استغل زيادة الله حالة الفوضى التي
آلت إليها صقلية، واستجاب لفيمي وأغاثه، وأمر بتوجه الأسطول الذي سبق وأعده إلى
البحر وجهزه بعدة عظيمة وملأه بالجنود، وندب لقيادته قاضي القضاة أسد بن الفرات..
فجمع له بذلك بين إمارة الجيش وإمارة القضاء سنة (212هـ/827م)، وخرج مع أسد أشراف
إفريقية من العرب والبربر والأندلسيين وأكابر أهل العلم والبصائر، فطرق حصون
الجزيرة وحاصرها براً وبحراً، وتصدت له جموع الروم فنكّل بهم وأغرق مراكبهم، ثم حط
على مدينة (مازرة) وكانت من أهم مدن
الجزيرة، ومن ثم استولى على عدد كبير من الحصون والقلاع، إلى أن تمكن من
فتح قلعة (الكراث)، ثم توجه إلى (بلرم) عاصمة صقلية، وفي حصاره لها أصيب أسد بن
الفرات بجراحات خطيرة كانت سبباً بفوزه بالشهادة وذلك في ربيع الآخر من سنة
(213هـ/828م). وتمكن المسلمون في النهاية من تحقيق الانتصار، وزف خبر هذا الانتصار
إلى الأمير زيادة الله. وتوالت بعد ذلك الوقائع البرية والبحرية داخل جزيرة صقلية
وعلى سواحلها حتى امتلكوا معظمها. واتسعت بذلك رقعة الأرض التي يصدح في سمائها
النداء الخالد: (الله أكبر .. الله أكبر)، وراحت ترفرف في فضائها رايات التوحيد.
ويتخذ الأمير زيادة الله من مدينة (بلرم) عاصمة للجزيرة المفتوحة. ولم تمض غير مدة
يسيرة حتى غدت هذه المدينة من أزهى عواصم الإسلام تحفل بزهو الحضارة العربية
الإسلامية.
وهكذا نجد أن الأمير زيادة الله -
بما وهبه الله من حكمة وسعة أفق ومهارة سياسية - قد استطاع ترويض مملكته على
الطاعة واستئصال شأفة العصاة والمتمردين، وتحويل نشاط دولته إلى فتح بلاد كثيرة في
جنوب إيطاليا وإزالة حكم البيزنطيين عنها وبسط حمايته عليها، وعلت سمعة إفريقية
بين الممالك القريبة والبعيدة منها، فباتت مرهوبة الجانب في نظر دول أوروبا يطلب
ودها.
وكان كفُّ القدر بانتظار هذا الملك
الهمام الذي لم تنجب مثله إفريقية، فقد نعاه النعاة ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة
خلت من رجب سنة (223هـ/838م) عن إحدى وخمسين سنة بعد أن مكث في الملك إحدى وعشرين
سنة وسبعة أشهر وثمانية أيام.
رحم الله هذا الأمير الذي لم تغره
الدنيا وقد أتته صاغرة، وكان يقول في حياته حين يذكر عمله من غير منة على أحد: لا
أبالي ما قدمت عليه يوم القيامة وفي صحيفتي أربع حسنات: 1- بنياني المسجد الجامع
بالقيروان 2- وقنطرة أبي الربيع 3- ودار الصناعة بمدينة سوسة وسور القيروان 4-
وتولية أحمد بن أبي محرز قضاء إفريقية.
لقد شق زيادة الله طرق المواصلات،
ونشر الصناعات، وعزّز قوة الدفاع، وبنى الأوابد، وأقام قسطاس العدل بين الناس،
وأزال الضغائن من قلوب البربر على العرب، وأقام بحق دولة عصرية ذات مدنية زاهية
وحضارة عريقة حتى غدت القيروان بزمانه تنافس بغداد ودمشق وغرناطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق