شغلتْ مسألة «الزَّواج» من الفتاة التي لم تبلغْ حيِّزًا كبيرًا من تفكير «الخاصَّة» قبل «العامَّة»، وإن كان كثيرون يحسبونَها من المسائل المتَّفق عليها، وأنَّها ثابتة، لا
تشوبها شائبة، وهي كذلك في ظاهرها، أي: مسألة متفقٌ عليها من حيث جواز الزَّواج
ممَن لم تبلغْ، وإن كانت طفلة لم تبلغ «الحيض»؛ بل ذهب بعضهم إلى جوازه وإن كانت في «المهد».
ونحاول في هذا المقال الموجز أن نبيِّن الرَّأي الرَّاجح فيها، وتفنيد
الأدلَّة التي استندَ إليها المجيزون في مذهبهم، «كتابًا»، و«سُنَّة» بزعمهم،
وبيان تحريفهم للَّفظ حينًا، وتحميلهم للَّفظ معنى لا يحتمله حينًا ثانية، ولعلَّ
قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ
وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾ الطَّلاق: 4، من أشهر أدلِّتهم في «القرآن»؛
بل يكاد يكون الوحيد فيه.
ذهب معظمُ المفسِّرين كـ«الطَّبريّ»([1])، و«البغويّ»([2])، و«القرطبيّ»([3]) وغيرهم إلى أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي
لَمْ يَحِضْنَ﴾: الفتيات الصَّغيرات اللواتي لم يحضن، وأرادوا منه لم يبلغن، كما
يقول «الطَّبريّ»: «لَمْ يَبْلُغْنَ الْمَحِيضَ، وَقَدْ مُسِسْنَ، عِدَّتُهُنَّ
ثَلَاثَةٌ»([4]). وإن كان هذا القول منقولاً عن «الضَّحَّاك»،
إلا أنَّه نقل قبله عن «السُّدِّي» ما يُظهر أنَّه خاصٌّ بـ«الجواري»([5]).
واستظهر بعضُهم كـ«الهواريّ»([6]) - في تفسيره الذي غيِّبتْه يدُ «السِّياسة»
و«الخلاف الطَّائفيّ» لعقود من الزَّمن - و«أبي حيَّان»([7])، وذكره «الألوسيّ»([8]) شمولَه «الكبيرات» اللواتي لم يحضن البتَّة،
فقال «أبو حيَّان»: «يشمل من لم يحض لصغر، ومن لا يكون
لها حيض البتَّة، وهو موجود في النِّساء، وهو أنَّها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض،
ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض»([9]).
وقد نصَّ «البخاريّ» رحمه
الله على ذلك صراحة في «صحيحه»، وبوَّب له تحت عنوان: «بَاب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ
وَلَدَهُ الصِّغَارَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾
فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ»([10]). ثمَّ أورد الخبر التَّالي: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ
وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا».
وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله.
ولا نعلمُ من أين جاؤوا بمعنى «لم تبلغ» ليقحموه في هذه الآية؟ وما هو
السَّبب الذي دفع «البخاريّ» رحمه الله ليجعله عنوانًا لبابِه، علمًا أنَّ بعضَ
شرَّاح «صحيحه» كـ«ابن حجر» نصُّوا على أنَّه «ليس في الآية تخصيص ذلك»([11]»؛ وذهب إلى أنَّ ما أورده «البخاري» مقصور على «عائشة» رضي الله عنها،
وأنَّ ما عداه باقٍ على أصله وهو «المنع»، فقال: «وقد
ورد حديث عائشة في تزويج أبي بكر لها وهي دون البلوغ فبقي ما عداه على الأصل ولهذا
السَّر أورد حديث عائشة»([12]).
قلتُ : انظر رعاكَ الله كيف جعلَ «ابن حجر» إيرادَ «البخاريّ» لخبر زواج «عائشة»
رضي الله عنها سرًّا دالًّا على «المنع»، بينما ذهب آخرون من بعض «شرَّاحه» إلى
جعله سرَّا دالًّا على «الجواز»([13])، وشتَّان الأوَّل والثَّاني، فليتنبَّهِ
الدَّارسون، وليدركِه المحقِّقون.
وقد منعه «الطَّحاوي»([14])، و«ابن شبرمة»([15])، ووصفوه بـ«الشُّذوذ»([16]) لمخالفته «الكتاب» و«السُّنة» بزعمهم، ولا تثريب
على مَن ذهب مذهب «ابن شبرمة»، فكيف إذا كان هو الرَّاجح، والموافق لكتاب الله
جلَّ وعلا؟!
وأرى أنَّ قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾، لا يحتمل المعنى الذي
ذهبوا إليه، ولا يصحُّ الاستدلال به؛ لأنَّه يأباه من حيث «السِّياق»، وبيان «الحال»؛
لأنَّ المراد منه «المرأة» التي بلغت
سنَّ «الحيض»، على اختلافه، ولم يأتِها «الحيض»، وكبرت ونشأت وبقيت عليه، وهي التي
تُسمَّى في
العربية «الضَّهياء»، وبهذا
التَّفسير والفهم يكون «القرآن» الكريم قد اشتمل على جميع
أنواع «العدَّة» التي تلزمُ «المرأة» في حياتها بحالاتِها الأربعة وهي:
أولاً: الطَّلاق.
ثانيًا: وفاة الزَّوج.
ثالثًا: اليأس من «الحيض» بعد حدوثه.
رابعًا: «الضَّيهاء» التي بلغت وماتت، ولم يأتها «الحيض».
ونظير ذلك ذهابهم إلى أنّ المراد بـ«الفاحشة» في قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً
مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾النساء15: «الزِّنا»،
وهو وهْم، لا دليل فيها عليه؛ يردُّه «السِّياق» و«الحال»، والمراد «السُّحاق»،
المقابل لـ«للواط» الذي ورد في قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ
فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ
تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ النساء16، وبذلك يكون «القرآن الكريم» قد اشتمل على جميع
أنواع العلاقة «الجنسيَّة» البشريَّة الثَّلاثة وهي:
أولا: الرَّجل مع المرأة.
ثانيًا: الرَّجل مع الرَّجل.
ثالثًا: المرأة مع المرأة.
وثمَّة نكتتان في قول تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن
نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي
لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾ الطَّلاق: 4، لم أجدْ
من سبقني إليهما فيما بين يديَّ من المصادر، وهما:
الأولى: التَّعبير بـ«اللائي»
للدَّلالة على «الضَّهياء» في قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾، ، ولم يستخدم
«اللاتي» كما في صدر الآية؛ لأنَّ الأخيرة تُستخدم إذا كان المفرد مؤنَّثًا، أمَّا
«اللائي» فتُطلق على الجماعة التي واحدُها «مذكَّر»، فلمَّا انقطع «الحيض» عن «المرأة»
في حالتيها: بعد بلوغها سنَّ «اليأس»، وانعدامه عند «الضَّهياء» صارت أقرب إلى صفة
«الذُّكورة»، فحسنُ استخدامها لتناسب «السِّياق»، و«الحال» والله أعلم.
الثَّانية: التَّعبير عن الحالة الثَّالثة وهي «الضَّهياء»
بلفظ «لم يحضن»، بينما في الثِّنتين الأُخريَيْن «المحيض»، وهو «اسم مكان»، فناسب «المكان»
«السِّياق» لدلالته على حدوثِه، ومعرفته عندهنَّ، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ
أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء
فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ البقرة: 222. فجاء بـ«اسم
المكان»، بخلاف «الضَّهياء» التي لم يسبق لها أن عرضَ لها «حيضٌ» أو درتْ به حالاً
واقعة، والله أعلم.
بل أظنُّ
ظنًّا يُزاحم اليقين أنَّ الآيات السَّابقة، وأمثالها خيرُ دليل على «منع»
الزَّواج ممَّن لم «تبلغ»، ولم يأتِها «الحيض»، وليس دليلاً على «جوازه» كما
زعموا؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ جعل «العدَّة» حدًّا فاصلاً لتبيين حالات «الطَّلاق»،
وهي شرطٌ من شروطه، فلا يُعرف إلا بها، ولا تُعلمُ «العدَّة» إلا بـ«الحيض» كما
نصَّ تعالى في غير موضع من «القرآن الكريم»، فلمَّا كان «الحيضُ» شرطًا للدَّلالة
على «العدَّة»، ولا تتميَّز إلا به، عُلمَ أنَّها من لوازمه ابتداء عند «الزَّواج»، وانتهاء عند «الطَّلاق».
أمَّا خبر
زواج «عائشة» رضي الله عنها الذي أورده «البخاريّ» وغيره، فلو سلَّمنا لهم
بصحَّته، وتجاوزنا الرَّأي الذي جعله من خصوصيَّات النَّبي صلى الله عليه وسلم -مع
ما في الخصوصيَّة من إساءة إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم- فلا دليل فيه على أنَّ
عائشة رضي الله عنها لم «تبلغ»، أو لم يأتِها «الحيض»، فسقط بذلك الاحتجاج به،
والله أعلم.
د. محمد عناد سليمان
6
/ 3 / 2016م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق