يزعمُ بعضُ المفسِّرين، ومَن ذهب مذْهبَهم من
العلماء أنَّ «الحكمة» الواردة في القرآن الكريم هي «سنَّة» النَّبيّ صلى الله
عليه وسلم، ويقصدون بها ما صدَر عنه من «أقوال» منسوبة إليه، بـ«سندٍ» صحيح، كما
في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ النِّساء 113، وغيرها، فيقولون: «إنَّ الكتاب هو
القرآن، والحكمة: هي سنَّته الشَّريفة المنزلة عليه، والموحاة له».
ونجزمُ أنَّ من سلكَ في تأويلها هذا المسلك إمَّا
مقلِّدٌ أعمى، وإمَّا «محرِّفٌ» لها، ونجزمُ أنَّ «الحكمة» هي «موحاة» من دون شكٍّ.
لكن ما هي الحكمة؟ وهل بيَّنها جلَّ وعلا في كتابه
العزيز؟ أم تركها لأهل التَّأويل و«التَّحريف»، حتَّى أصبحوا يثبتون من «الأحكام»
ما لم ينزِّل به الله سلطانًا، ويلغون ما هو أصل من أصول الدِّين ولازمًا من لوازمِه؟
لقد وردتِ «الحكمة» في القرآن الكريم في مواضع
عدَّة، ولم تختصَّ بالنَّبيّ محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولم تردْ منسوبة إليه دون
غيره؛ بل نجدها منسوبة إلى عيسى عليه السَّلام في قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ﴾ آل عمران: 84، وفي قوله
أيضًا: ﴿إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ﴾،
المائدة: 110، وإلى آل إبراهيم عليه السَّلام في قوله تعالى: ﴿قَدْ آتَيْنَا آلَ
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ النِّساء: 54، وإلى داود عليه السَّلام في
قوله تعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ ﴾ البقرة: 251، وإلى لقمان عليه السَّلام في قوله تعالى: (لَقَدْ
آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ لقمان: 12، وإلى نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه
وسلم كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ﴾ الجمعة: 2.
ولا يقبلُ عقلٌ يتدبَّر كتاب الله عزَّ وجلَّ أن
يتجاهل «الحكمة» المنسوبة إلى من سبق النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلها
محصورةً به، ويخصُّها بـ«سنَّته» صلى الله عليه وسلم.
إنَّ «الحكمة» «الموحاة» إليهم جميعًا هي أحكامٌ
وأوامر جليَّةٌ واضحةٌ وضوح الشَّمس، وهي أركان التَّعامل البشريّ منذ أن خلقهم
إلى قيام «السَّاعة»، لذلك لم تختصَّ بنبيٍّ دون غيره، إذ هي صالحة لكلِّ زمان
ومكان، وهي «الصِّراط المستقيم» الذي إن طبَّقناه استقامتْ حياتُنا، وصلحت
أحوالُنا، ووقَّر بعضُنا بعضًا، سواء أكان على المستوى الخاصّ أم على المستوى
العامّ، وهذه الأركان والأحكام هي:
1-عدم الشِّرك بالله في قوله تعالى: ﴿لَّا تَجْعَلْ
مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا﴾ الإسراء: 22.
2-الإحسان إلى الوالدين في قوله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ
رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
الإسراء 23
3-إيتاء الحقّ لذي القربى والمسكين وابن السَّبيل
في قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾
الإسراء: 26.
4-الاقتصاد في الإنفاق في قوله تعالى: ﴿وَلَا
تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾
الإسراء: 29.
5-عدم قتل الأولاد خشية الفقر في قوله تعالى: ﴿وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ الإسراء: 31.
6-عدم قتل النَّفس البشريَّة إلا بالحقّ في قوله
تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾
الإسراء: 33.
7-عدم أكل مال اليتيم في قوله تعالى: ﴿وَلَا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الإسراء: 34.
8-الوفاء بالعهد في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ الإسراء: 34.
9-إيفاء الكيل، والقسط في الميزان في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ الإسراء: 35.
10-عدم الوقوف عمَّا لا نعلم في قوله تعالى: ﴿وَلَا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ الإسراء: 36.
11-عدم التكبُّر في الأرض في قوله تعالى: ﴿وَلَا
تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ الإسراء: 37.
وبعد أن أمرنا الله بكلِّ هذا، جاءت الآية التي
بعدها لتؤكِّد أنَّ هذه الأوامر هي بعض «الحكمة» التي أنزلها الله إلى نبيِّنا
محمَّد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ
مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي
جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا﴾ الإسراء: 39.
وقد وردتْ متفرِّقة في كثير من آيات الذّكر الحكيم
منسوبة إلى غيره من الأنبياء صلوات ربيّ وسلامه عليهم أجمعين، وقد نبَّه «الطَّبريُّ»
رحمه الله تعالى إلى أنَّ «الحكمة» هي «ما كان في الكتاب مجملاً ذكره، من حلاله
وحرامه، وأمره ونهيه، وأحكامه، ووعده ووعيده».
فهل يريدنا من أضلَّهم الله على علمٍ أن نترك «أحسن
الحديث»، وأركانه، وأحكامه التي هي «حكمته» البالغة فيما يسعدُ النَّاس في «دنياهم»
إلى أقوالٍ ابتدعوها، ومعانٍ أقحموها، وأفهام «حرَّفوها»؟! أو نطبِّقُها لنكون
ممَّن يُؤتى ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ البقرة:
269 ؟!
د. محمد عناد سليمان
16 / 5 / 2016م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق