لقد شغل الاستبداد السياسي مساحة من
التاريخ البشري أوسع بكثير مما شغلها الاستبداد الديني، إلا أن الاستبداد الديني يظل
هو الأخطر لأنه يتعلق بالعقيدة والإيمان ، ذلك أن المؤمن عندما يتعرض للاستبداد الديني
فإنه في الغالب ينقلب من الإيمان إلى الإلحاد ويكفر بكل الشرائع والأديان، كما فعل
مثلاً استبداد الكنيسة في أوروربا في العصور الوسطى الذي فتح الباب لكل ألوان الكفر
والإلحاد والهرطقة ، وجعل الحضارة الغربية المعاصرة ذات روح إلحادية صريحة ، وربما
كان الفيلسوف سبينوزا (1632 ـ 1677) هو أول من بدأ تشكيل هذه الروح الملحدة حين أعلن
صراحة تأليه الطبيعة وإحلالها محلَّ الرَّب ، ثم جاء الفيلسوف نيتشه (1844 ـ 1900)
فأعلن بكل صفاقة موت الرَّب نفسه ( تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) وتبعهما عرَّاب
الشيوعية الأول كارل ماركس (1818 ـ 1883) فأعلن أن الدين أفيون الشعوب ، ثم جاء فيلسوف
المادية ميشيل فوكو (1926 ـ 1984) ليعلن موت الإنسان ؛ وهكذا اكتملت أركان العلمانية
(Secularism)
في أوروبا من جراء استبداد الكنيسة وتعصبها الأعمى، وعدم اكتراثها بالنتائج، فقد أصبح
التدين علامة من علامات التخلف والرجعية ، ولم تلبث هذه الظاهرة أن انتشرت في بقاع
الأرض حتى صارت معظم قوانين العالم اليوم تقوم على العلمانية ، وترفض رفضاً قاطعاً
تدخُّل الدين في الحياة العامة ، وقد بلغت هذه الدعوات اليوم حداً بعيداً من الغلو
والشطط ، فجردت معظم القوانين من المواد التي لها علاقة بالدين ، ومنعت الرموز والطقوس
الدينية من الظهور في الأماكن العامة ، وأصبح الحديث عن الدين يعرض صاحبه للمحاكمة
والعقوبات الرادعة ،
وهكذا انتقلت الإشكالية من الاستبداد
الديني إلى الاستبداد العلماني ، وهذه هي إحدى تناقضات الفكر البشري الذي يريد حل مشكلاته
بعيداً عن هدي السماء فتكون عاقبته خلق مشكلات جديدة لا تقل سوءاً عن المشكلات التي
أراد حلها ، وصدق الله العظيم الذي يحذرنا من الوقوع في مثل هذه المطبات القاتلة فيقول
تعالى : (( واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَداةِ والعَشيِّ
يُريدونَ وَجْهَهُ . وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُريدُ زينَةَ الحَياةِ الدُّنيا
. وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أمْرُهُ
فُرُطًا )) سورة الكهف 28 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق