والله لأتوضَّأنّ وضوءا كما أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، ولأصليَّن ركعتين أدعو الله إثرَهما أن يجعلني من أهل الفردوس الأعلى
مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أذهبَ إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزمَه يومي هذا فإني أحسُّ أن الدنيا والعمل
لها يكاد يجذبني إليها، هكذا حدَّث أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه – نفسه، فقام
فتوضأ، ثم صلى، ثم انطلق إلى المسجد النبوي يحث الخُطا إليه، ورأى في طريقه بعض
أصحابه فسلّم عليهم، فدعَوه إلى الجلوس بينهم، فاعتذر وجَدّ السير إلى غايته، فلما
وصل رأى بعض أهل الصفّة فسألهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: انطلقَ
الساعة في اتجاه الغرب، يقضي حاجته في غائط بئر أريس.
انطلق أبو موسى إلى ذلك المكان، فرأى عن بعدٍ طيف
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس عند الباب ينتظر رسول الله، فلما انتهى صلى
الله عليه وسلم من قضاء حاجته ، وتوضأ من البئر جلس على حافته ومدّ رجليه إلى
الماء يبترد، فدخل عليه أبو موسى وسلّم عليه بتحية الإسلام قائلاً: السلام عليك يا
رسول الله ورحمة منك وبركاته، صلى عليك وعلى آلك وأصحابه الطيبين الطاهرين، فردَّ
عليه النبي صلى الله عليه وسلم التحية
بأحسن منها وسأله عن حاله ودعا له، فَسُرَّ أبو موسى لهذا الدعاء الطيّب من فم
طاهر طيّب، وأحسَّ أنه نال اليوم خيراً كثيراً، فانصرف إلى باب الحائط وقال:
لأكوننَّ بوّابَ رسول الله اليوم، أمنعُ مَن يقطع خلوته إلا بإذنه، فناداه رسول
الله صلى الله عليه وسلم :
((يا أبا موسى املِك عليّ الباب، فلا يدخلَّن عليّ
أحد إلا إذا أذنتُ له)).
قال أبو موسى: سمعاً وطاعةً يا رسول الله.
فلزمَ البابَ ينظر منه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ويملأ عينيه من طلعته البهية، فجاء
أبو بكر رضي الله عنه فدفع الباب، فقال أبو موسى مستفسراً: من أنت؟
قال الصدِّيق: أنا أبو بكر، (ولعله سأل عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كما سأل أبو موسى
فتبعه كما تبعه هذا؟ أو اتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتقيه في ذلك المكان بعد صلاة العصر فجاء
على ميعاد).
قال أبو موسى: تمهل أيها الصدِّيق حتى أستأذن لك
على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الصدّيق: نعم يا أبا موسى فاستأذن لي عليه.
قال أبو موسى: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقلت له: يا رسول الله، هذا أبو بكر
جاء يستأذن أن تسمح له بالدخول عليك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ائذن له بالدخول،
وبشره بالجنّة))،.. يا الله، مقامُ الصدّيق رضي الله عنه عظيم، يبشّره الرسول
الكريم بالجنّة، ذلك المكان الذي يسعى إليه المسلمون يرجون رضاء الله تعالى وفضله!
.. ومَن أولى بالجنّة ممن شارك الرسولَ الكريم، ودفع عنه أذى المشركين وبذل له
ماله وحياته، وقدّمه على نفسه وآله، صدّقه حين كذّبه الناس، وأجابه إلى الإسلام
مسرعأً دون تلكؤٍ وانتظار، فهنيئاً لك يا أبا بكر- أيها الصديق- هذه البشرى
العظيمة.
قال أبو موسى: فعدت إلى الباب فقلت للصدِّيق ادخل،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك
بالجنّة، فنِعمَتْ هذه البشرى ولنعم دار المتقين.
قال الصدّيق: الحمد لله ربِّ العالمين، وله المنّة
والنعماء لا نحصي ثناءً عليه، اللهم لك الشكر، يا واهب الخير، يا ذا الفضل الكريم.
السلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((وعليك السلام يا
أبا بكر ورحمة الله ومغفرته ورضوانه)).
وجلس الصدّيق عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ومدّ رجليه إلى الماء يفعل ما يفعله الرسول صلى
الله عليه وسلم ، وابتسم كلٌّ إلى صاحبه، يتجاذبان أطراف الحديث، والرَّوح
والريحان يعبق المكان، والمَلَك تملؤه أنساً ونشوةً بسيّد الرسل الكرام وصاحبه
الصدّيق رضوان الله عليه.
قال أبو موسى في نفسه: ليهنِك أيها الصديق مقامُك
من النبي الكريم، ورجع إلى الباب يحرس المكان، فتذكرَّ أخاه عامراً وتمنّى لو جاء
إلى البئر يستأذن على رسول الله فيأذنُ له ويبشره بالجنّة كما بشّر الصدّيق، ويغنم
الخلوَةَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد تأخر عن المجيء فلقد تركته
يتوضأ، وقال: إنه سيلحقني فما الذي به؟! إن يُردِ الله به خيراً يأت به .. هذا
البابُ يتحرك، فلعله أخي عامرٌ قد وصَل، فناديت من أنت.
قال عمر من وراء الباب: أنا عمر بن الخطاب.
قال أبو موسى: فالزم مكانك ريثما أستأذن النبي صلى
الله عليه وسلم .
قال عمر: فافعل ما بدا لك، أنا واقف هنا.
فجاء أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، هذا عمر
بالباب واقفاً يستأذن في الدخول إليك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ائذن له وبشِّره
بالجنة))، يارب، ما أعظم حظ السابقين؟! لهم الجنّةُ، الفردوس الأعلى، وهذا الفاروق
أوّل من يأخذ كتابه بيمينه يوم القيامة، فطوبى له هذا المقام العالي والمكانة
الرفيعة، ألم يكن أوّل من جهر بالإسلام وتحدى المشركين ونادى بكلمة التوحيد حين
آمن بها وصدّق، فأعز الله به الإسلام؟ طوبى له، ولنعم دار المتقين.
قال أبو موسى: فعدت إلى الباب، فقلت له: ادخل يا
أبا حفص، لقد أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدخول، وأمرني أن أبشّرك بالجنة، فهنيئاً لك
هذه البشرى وهنيئاً لك الفردوس الأعلى.
قال عمر: الحمد لله، فهو وليُّ الحمد، وله المنّة
والفضل، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وجزى الله نبيه خيراً، فهو سبب
كلّ هذه النعماء، صلى الله عليه وعلى آله وسلم .. السلام عليك يا رسول الله ورحمة
منه وبركات، السلام عليك أيها الصدّيق
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((وعليك السلام يا
عمر ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه)).ورد الصدّيق بمثلها أو خيرٍ منها.
فجلس الفاروق إلى يسار المصطفى عليه الصلاةُ
والسلامُ ودلّى ساقيه في الماء يفعل كما يفعل صاحباه، وابتسم إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وإلى صاحبه الصدِّيق فابتسما
له، وحفتهم الملائكة طيبين ترفرف أجنحتها رضى بهم، فهم نبيّ كريم ووزيراه
الكريمان.
قال أبو موسى متلّهفاً: أين أنت يا عامر لترى الخير
العميم، ولتحظى بما حظي به العُمَران من مقام عالٍ ودعوة مستجابة، إن يُرِد الله
بك خيراً يأتِ بك، فتحرك الباب، فقلت في نفسي كن عامراً، ثم ناديت من بالباب؟
قال عثمان من ورائه: أنا عثمان بن عفان، أرسول الله
صلى الله عليه وسلم هنا؟
قال أبو موسى: نعم إنه هنا وصاحباه الصديق وعمر،
فانتظر قليلاً كي أستأذن لك عليه.
فذهب أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن لعثمان بالدخول إليه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ائذن له، وبشره
بالجنّة))، وسكت هنيهة، ثم قال: ((على بلوى تصيبه)).
قلت في نفسي بشرى بالجنة، وبلوى تصيبه، يرفع الله
بها مقامه ويمتحنه في صبره، فيصبر، إن الله مع الصابرين.
قال أبو موسى: فعدت إليه فقلت له: يقول لك الرسول صلى
الله عليه وسلم ادخل، ويبشّرك بالجنة على
بلوى تصيبك.
قال عثمان: الحمد لله، هو الذي يقدّر الأمور، وهو
الذي يعيننا على بلوانا، اللهم ألهمني الصبر واكتب ليّ الخيرَ حيث كان، أنت وليي
في الدنيا والآخرة.
السلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته، السلام
عليكما أيها الصدّيقان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((وعليك السلام يا
عثمان ورحمته وبركاته ومغفرته ورضوانه)).وردّ الصدّيق والفاروق السلام بمثله أو
بخير منه.
كان المكان حول البئر لا يتسع لأكثر من ثلاثة، رسول
الله وأبو بكر، وعمر، فجلس عثمان قبالتهم، وابتسم لهم، وابتسموا له، كانت الأنسام
تداعب المكان، والأنس حولهم ينشر المحبة والوئام، وكانت جلسةً كريمة تجمع نبياً
كريماً، وصديقاً رفيقاً، وشهيدين عظيمين.
رياض الصالحين: باب استحباب التبشير والتهنئة
بالخير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق