسم المنقوص (بالوادي) فحقق كل منهما نغمة عذبة لتلائم الفواصل
أخواتها في ( الفجرِ، عشرٍ، الوترِ، يسرِ، حجرٍ) و( بعادٍ، العمادِ، البلادِ،
بالواد)، ولو قال بالوادي لاختل الوزن. ويقول الزركشي: " إن مبنى الفواصل
القرآنية على الوقف ولهذا جاز في سورة الرعد: "وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ
مِنْ وَالٍ(11)" مع"وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)"().
وفي
سورة هود في قوله عز وجل : "وما نؤخِّرُهُ إلا لأجلٍ معدودٍ(104) يوم
يأتِ لا تَكَلَّمُ نفسٌ إلا بإذنِهِ فمنهم شقيٌّ وسعيد(105) " .حذفت ياء
العلة في يأتي وتاء المضارعة في لاتَكَلَّمُ أي يوم يأتي لا تَتَكلَّمُ نفسٌ
إلا بإذنه ولو قال ذلك لأثر ذلك على انسياب الصوت في الآية .
ونقرأ
في هذه السورة : " وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ
هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ
الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(8) عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ(9) " .وفيه نرى حذف
ياء المنقوص (المتعالي) ليناسب اللفظ نغمة الفواصل الأخرى عند الوقف على
السكون مع الردف السابق القافية .
وفي
السورة نفسها نرى في قوله تعالى : " وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا
تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ
حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) " . حذفت ياء
المتكلم للمناسبة الصوتية عند الوقف كما هو الحال في الآيات السابقة .
ومن
حذف ياء المتكلم للترنم في سورة الشعراء:" قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ
الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ
الْعَالَمِينَ(77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78)وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي
وَيَسْقِينِ(79)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)وَالَّذِي يُمِيتُنِي
ثُمَّ يُحْيِينِ(81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
الدِّين(82). فالفاصلة تقف على النون ولذلك حافظ المولى تعالى على النغمة بحذف
ياء المتكلم، ويتبين أهمية ذلك في الفرق بين يطعمني ويسقين .
وقد
تحذف هاء التأنيث للانسجام الصوتي كما في قوله تعالى في سورة الشورى :"
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ
حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي
السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) " فالآيات فواصلها على وزن فعيل
ولذلك جاء وصف الساعة المؤنثة بالمذكر في ( قريب لا قريبة) وحذف التاء المربوطة كان
للجمال الصوتي في الفاصلة القرآنية ، ولأن وزن فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث،
وقيل بل المعنى " قريب مجيئها()
"، وبهذا يكون المرفوع بعد الصفة المشبهة قد حذف مراعاة للفاصلة .
وقد
تحذف حركة فيكون لتسكين الكلمة أثر نغمي كما في قوله تعالى في سورة النمل :
" قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(27)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلـقِـــــهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ
فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) " .فالفعل (ألقه) حذفت الكسرة من ضمير
الغائب المتصل به ليؤدي بنبرة السكون نغمة قوية تناسب نبرة الأمر وشدته من
الملك القوي سليمان .
وقد
يزاد حرف في الفاصلة كما في زيادة هاء السكت في سورة القارعة في قوله تعالى :
" وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) وَمَا
أَدْرَاكَ مَا هِيَــــــــهْ(10) نَارٌ حَامِيَةٌ(11( " . فقد زيدت الهاء في الضمير
مراعاة للفاصلة ولتوحي بشدة الخوف واللهاث من أهوال يوم القيامة معا .
وفي
سورة الحاقة نرى أيضا زيادة هاء السكت في قوله تعالى: " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ
هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ
حِسَابِيَهْ(20) فَهُوَ
فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي
جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا
دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ
(24) وَأَمَّا
مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ
كِتَابِيَهْ(25) وَلَمْ
أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْۜ(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)" .فالسورة
مبنية على الهاء ولذلك زيدت هاء السكت ست مرات في ( كتابيه مرتين، حسابيه
مرتين، ماليه، سلطانيه) تحقيقا للانسجام الصوتي مع فواصل الآيات .
وكذلك
زيدت الهاء في كلمة( اقتدِهْ ) في قوله تعالى في سورة الأنعام: " أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُۖ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (90) " .
فالوقف أولى بعد زيادة الهاء وذلك لتحقيق نغمة عذبة إضافة إلى التوقف عند
الاقتداء بالأنبياء تنبيها لفضلهم .
وقد
تزاد ألف على نحو زيادة ألف الإطلاق في الشعر، أو الإشباع في عروض البيت
الشعري وضربه، من ذلك قوله تعالى في سورة الأحزاب : " فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُـــونَا (10) " . وقوله في السورة نفسها :
" إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ
سَعِيرًا(64)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(65)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا
أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُــولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا
آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا
(68)" .
فالوقف
على السكون وحد النغمة وحقق الانسجام
الصوتي بين( بصيرا، ظنونا) ثم بين(سعيرا، نصيرا، رسولا ، سبيلا، كبيرا) لأنها
نغمة واحدة بينما لو حذفت الألف من (ظنونا) ومن ( رسولا، سبيلا) لاختل النغمة،
ولحصل فيها نشوز وهذا ما لا يمكن أن يكون في كتاب سحر الناس بأصواته العِذاب .
ثالثا : جماليات الانسجام الصوتي بالميزان الصرفي :
للميزان الصرفي جماله ونغمته لأن النبرة التي تخلفها
بعض الحروف أو المدود والشدات تكسب النص جرساً عذبا، لأن كل اهتزاز صوتي أو
موجة موسيقية سواء أكان عن طريق الشدة أم غيرها يؤثر في زمن النص، إذ يحتاج
إلى مدة زمنية تستغرقها الذبذبات الصوتية لتصل إلى طبلة الأذن عبر الأثير()
. وهذا الأثر واضح في اختيار كلمات لها وقع صوتي بارز :
ففي قوله تعالى في سورة الأنفال: " وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي
الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ
بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
" . فالفعل
يتخطّف بالتضعيف أبان كثرة تكالب الكفرة على المسلمين وخوف هؤلاء منهم حينما
كانوا لايزالون مستضعفين . والوقوف على الشدة أدى إلى نغمة قوية .
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في سورة التوبة : يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي
الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39( .
ففي كلمة (اثّاقلتم ) إيحاء بثقل الأرض كما يقول سيد
قطب : " إنها ثقلة الأرض، ومطامع الأرض، وتصورات الأرض .. ثقلة الخوف على
الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع، ثقلة الدعة
والراحة والاستقرار، ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب، ثقلة
اللحم والدم والتراب... والتعبير القرآني يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه .. (
اثّاقلتم) هي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل يرفعه الرافعون في جهد فيسقط
منهم في ثقل، ويلقيها بمعنى ألفاظه ( اثاقلتم إلى الأرض ) وما فيها من جاذبية
تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الروح وانطلاق الأشواق ... إن النفرة للجهاد في
سبيل الله انطلاق من قيد الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم، وتحقيق للمعنى
العلوي في الإنسان، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد
والضرورة، وتطلع إلى الخلود الممتد، وخلاص من الفناء المحدود()
" .
وفي (سورة القمر/38) : " ولقدْ صبَّحَهمْ
بُكْرةً عذابٌ مستقِرٌّ " فالفعل صبَّح يشير إلى تشديد ماجاءهم من عذاب
في الصباح الباكر. وفي هذه الوقفة على الشدة نبرة لأن النغمة تحدث من الحركة
كما تحدث من السكون، وقد أوحت هذه النبرة بصعوبة الموقف عند الصباح .
وفي كلمة سمّاعون جرس ونغم في قوله تعالى في سورة
المائدة يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ
وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ
آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ...
(41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ... (42) " . فالكلمات (سمّاعون المكررة وأكّالون) بهذه الشدات
فيها نغم وجرس قوي يشير إلى المبالغة في سلوكيات اليهود.
وفي السورة نفسها: " إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ(33)". فالأفعال (يقتَّلوا، يصلَّبوا، وتقطَّع ) بشداتها أكسبت
المعنى قوة من قوة جرسها الصوتي .
وفي قوله تعالى في سورة الأعراف:" والذين
يُمَسِّكون بالكتابِ وأقامُوا الصلاةَ إنّا لانُضيعُ أجرَ المُصلِحيْنَ"
نرى أن الفعل يمسّكون يشير بشدته التي أعطت نغما قويا إلى قوة التمسك بالكتاب.
وقد تجتمع شدتين أو أكثر في الميزان الصرفي وذلك
بالتضعيف لزيادة الدلالة على القوة أو الشِّدَّةِ والخطر مع نون التوكيد
الثقيلة ، فتزداد النغمة قوة إلى قوة كما في قوله تعالى في سورة طه : " إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا
لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ(15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ
بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16) " . فالنهي عن الاستجابة للكفرة الذين يدأبون على صدِّ
الناس عن الدين كان شديدا للدلالة على
خطر اتباعهم .
وفي قوله تعالى: " ومنهم مَنْ عاهدَ اللهَ لئنْ
آتانا مِنْ فضلِهِ لنصّدّقنَّ ولنكونَنَّ من الصالحينَ " ففي( لنصّدّقنَّ ) تأكيد قوي كقوة الشدات
في الفعل المؤكد بالنون الثقيلة والنبرة على الدال القوية.
وقد تكون الشدتان باستخدام الإبدال في وزن افتعل
وتفعَّل كما في قوله تعالى في سورة الروم : " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) " . فالفعل يصَّدَّعون على وزن يتفعَّلون مع إبدال
التاء قبل الصاد صادا وإدغامها مع مثيلتها، وفي ذلك زيادة في إيحاء التصدع
والتفرق يوم القيامة، يوم لاينفع نفسا إلا إيمانها وعملها .
وقد تكون قوة الدلالة في الميزان الصرفي ناجمة من
اجتماع حرف مد ثم شدة مما يعرف في علم التجويد بالمثقل الكلمي كما في قوله
تعالى في مستهل سورة الحاقَّة: " الحاقَّةُ(1) ما الحاقَّةُ(2) وما أدراك
ما الحاقَّةُ(3)؟ " فتشديد القافات وتواليها بعد الألفات السواكن، أضفى
على الكلمات جرسا قويا وجوا مهيباً يناسب ذكر الأهوال والعذاب في يوم القيامة .
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الفجر: " كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17) وَلَا
تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) " ،
فالفعل تحاضّون على وزن تَفَاعلون المضارع الذي خففت منه تاء المضارعة، وهذا
الوزن يدل على المشاركة، وفيه تضعيف الضاد بعد الألف، والمعنى يدل على شدة
البخل والامتناع عن إطعام المسكين .
ومثله قوله تعالى في وزن يحوي المثقل الكلمي في قوله
تعالى في (سورة غافر /47) : " وإذ يتحاجُّون في النارِ فيقولُ الضعفاءُ
... " فهو على وزن يتفاعلون، وفيه إخبار بقوة المحاججة التي ستكون بين
الضعفاء ومن اتبعوهم في نار
جهنم .
وقد يكون توالي الشدات في الميزان الصرفي لكلمات
متعددات في النص مما يضفي مظاهر القوة كما في سورة مريم في قوله تعالى مستنكرا
قول الكفرة استنكارا شديدا : " وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89) تَكَادُ
السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ
هَدًّا (90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا(91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا
(94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(95) . فتوالي ثماني شدات
في الآيات أوحى بقوة الغضب من ادعاءات الكفرة ،وقوة الوعيد الذي توعده بهم .
ومن جماليات الميزان الصرفي اجتماع حرفين ثقيلين كما في
الفعل يصطرخون في قوله تعالى في سورة فاطر: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ
عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَاۚكَذَٰلِكَ
نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُۚأَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُۖفَذُوقُوا
فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37) " فالفعل يصطرخون في الآية مع ثلاثة عشر حرفا من (ذ، ظ،
ص) أضفى جوا من الإيقاع الصاخب والصوت القوي الذي يناسب أصوات المعذبين في
جهنم .
وقد يكون جمال الميزان الصرفي بتكرار حرفين في وزن
فعلل الرباعي مثل " صرصرٍ، فدمدم،
زلزلة، فكبكبوا..." كما في قوله
تعالى في سورة الحاقة/6 : " وأما عادٌ فأُهلكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ
" فكلمة صرصر بجرس الصاد والراء وتبديل حرفيها تشير إلى تقلبات الريح
وصوتها وخطرها .
وفي حديث المولى تعالى عن عذاب ثمود في (سورة الشمس/14)
: " فدَمدَمَ عليهم ربهم بذنبهم فسواها " . فالدمدمة بتكرير حرفيها
تشير إلى تكرار العذاب عليهم حتى الفناء .
ومن ذلك أيضا كلمة زلزلة في قوله تعالى في سورة الحج :
" يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلــــزَلَــــــةَ السَّاعَةِ
شَيْءٌ عَظِيمٌ (1( " . فالزلزلة اهتزاز ينذر بخطر قوي يدمر بسرعة كل مايهتز .
رابعاً : نغم
التكرار الصوتي في القرآن الكريم :
ترديد الصوت يضفي إيقاعا موسيقيا تطرب له الأذن ويستمتع
به السمع، وقد يوحي بتفريغ شحنة الطاقة الشعورية، وهذا التفريغ جزء من الدلالة
التعبيرية()،
وقد يكون الإيقاع بتكرار لازمة معينة على مسافات متقاربة أو متباعدة، وتناوب
حركات وسكنات، وفي الازدواج والتوازن حلاوة وطلاوة، وبتكرار لفظ ما برد العجز
على الصدر أو بالمفعول المطلق، أو بتكرار حرف ما كما في الجناس والسجع والمدود
أو بغيرهما له نغم متوائم وجرس حلو.
فمن تكرار لازمة صوتية قوله تعالى في سورة المرسلات :
فاللازمة في قوله تعالى " ويل يومئذ للمكذبين
" تكررت على مسافات متفاوتة على نحو يذكرنا بالموشحات وتغاير الأقفال
والأبيات فيها. ويذكر الأستاذ محمد الحسناوي أن اللازمة الموسيقية والفواصل
المكررة وتغيير النهايات تساهم في إضفاء جمال على أنغام الآيات()،
وكأن اللازمة وقد أضيفت إلى نغمات الفواصل صارت ضربات إيقاعية كقرع طبل الحرب
في آذان الظالمين .
وهناك تكرار للّازمة الصوتية أيضاً في سورة الرحمن، فقد
كررت:" فبأي آلاء ربكما تكذبان" إحدى وثلاثين مرة كما في قوله تعالى
:
" خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ
كَالْفَخَّارِ(14)وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ(15) فَبِأَيِّ
آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(16)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ(17)
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا
بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
(21)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ(22)
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(23)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ
كَالْأَعْلَامِ(24) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) .
فكأن هذه
اللازمة محطة تستروح فيها النفس بترنيمات المدود وبنغمة النون ...
وقد كرر في
سورة الشعراء: " إنَّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرُهم مؤمنينَ وإنَّ ربَّك
لهوَ العزيزُ الرحيمُ " بعد كل قصة وردت عن الأنبياء وأقوامهم()
.
والقرآن الكريم
الذي جاء بأبهى حلة عمد أيضاً إلى المحسنات اللفظية كوسيلة لإضفاء وقع صوتي
عذب على الكلام، لما في انسجام الأصوات من تأثير على المعاني، ومن هذه
المحسنات الازدواج
والتوازن، ففي قوله تعالى في سورة العاديات :
1-
"وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا(1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا(2)
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا(3)
2-فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا(4) فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعًا(5)
3-إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(6) وَإِنَّهُ
عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ(7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ(8)
4-أَفَلَا يَعْلَمُ : /إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي
الْقُبُورِ(9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ(10)
5-إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ(11)
" .
نرى
أن المجموعة الأولى فيها تناغم الازدواج وجماله، فضلا عن السجع بالحاء
المنتهية بتنوين النصب، أو بالوقف على المد بالألف والسكون، ولكلٍ نغماته،
ولاسيما أن النغمة انتهت بـوزن ( فاعلاتن أو فعلاتن ) .
وفي
المجموعات الثانية والثالثة والرابعة نرى التوازن فضلا عن السجع ، ولكل منهما
جرسه العذب، وقد حقق جرسا عاليا، وإيقاعا حلوا، والإيقاع يتحقق بالتساوي في
التوازن والازدواج .
ومن
جماليات التوازن أيضا قوله تعالى في سورة البروج : " قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6) " .
ثلاث آيات متوازنات ولاسيما الآيتين (5 و6) فهما على وزن واحد هو (فعْلن فعولن
فعول) وإذا أضفنا إلى الآيات جمال السجع أدركنا جمال النغم القرآني في هذه السورة
.
وفي قوله تعالى في سورة الصافات : " وَآَتَيْنَاهُمَا
الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
(118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119( " . نرى
التوازن الصوتي بالحركات والسكنات في معظم الآيات وليس في الكلمة الأخيرة
فحسب،وهذا التساوي أضفى إيقاعا جميلا على الآيات.
ومن تكرار الكلمات رد العجز على الصدر، وهو وجود كلمة
في الفاصلة تشابه ماوجد قبلها، ولهذا
كان له نغم عذب ووقع حسن، ففي قوله تعالى في سورة الأنعام: " وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(10)" . نرى في عجز الآية
كلمة(يستهزئون) مكررة في صدرها بـ( استهزئ)، وهذا ماجعل للآية وقعا عذبا شارك
في ترسيخ معنى السخرية .
وفي السورة نفسها نقرأ : " فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ
يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
" . فتكرار الفعل يصدف بحروفه في عجز الآية وصدرها ووسطها أكسب الآية نغما
عذبا ولاسيما بحرف الصاد فيه .
ومن جماليات رد العجز على الصدر قوله تعالى أيضا في
سورة التوبة: " قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا
إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ
اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا
مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) " . فالفعل تربص
كرر أربع مرات في عجز الآية وصدرها ووسطها وقبيل الآخر أيضا مما جعل له وقعا
قويا كوقع معناه الشديد .
وفي (سورة الأنفال/46) كذلك في قوله تعالى: "
وأطيعوا اللهَ ورسولَه ولا تَنازعوا فتَفْشَلوا وتذهبَ ريحُكم واصْبِروا إن
الله مع الصابرين " . فقد كرر لفظ الصبر بفعل الأمر ثم باسم الفاعل في
الفاصلة .
ومنه في (الإسراء / 21) : " انظُرْ كيف فضَّلْنا
بعضَهم على بعض ولَلْآخرةُ أكبرُ درَجاتٍ وأكبرُ تَفْضيلاً " فقد رد (
تفضيلا ) على ( فضلنا) وفي ذلك التكرار تقوية للنغمة ولمعنى التفضيل معا .
ومن تكرار الكلمات أيضاً تكرار المفعول المطلق، والحال
والتوكيد في( تأكلون ..أكلا ، وتحبون ..حبّاً، دًكَّت.. دَكّاً دكّا ، صَفّاً
صَفّاً ، وتكرار كلمة (يومئذ) قوله تعالى في سورة الفجر: " كَلَّا بَلْ
لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
(18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا(19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ
حُبًّا جَمًّا(20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21) وَجَاءَ
رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) " .
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في سورة نوح : " وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ
وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ
جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا
(9) " . ففي تكرار المفعولين
المطلقين جمال وعذوبة ولا سيما بحرف السين الحلو الجميل .
وفي قوله تعالى في سورة الواقعة : إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6) . فالفعل
ومفعوله المطلق في كل من الآيتين حققا نغما متوائما منسجما ولا سيما بحرفي
الجيم القويين المناسبين للرج ، وكأنهما يقرعان القلب .
والمفعول المطلق هو نوع من الجناس يدعى الجناس الاشتقاقي
وفي الجناس تكرار للحروف كليا أو جزئيا يكسب الآيات ترجيعاً نغمياً()،
ومن الجناس القرآني الذي يحقق عذوبة وترنما قوله تعالى في ( التوبة /109) :
" أَفَمَن أَسّسَ بُنيانَه على تقوى من الله ورضوانٍ خيرٌ أم من أسس
بنيانَه على شَفا جُرُفٍ هارٍ فانْهارَ به في نارِ جهنمَ والله لا يهدي القومَ
الظالمين " .فبين (هار ) و(انهار ) جناس ناقص حقق جمالا صوتيا عذبا، ولا
سيما أنه وجد في جو تسع هاءات لها وقعها النغمي أيضا .
وفي سورة يوسف: " فتولَّى عنهم وقال ياأسفا على
يوسفَ " فالجناس بين (ياأسفا ويوسف ) حقق جرسا خفيفا يناسب الحزن والألم
.
ومنه أيضا قوله تعالى في سورة القصص : " ومَنْ
أضلُّ ممَّنِ اتَّبَعَ هواهُ بغيرِ هُدًى مِنَ اللهِ " فالجناس بين هوى
وهدى أعطة نغما حلوا في الآية .
ومن الجناس اللطيف ما وقع بين إذا الشرطية وإذا
الفجائية في قوله عز من قائل في سورة الأنعام / 44: " فلما نسُوا ما
ذُكِّروا به فتحْنا عليهم أبوابَ كلِّ شيءٍ حتى إذا فَرحُوا بما أُوْتُوا
أخذْناهُم بَغْتَةً فإذا همْ مُبْلِسُون " .
وفي السجع تكرار للحروف أيضا يعطي انسجاما وتواؤما
بين العبارات، من ذلك قوله تعالى في سورة المعارج : " سأل سائل بعذاب
واقع(1) للكافرين ليس له دافع(2) من الله ذي المعارج(3) فحرف الجيم مع ألف
التأسيس المكررين في سجع الآيات أعطى قوة تقرع الفؤاد .
وشبيه ذلك السجع في سورة الزلزلة بـــ (ها المؤنثة)
كقوله تعالى : "إِذَا
زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا
(2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا
(4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) " .فالسجعة بالهاء المؤسسة الموصولة أوحت بنغمة الألم
الممتد كثيراً.
وفي
سورة الأعلى سجع لطيف بالألف في قوله تعالى:" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14) وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى(15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(16)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)" . فنغمة
الألف بمدها وقبلها فتحة فسكون جعل للآيات حلاوة.
حتى
الفواصل الطويلة نرى السجع فيها يضفي على النص القرآني جمالا تفرَّد به ،
كقوله تعالى في سورة الطلاق : " وَكَأَيِّنْ
مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا
حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا(8)فَذَاقَتْ وَبَالَ
أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا(9)أَعَدَّ اللَّهُ
لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًاۖفَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
الَّذِينَ آمَنُواۚقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِۚوَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًاۖقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا(11) .
فالسجع
في (نُكْراً، خُسْراً، ذكْراً، رزْقاً ) لم يكتف بالراء المنتهية بألف تنوين
النصب ، بل حقق بالحركات نغمة ( فعْلنْ ) فزاد جمال السجع بهذه النغمة الجميلة
.
ومن تكرار الحروف قوله تعالى وقد كرر في سورة ق~
التي تبلغ آياتها خمسة وأربعين هذا الحرف وهو من الحروف المجهورة()
سبعا وخمسين مرة مما أعطى نغما قويا يناسب أهوال يوم القيامة فكأنه قرع للقلوب
لتتعظ وتتيقظ من غفوتها .
كما كرر حرف القاف أربعا وعشرين مرة في قوله تعالى
في سورة آل عمران : " لَقَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ
ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(181) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ
إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ
تَأْكُلُهُ النَّارُۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ(183) فَإِنْ
كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ(184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ
عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) " .
وكانت الآيات كلها محبوكة متناغمة فيها وقع قوي كوقع
قول الكفر على قلب المؤمن .
وإذا كان علماء البلاغة ينددون بالتكرار فليس كل تكرار مملّ، وفرق بين هذه الآيات
ذات الأصوات المنسجمة وقول أبي تمام الذي يرويه علماء البلاغة شاهدا للتكرار
المنفر وهو :
وقبرُ حَرْبٍ بمكانٍ قَــفْــــــرِ وليس قربَ قَــبْــرِ حَرْبٍ قَـــبْــر()
ولنقرأ قوله تعالى وقد كرر السين سبع مرات هذه
الآيات من سورة غافر : " أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ
وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ
وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي
الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ
(72) " . وهذا التكرار ولد جرسا ناغما في الآيات كان له
أثره في العاطفة،
بل إن حرف السين ورد في سورة الحجر أيضا إحدى وستين مرة
، وورد معه حروف مهموسة()
تشابهه في الصوت والجرس الموسيقي وهي : الصاد وقد ردت ثمانية عشرة مرة، والزاي
جاءت ست عشرة مرة، والذال كانت في اثنتي عشرة مرة، والظاء وردت سبع مرات،
وبذلك تحقق الانسجام الصوتي في أجلى معانيه في الآيات .
وكذلك تجمع حرف السين مع مايشابهه في جرسه الموسيقي مع الذال
والثاء والزاي والصاد والظاء في آيات الأعراف في قوله تعالى : " فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ
(162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ
إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ
نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ
لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ
السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ
دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (168) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ
حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ
حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا
تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ
قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ
مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ
ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا
عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا
مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) " .
وقد ورد حرف السين ست عشرة مرة في هذه الآيات السبع
القليلات، وجاءت الذال سبع عشرة مرة ، والظاء خمس مرات .
ولا ننسى سورة ص التي كثر فيها ورود هذا الحرف الصوتي
أيضا إذ بلغ سبعا وعشرين مرة في ثمان وثمانين آية فحسب .
وفي سورة ن~ كرر هذا الحرف أربعا وعشرين ومئة مرة في
اثنتين وخمسين آية مما حقق لها نغما عذبا لما في هذا الحرف من غنة حلوة .
وكذلك كرر النون في قوله تعالى في سورة التوبة :
"وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا
وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰۖ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(107) لَا تَقُمْ
فِيهِ أَبَدًاۚلَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ
أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِۚفِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُواۚوَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ
تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي
بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) " . وقد كرر
صوت النون ثمانية وأربعين مرة مما أضفى على الآيات نغما فيه عذوبة وحلاوة ، وكأن
التنوين نقرات إضافية أكسبت الآيات دندنة لفظية متناسقة، وترنما جميلا، وصدى
جمالياً يوحي بالسرور والسعادة، والكلام إذا انسجم بعضه مع بعض جرى على اللسان
سهلاً رهواً ولذ سمعه وقرب فهمه وعذب
النطق به .
وقد قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم على المشركين الذين
جاؤوه مفاوضين من أوائل سورة فصلت التي كثر فيها حرف النون بنغمته العذبة :
" حم (1) تَنْزِيلٌ
مِنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيرًا
وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(4)وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا
إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ
فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا
إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُۗ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)الَّذِينَ لَا
يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(8)".وكان في النص واحد وخمسون صوتا للنون حرفا أو
تنوينا، وهذا ما سحر القلوب فقالوا عن القرآن الكريم إن له لحلاوة، وإن عليه
لطلاوة ثم قالوا إنه سحر...
وإذا كان
حرف الشين من الحروف الخشنة، فإنه في القرآن الكريم بدا غير ذلك لما فيه من
جمال وحلاوة ، كما في قوله تعالى في سورة الأنعام : " قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ
شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا ۖ فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ
مَعَهُمْ ۚ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(150) " . وكان جماله بسبب انسجامه واتساقه مع
ماحوله في السياق .
وهذا الانسجام الصوتي في آيات القرآن الكريم له أثره
العاطفي والمعنوي ، ويقول لاسل آبر كرمبي إن الانسجام الصوتي أكبر عامل يشير
إلى العاطفة أو الشعور، ويعرف بالتتابع أو بتوالي كلمات إذ يولد تموجات صوتية
تشير إلى العاطفة()
.
وهكذا نرى جمال الإبداع القرآني بحروفه الجهرية
والهامسة والناغمة لما فيها من جرس عذب وإيقاع لطيف، ويقول د. إبراهيم أنيس
" الإيقاع أبو الوزن وهو ينجم عن اختيار الحروف()
" .
والتكرار يطيل الزمن ولا سيما بالمدود، وحروف المد
تفسح المجال لتنوع النغمة الموسيقية للكلمة لسعة إمكاناتها الصوتية ومرونتها،
ولها إيحاؤها الخاص الذي يهيئ لقبول المعنى ويوجه إليه، لأن هناك توافقا بين
جرس الكلمات ونغمة المفردات من جهة، والأحداث المصورة لها المعبرة عنها من جهة
أخرى، وما أشد إيحاء قوله تعالى في سورة المعارج " كلا إنها لظًى(15)
نزَّاعَةً للشَّوى(16) تدعو مَن أدبر وتولّى(17) وجمع فأوعى(18)"()
.
ولحروف المد في القرآن الكريم جمالها العذب، ففي سورة الإسراء نقرأ : " مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا
(18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا
(20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ
أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) " .
وإذا وقفنا على ساكن يصير مجموع حروف المد التي وردت في
هذه الآيات (ثلاثين ) ألــِـــفاً ممدودة لفظا وكتابة، مما أدى إلى انفساح
في الصوت والمعنى، وانفساح الزمن يبدو واضحا في المدود لما فيها من طول وتتابع
.
وتكرار أل التعريف يؤدي إلى نغم أيضاً إن تواصل كما
في قوله تعالى في سورة التوبة : " التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ
السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) " . فقد كررت أل التعريف تسع
مرات، وكان لتواليها على وتيرة واحدة إيقاع جميل وتناغم عذب .
وقد يعدل
المولى تعالى عن كلمة إلى أخرى للمجانسة الصوتية، ففي قوله تعالى في سورة ص~ :
" وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ
تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ
دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ
بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا
تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) ". ففي ( ففزع) تصوير للحالة النفسية التي كان
عليها حينما دخلوا عليه، ولكن الله سبحانه لم يقل قالوا فلا تفزع كما هو متوقع
، وإنما قال لاتخف لأنها أنسب صوتا، وفي لاتفزع نشوز في النغم .
خامساً :جمال
التنغيم الصوتي في القرآن الكريم :
التنغيم
هو إعطــــاء الكلام نـــغمات معينة تنتــــج من اختلاف درجة الصوت التي تتحدد
وفق عدد الذبذبــات التي يولـــــدها الوتــَــران
الصوتيان().
أو هو رفــع الصـــوت وخفضـــــه في الكلام للدلالــــــة على
المعاني
المختلفـــة للجملــة، أو للتعبـيـــــــر عن الحالــــــــة النفسيـة وعن
المشـــــــاعر والانفعـــالات في حــالات الرضى والغضــــــــب، والدهشــــــــــة
والتعجــــــب و... أو هو توالي درجــــات
صوتية مختلفة أثناء النطــــــــق، ويكون
على مستوى الجملة أو العبارة، أما النغمة فتكون على مستوى الكلمة()
.
واللغة العربية لغة تنغيميــــة
لأن التنغيــــــم فيها له دلالتـه ووظيفته النحوية والمعنوية، فهو ينبه
الأذهان إلى المراد، ويشد القارئ والسامع إليه كما في الاستفهام والتعجب، إذ
يقوم بدور علامات الترقيم فيهما .
ويكون التنغيم بالاستفهام بإظهار
نغمة الاستفهام ولو حذفت أداته، والتنغيم بالتعجب يكون بتغيير ذبذبات الصوت
ليشعر السامع بالتعجب من قضية ما، وكذلك الحال في نغمة النفي والتقرير والنداء
والأمر .
وفي القرآن الكريم يطالب المرتل
بمراعاة أغراض الكلام الذي في ضوئه تتفاوت نبرات الصوت ارتفاعا وانخفاضا
وتغييرا في سياق الكلام، والطبيعة الإنسانية تألف الكلام الذي فيه تنوع
وتغيير، والخروج بالجملة عن قالبها النغمي كالخروج بها عن قواعد النحو لأن
تغير النبر أو التنغيم ليناسب أغراض الكلام هو الرسالة التي توصل المعنى إلى
السامع .
ففي قوله تعالى في سورة الأعراف :
" وجاءَ السَّحرةُ فرعونَ قالوا إنَّ لنا لَأَجْراً إنْ كنَّا نحنُ
الغالِبينَ(113) قال نعمْ وإنكمْ لَمِنَ المُقَرَّبِيْنَ (114)" نرى في قولهم
( إن لنا لأجرا؟) فيه سؤال لفرعون حذفت أداته والتنغيم يظهره، وفي جوابه تقرير
للأجر، ويجب على القارئ أن يظهر نغمته، ولما استنكر فرعون إيمان السحرة قال في
الآية (123) " آمنتم به قبل أن آذن لكم " أي أآمنتم به قبل ... وعلى القارئ أن يظهر هذا التنغيم
أيضا وإن حذفت أداة الاستفهام لأنه يؤثر على المعنى كما يؤثر على الصوت .
وفي قول المولى تعالى لإبراهيم
عليه السلام الذي ورد في سورة البقرة : " قالَ إني جاعِلُكَ للناسِ إماماً، قال ومن ذرّيّتي ؟ قالَ
لاينالُ عهديْ الظالمينَ(124) " نرى أن سيدنا إبراهيم عليه السلام سأل
ربه:( ومن ذريتي؟ ) وعلى القارئ الفطن أن يظهر هذا التنغيم ليشير إلى المعنى
فيظهر الحالة النفسية لهذا النبي الكريم .
وفي
قوله عز وجل عن شعيب وقومه في سورة هود : " قالوا ياشعيبُ أصلاتُكَ
تأْمُرُكَ أنْ نتركَ ما يعبُدُ
آباؤنا أو أنْ نفعلَ في أموالِنا مانشاءُ إنك لأنتَ الحليمُ الرشيدُ (87) نرى
القوم يسخرون عن طريق الاستفهام في " إنك لأَنْتَ الحليم الرشيد " وإن
حذفت أداته، ولا يخفى ذلك على القارئ، وهذا التنغيم تمنح تموجاته النغمية
دلالات نفسية لاتعبر عنها اللغة الهجائية .
وفي
سورة غافر نقرأ قوله تعالى : " وياقومِ مالي أدعُوكمْ إلى النَّجاةِ
وتَدْعُونَني إلى النارِ(41) تَدعونني لأكفرَ باللهِ وأُشركَ به ما ليس لي بهِ
علمٌ وأنا أدعُوكمْ إلى العزيزِ الغفَّارِ(42)" أي (أتدعونني لأكفر بالله
وأشرك به) على سبيل الاستفهام، والعطف دل عليه، وأما في ( وأنا أدعوكم إلى
العزيز الغفار ) ففيه تعجب من دعوتهم، وعلى القارئ أن يتفهم هذين ويبدي نبرة
كل منهما .
وفي
سورة الكهف: " واصبِرْ نفسكَ مع الذين يدعونَ ربَّهم بالغَداةِ
والعَشِيِّ يريدون وجهَه ولا تعْد عيناكَ عنهم تريدُ زينةَ الحياةِ الدنيا ولا
تُطعْ من أغفلْنا قلبَه عن ذِكْرِنا واتَّبعَ هواه وكان أمرُه فُرُطا
(28)" فقوله تعالى( تريد زينة الحياة الدنيا) تعني: أتريد زينة الحياة
الدنيا؟ والكلام، وإن كان في ظاهره موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يراد
به المؤمنون لئلا يتخلوا عن الدعوة إلى ربهم.
وبهذا
تكون النغمة هي الحكم على المعنى إن كان استفهاما أو غيره .
ولننظر
إلى جمال التنغيم في الاستفهامين في قوله تعالى في سورة الزمر/19 : "
أفمن حق عليه كلمة العذاب؟ أفأنت تنقذ من في النار؟ لكن الذين اتقوا ربهم لهم
غرف مبنية تجري من تحتها النهار وعد الله لايخلف الله الميعاد " .
وهذه
استفهامات متواليات لها جمالها وجرسها العذب بتنغيمها حين نقرؤها في قوله
تعالى في سورة الصافات :
"
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) ؟
أَمْ
خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ (150) ؟
أَلا
إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ (152)
أَصْطَفَى
الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ؟
ما
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) ؟
أَفَلا
تَذَكَّرُونَ (155) ؟
أَمْ
لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ (157) .
وهذا
تنغيم التعجب في قوله تعالى في سورة آل عمران/99 : " قلْ يا أهلَ الكتابِ
لمَ تصدّون عن سبيلِ اللهِ تبغونها عوجاً وأنتم شهداءُ وما اللهُ بغافلٍ عما
تعملون " .
وهذه
نغمة هادئة يطمئن بها المولى تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في سورة
الفرقان، حين كذبه قومه وقالوا : " إنْ هذا إلا إفْكٌ افْتراهُ وأعانَه
عليه قومٌ آخرونَ وقالوا أساطيرُ الأوَّلينَ اكْتَتَبَها فهي تُمْلَى عليه
بُكْرَةً وأصِيْلا" ( الآيتان4-5)، ثم طلبوا أن ينزل عليه ملَك، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة، فرد الله
سبحانه وتعالى عليهم قائلا في ( الآية10) " تباركَ الذي إنْ شاءَ جَعلَ
لك خيراً من ذلك جناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ ويجعلْ لكَ قصوراً " ثم
بدأت النبرة تعلو شيئا فشيئاً حتى بلغت أقصاها مع اجتماع الكلمات القوية في
الجملة، ومع التنوين المطلق بالألف المردوفة بالواو والياء وذلك في الآيات :
" بلْ كذَّبُوا بالساعةِ وأَعْتَدْنا لمَنْ كذَّبَ بالساعةِ
سعِيراً(11) إذا رأتْهُمْ من مكانٍ بعيدٍ سمعُوا لها تَغَيُّظاً وزفِيْراً(12)
وإذا أُلْقُوا منها مكاناً ضيِّقاً مُقَرَّنيْنَ دعَوْا هنالك ثُبُوراً(13)
لاتَدْعُوا اليومَ ثُبُوراً واحداً وادْعُوا ثُبُوراً كثيراً(14) قلْ أَذلكَ
خيرٌ أم جنةُ الخُلدِ التي وُعِد المتقونَ كانتْ لهم جزاءً ومَصيراً(15) "
فالنبرة علت مع التكذيب حتى بلغت مرتبة التغيظ والزفير مع الحسرات والضيق
والثبور وكان التكرار يزيد في هول الموقف ليدل على شناعة الفعل
ونغمة
النفي ثم التقرير تميز بين قولين قد يتوهم أنهما قول واحد، وذلك في قوله عز
وجل في سورة يونس(64) : " ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع
العليم "فتغير النغمة من النفي إلى التقرير قبل ( إن العزة لله جميعا)
تميز بين هذا القول وما سبقه من نفي .
وتغير النغمة من الاستفهام إلى النفي يحدث
تنغيما لطيفا في قوله تعالى في السورة نفسها (78) : قالوا أجئتَنا لتلفِتَنا
عما وجدنا عليه آباءَنا وتكون لكما الكبرياءُ في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين
" . فالاستفهام انتهى بكلمة الأرض، ثم بدأ النفي للدلالة على الإصرار على
الكفر، وتغير الصوت هو الذي يفصل بين ماهو عطف وما هو استئناف بالنفي، ولا بد
قبيل تغيير الصوت من وقفة زمنية تحدث نغما لطيفا .
وفي
سورة يوسف : " فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا
الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ
وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ
قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا
لَخَاطِئِينَ(91)قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92( . نرى أن نغمة الحزن بعد النداء تطغى
على الآية(88) في مستهل قولهم (يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضر وجئنا
ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدَّق علينا ... )وكيف لا نرى انكسار النفس ممن
يطلب الصدقة بعدما مسَّه وأهله الضر ؟ ثم يأتي تنغيم الاستفهام ممزوجاً
بالعتاب من شخص عزيز تُطلَب منه الصدقة، ثم تنغيم الاستفهام التقريري في( أإنك
لأنت يوسف ؟) ثم عند التقرير مع القسم في قول الإخوة (تالله لقد آثرك الله
علينا وإن كنا لخاطئين) ، ثم تنغيم التقرير وفيه مسحة من العزة والإيمان في (أنا
يوسف وهذا أخي قد منَّ الله علينا..) (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) .
وفي
السورة نفسها/29 نرى تنغيم النداء في قوله تعالى " يوسف أعرض عن هذا واستغفري
لذنبك إنك كنت من الخاطئين " والنداء الأول ليوسف عليه السلام والتقدير
يا يوسف، والثاني لامرأة العزيز ، وفي الآية / 84 من هذه السورة نرى تنغيم
التوجع والتحسر على يوسف يصدره والده الذي فجع به وذلك في قوله تعالى عنه :
" يا أسفا على يوسف " .
وقد
يكون انخفاض الصوت له دلالته المعنوية وذلك حينما يحكي القرآن الكريم عقيدة
الكفرة إذ يجب أن نخفض الصوت تأدبا مع الله سبحانه، وإشعارا باستنكار هذه
العقيدة، كما في قوله تعالى يحكي
أقوال اليهود والنصارى: " وقالوا اتخذ اللهُ ولدا" ( البقرة / 116 )
و "وقالت اليهودُ يدُ الله مغلولةٌ " ( المائدة / 56 ) ثم يرفع
الصوت في الآية نفسها مع ( غُلَّتْ أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه
مبسوطتان ينفقُ كيف يشاء ) .
وقد
تكون النغمة تهكمية ساخرة عالية كما في قوله تعالى يسخر من الكفرة الذين سخروا
من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين كما في قوله تعالى" ذُقْ
إنكَ أنتَ العزيزُ الكريم .
هذا
هو السحر الحلال،وكيف لاينحني المرء سجودا لمن أنزل هذا الكلام العظيم معنى
ومبنى؟
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق