الكبائر: جمعُ كبيرةٍ وهو تعبير ديني
يشير إلى المعاصي والذُّنوب الكبيرة التي قد تخلد فاعلها في جهنم، ومن خلال اطلاعنا
على تاريخ السياسة وجدنا أن هذا التاريخ قد شهد العديد من الممارسات السياسية التي
سببت للبشرية مآسي كثيرة وكوارث مؤلمة ما يجعلنا نصنف هذه الممارسات بالكبائر التي
لا تقل فظاعة عن الكبائر بميزان الدين !!
ويرجع بعض هذه الكبائر السياسية إلى
عدد من الفلاسفة والمنظرين السياسيين الذين طرحوا نظريات سياسية مهدت ودفعت الساسة
لارتكاب هذه الكبائر، ونذكر من هذه النظريات على سبيل المثال لا الحصر : المكيافيلية،
والنازية ، والفاشية، والماركسية، والعلمانية !!!
وما دمنا نتحدث عن الكبائر السياسية
مستخدمين مصطلحاً دينياً، فمن المناسب أن نذكر أنه ليس من النادر مشاركة رجال الدين
بهذه الكبائر السياسية سواء عندما يكونون هم أصحاب القرار والسلطة السياسية كما كان رجال الكنيسة في أوروبا
في القرون الوسطى، أو من خلال مساندة رجال الدين للسياسيين وتبرير هذه الكبائر وتزيينها
لهم !!
وسوف نعرض هنا جملة من الممارسات التي
شهدها تاريخ السياسة، مما يعد بحق كبائر فظيعة دفعت البشرية فيها ضريبة باهظة من أمنها
وأرواح الملايين من الأبرياء !! علماً أن الكبائر التي سنذكرها هنا ليست هي كل الكبائر
التي شهدها تاريخ السياسة، وإنما هي مجرد عينات، ذلك أن تاريخ السياسة شهد الكثير من
الممارسات اللا أخلاقية أو الكبائر التي يستحيل حصرها في مثل هذه المقالة، لهذا نكتفي
بذكر عينات من الكبائر التي نعتقد أنها الأسوأ من بين الممارسات التي لطخت تاريخ السياسة
وشوهت وجوه السياسيين، وهي :
١- الدكتاتورية: وهي شكل من أشكال
الحكم المطلق تكون فيه السلطات كلها محصورة بشخص الحاكم أو الزعيم، والديكتاتوريات
ليست واحدة وإنما هي درجات بعضها أشد من بعض، فبعض الدكتاتوريات تطبق بخناقها على المجتمع
فتحوله إلى سجن كبير يعاني فيه الناس شتى أنواع الخوف والجوع والرعب والعذاب والتنكيل،
ما جعل بعض المراقبين يطلقون على هذه الحالة المغلقة من الدكتاتورية وصف "الستار
الحديدي" مثل الدكتاتورية التي فرضها الزعماء الشيوعيون على الشعب الروسي إبان
قيام الاتحاد السوفياتي ( ١٩٢٢ - ١٩٩١) وكذلك
دكتاتورية الزعيم النازي الرهيب هتلر في ألمانيا (١٩١٩- ١٩٤٥) والدكتاتور الفاشي المرعب
بينيتو موسوليني في إيطاليا ( ١٩٢٢- ١٩٤٥) ودكتاتورية حزب البعث الذي تسلط على الحكم في كل من سورية والعراق ابتداء من ستينيات القرن
العشري!!!
وللدكتاتورية وجوه سوداء عديدة، نذكر
هنا أبرزها :
قمع الشعب بتسليط أجهزة الأمن عليه
لكي يستكين ويسكت عن كل ما يفعله الدكتاتور من بطش وعسف ومظالم!!
إبقاء الشعب على الجهل والتخلف حتى
لا يفكر أحد بتغيير الحال، ويستمر الدكتاتور في " الكرسي"
تعديل مناهج التربية والتعليم والإعلام
لتشكيل المجتمع بقالب فكري معين يوافق أهواء الدكتاتور ويحقق أغراضه الدنيئة!!!
محاربة منطق العقل، وتخوين كل من يخالف
إيديولوجيا الدكتاتور !
إشغال الشعب بعدو خارجي، كثيراً ما
يكون عدواً وهمياً، لإظهار الدكتاتور بمظهر البطل المدافع عن الوطن، واستغلال وجود
هذا العدو لتبرير المظالم التي يرتكبها الدكتاتور !!
استغلال الدين لتثبيت حكم الدكتاتور،
وتسخير المؤسسة الدينية لتأييده وتبرير مختلف أفعاله، مهما كانت خارجة عن الدين والأخلاق
!!
إبقاء الشعب في فقر وعوز حتى ينشغل
الناس بطلب لقمة العيش بدلاً من معارضة الدكتاتور والعمل على الخلاص منه!
إشغال الناس بالفن الهابط والدعارة
عن الاشتغال بالسياسة
تفكيك المجتمع طائفياً لكي ينشغل الناس
بالخلافات بينهم.
بناء جهاز استخباراتي قوي ونشيط يتجسس
على الناس ويشيع الرعب بينهم .
أما وسائل منع الدكتاتورية فإن من
أنجعها : وجود دستور دقيق للدولة يحترمه الجميع ويطبق على جميع المواطنين دون تمييز،
واستقلال المؤسسات الثلاث الرئيسة في الدولة ( التشريعية ،التنفيذية، القضائية) وإطلاق
حرية التعليم والتعبير.
٢- المكيافيلية : من الكبائر المشهورة
في دنيا السياسة، وهي نزعة تلخصها العبارة الشهيرة ( الغاية تبرر الوسيلة) وهي تعني
أن المهم في السياسة وصول السياسي إلى الغاية التي يريد بغض النظر عن الوسيلة التي
يتبعها سواء كانت أخلاقية أم شيطانية، والمكيافيلية نزعة معروفة منذ القدم في تاريخ
السياسة، إلا أنها تبلورت واشتهرت وانتشرت بين السياسيين بعد ظهور كتاب (الأمير) الذي
كتبه الدبلوماسي الإيطالي نيكولو مكيافيلي( ١٤٦٩-١٥٢٧) وعرض فيه جملة من الطرائق التي
تمكن السياسي من التسلط والمحافظة على حكمه، وتعتمد هذه الطرائق أساساً على المكر والخديعة
والانتهازية والتنكر للأخلاق والأعراف الإنسانية، فلا يتورع السياسي المكيافيلي عن
أي سلوك مهما كان منحطاً مادام يوصله إلى غايته !!
وقد أظهر تاريخ السياسة أن النزعة المكيافيلية منتشرة
بين السياسيين على اختلاف أشكالهم وألوانهم، ذلك أن المناصب السياسية مغرية لما تحققه
من مكاسب مادية ومعنوية عظيمة، ولهذا لا يتورع أكثر السياسيين عن سلوك أحط الممارسات
في سبيل الاحتفاظ بمناصبهم، فلا غرابة أن يشهد تاريخ السياسة آلاف المجازر والكوارث
التي ارتكبها الساسة من أجل البقاء في " الكرسي" ولا غرابة أن يحرص الساسة
على اقتناء كتاب ( الأمير) وتلاوة فصول منه كل ليلة قبل النوم ثم دسّه تحت الوسادة
!
٣- المحسوبية : هي محاباة الأقارب
والمعارف ومنحهم المناصب السياسية الحساسة دون أن يتمتعوا بالمؤهلات اللازمة، والمحسوبية
ظاهرة شائعة في الوسط السياسي، وهي ترجع ابتداء ألى رغبة المسؤول السياسي بتقوية منصبه،
فيعمد إلى تعيين أقاربه أو معارفه أو أفراد من طائفته في مناصب تسانده وتعينه للبقاء
في منصبه إلى أطول مدة ممكنة! ونظراً لأن المحاباة كثيراً ما توصل أشخاصاً غير مناسبين
إلى مناصب حساسة فلا غرابة أن تفضي المحسوبية إلى أخطاء فادحة قد تنتهي بالوطن إلى
كوارث مدمرة !!!
٤- التوريث : ونعني به توارث الحكم
بين الأقرباء، وقد شهد تاريخ السياسة عائلات عديدة انفردت بالحكم لقرون طويلة، وتعد
العائلة الإمبراطورية اليابانية هي أقدم عائلة مازالت تتوارث الحكم بين أفرادها منذ
عام 660 قبل الميلاد وحتى اليوم، ومازالت كذلك على الرغم من تحول الحكم في اليابان
الى حكم دستوري ديمقراطي، وقد انتقلت عدوى توريث الحكم إلى عالمنا العربي في العقود
القليلة الماضية بعد سنوات طويلة من الدكتاتورية المتسلطة التي يبدو أنها شجعت بعض
رؤساء الجمهوريات على محاولة توريث الحكم لأبنائهم، كما فعل الرئيس حسني مبارك في مصر
إذ حاول توريث الدولة لابنه جمال ما أثار عليه حفيظة الجماهير الغاضبة التي خرجت في
ثورة عارمة في شهر يناير ٢٠١١ ، انتهت بإسقاط حسني وخلعه من الرئاسة، وقد كانت النية
مبيتة كذلك عند العديد من بقية الرؤساء العرب لتوريث الحكم لأبنائهم، كما فعل معمر
القذافي في ليبيا، وصدام حسين في العراق، وعلي عبد الله صالح في اليمن، وزين العابدين
علي في تونس، إلا أن هذه المحاولات كلها فشلت، ولم ينجح منها سوى محاولة حافظ الأسد
الذي ورّث الحكم في سوريا لولده بشار بالقوة، غير أن هذه المحاولات المناقضة لطبيعة
الحكم الجمهوري، والمخالفة لكل منطق لم تمر بسلام بل أدت إلى ثورات شعبية عارمة في
سائر هذه البلدان عرفت باسم ( الربيع العربي) الذي عبر عن رفض الأمة العربية محاولات
التوريث، في خطوة اعتبرها المراقبون والخبراء إرهاصات لتاريخ عربي جديد سوف يدخل العالم
العربي عصر التنوير الذي من أبرز معالمه الديمقراطية التي تعيد القرار إلى يد الشعب
بعد عقود مريرة من الدكتاتورية والتسلط !
٥- الاستفتاء : وهو في الأصل وسيلة
عملية لمعرفة رأي الشعب تجاه قضية عامة، مثل الموافقة على دستور جديد للبلاد أو رفضه،
أو تعديله، وهي بلا ريب وسيلة ديمقراطية ناجعة
في إشراك الشعب بالقضايا العامة، إلا أن بعض الأنظمة الدكتاتورية عمدت إلى استخدام
الاستفتاء لتحقيق أهداف غير ذلك، فبدأت تطرح الاستفتاء لتجديد رئاسة الدولة في ظل الدكتاتور
الذي يطرح نفسه للاستفتاء مرشحاً وحيداً لا منافس له، مما لا يدع للشعب مجالاً للخيار،
ولعل أول من استخدم هذه الطريقة في الاستفتاء
على الرئاسة في البلدان العربية هو الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فإذا علمنا
أن مثل هذه الاستفتاءات تجرى عادة في جو غير حر، مرعب، وتحت أنظار أجهزة الأمن، مع
تسخير كل وسائل الإعلام للترويج للدكتاتور
الذي هو المرشح الوحيد ، إذا علمنا ذلك أدركنا حجم الكارثة التي ينطوي عليها الاستفتاء،
ما يجعله من أعظم كبائر السياسة!
٦- التزوير : ونعني به تحديداً الغش
في الانتخابات، والتدخل غير القانوني في عملية الانتخاب من أجل تجيير النتائج لمصلحة
مرشح ما أو سحبها من مرشح ما، وأكثر ما يحصل التزوير خلال عملية فرز الأصوات ، فيزاد
في عدد الأصوات لصالح مرشح معين، على حساب المرشحين المنافسين، وقد يحصل التزوير بوضع
بطاقات انتخاب غير قانونية لصالح مرشح معين لزيادة رصيده من الأصوات، وقد يحصل التزوير
بوضع أصوات لناخبين وهميين قد يكونون من عداد الأموات، ولعل أبشع أشكال التزوير هي
التي يمارسها الإعلام الرسمي أو الإعلام المأجور وذلك بالترويج لمرشح او مرشحين غير
جديرين بالفوز، أو التشهير بمرشحين جديرين بالفوز ! ناهيك عن التزوير الذي يحصل عن
طريق التهديد من قبل السلطات الحاكمة أو أصحاب النفوذ لإجبار الناخبين على التصويت
لصالح مرشح قد يشكل نجاحه كارثة على المجتمع، ما يجعل تزوير الانتخابات من كبائر الممارسات
السياسية !!!
٧- العلمانية : قد يستغرب بعضكم من
إدراج العلمانية ضمن الكبائر السياسية، مع أن العلمانية كانت العامل الأكبر لإخراج
أوروبا من ظلام الجهل والتخلف إلى عصر الأنوار، فقد حررت العلمانية العقل الأوروبي
من كهنوت الكنيسة التي عطلت العقل هناك ونشرت الجهل وحاربت العلم والعلماء، كما هو
معروف من تاريخ العلمانية هناك، فكيف نصنف العلمانية في كبائر السياسة؟!!! والجواب
سوف نفصله لاحقاً بادئين بتعريف العلمانية التي هي بتعريف موجز فصل الحكومة والسلطة السياسية عن السلطة الدينية
أو عن رجال الدين ومنع الحكومة أو الدولة عن إجبار الناس على اعتناق معتقد أو دين معين
تحت أية ذريعة كانت ! فالعلمانية ترى أن الأنشطة البشرية وقرارات الناس -ولاسيما منها
السياسية - لا يجوز أن تخضع لهوى المؤسسات الدينية، لاسيما بعد ما حصل في أوروبا في
القرون الوسطى حين تسلط رجال الكنيسة على المجتمع، وارتكبوا جرائم فادحة جعلت الناس
يتبرمون بالدين ويرفضون تدخل رجاله في الشؤون العامة!
ويرى دعاة العلمانية كذلك أنها ليست
رؤية سياسية جامدة ولا نهائية، وإنما هي رؤية قابلة للتحديث والتكييف والتطوير حسب
ظروف الدول التي تتبناها، ولهذا نجد تطبيقها - لاسيما موقفها من الدين - يختلف حدة
من دولة إلى أخرى في الدول التي تبنت العلمانية، فدولة علمانية كالولايات المتحدة مثلاً
تفتح الباب واسعاً لمختلف الأديان لتمارس شعائرها بكل حرية بينما تتشدد فرنسا في ذلك
فلا تسمح بالممارسات الدينية في العلن، وبما أن فرنسا هي مهد العلمانية وبسبب موقفها
المتشدد تجاه الدين فإن عامة المسلمين وبعض الديانات الأخرى تعد العلمانية نزعة إلحادية!
ونعود إلى ما بدأناه عن أسباب إدراجنا
العلمانية ضمن الكبائر السياسية على الرغم من أنها كانت العامل الأهم في نهضة أوروبا
كما ذكرنا، فنقول : لقد فعلنا هذا لما رأيناه من ممارسات غير أخلاقية ولا إنسانية من
قبل أنظمة سياسية عديدة تصف نفسها بالعلمانية، فهذه الأنظمة لم تكتف بفصل الدين عن
السياسة كما يقول منطرو العلمانية، وأنما أخذت موقفاً متشدداً ضد الدين وأهله، وراحت
بهذه الذريعة تنكل بالمتدينين دونما سبب معتبر، اللهم إلا انتسابهم إلى دين .. أي دين
كان !! ولهذا أساء هؤلاء الساسة المتمسحين بالعلمانية إساءة كبيرة للعلمانية إذ جعلوها
نقيضاً للدين، وحاربوا أهل الدين انطلاقاً من فهمهم هذا، ما جعل أهل الدين يصنفون العلمانية
ضمن كبائر السياسة، وأخذوا يحاربونها ... فتأمل !!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق