أرجو أن لا تعتبر هذا المقال تحليلاً سياسياً أو
استشرافاً لما يمكن أن ينجزه #ترامب في
سياسته القادمة على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فالتحليل السياسي حول صعود الرجل
وحملته الانتخابية العجيبة قد أتخم بحثاً وتحليلاً، بأكف أهل الرسوخ في السياسة
والاقتصاد.
ولكنني معني في مقالي هذا بدراسة الجانب الإنساني
من هذا التحول الرهيب في المجتمع الأمريكي.
يمارس المرشحون الأمريكيون عادة قدراً كبيراً من
الديماغوجيا والشعارات الأخلاقية والإنسانية في جولاتهم الانتخابية ويجتهدون أن
يقدموا أنفسهم للشعب الأمريكي رموزاً تترسم خطى المؤسسين الأوائل، وقيم الدستور
الأمريكي الإنسانية العالية، ويقدمون أنفسهم ملائكة حكماء، يعملون لخير الإنسانية
جمعاء وفق قيم الدستور الأمريكي والأساطير المؤسسة للمجتمع الأمريكي التي تجعله
اختيار الله من أرضه وخيرته من خلقه، وترسم في رسالته أن ينجز تفوق الإنسان ونهاية
التاريخ.
وقد نجح عدد من الزعماء الأمريكيين بتحقيق الخلود
عبر هذه العناوين الإنسانية ولا زالت كلمات #جيفرسون و #لينكولن و #كينيدي و #كارتر تلهم
الزعماء الأمريكيين أن #أمريكا تكون
سيدة العالم حين تتحمل مسؤولياتها الأخلاقية تجاه الشعوب وتبذل من أجل إسعادهم وهو
موقف أخلاقي بحت يفرضه على الأمريكيين التفوق الحضاري وإخاء الإنسان للإنسان.
ولكن ترامب يقود مشروعه الانتخابي على غير هذا
المثال بالكلية، ولا يجامل في شيء ويصرح بوضوح بأن الأخلاق مكر من الضعفاء لابتزاز
الأقوياء، وأن علينا أن نوفر للضعفاء والفقراء رحيلاً كريماً فالسوبرمان قادم،
وليس في طريقه مكان للمستضعفين والبؤساء، وأن العالم في جوهره حلبة مصارعة ضارية
لا مكان فيها للخجولين والضعفاء.
إنها في العمق الفلسفي خطابات نيتشة وصيحاته
الرهيبة لقيام السوبرمان الألماني وهي الصيحات التي أطلقها #هتلر في
مسمع العالم يوم قاد جنونه النازي هذا العالم الفاشل إلى الحرب العالمية الثانية.
أعلن ترامب أن العصر الذي تقوم فيه أمريكا بخدمات
مجانية تجاه الشعوب الأخرى قد انتهى تماماً، وأن المكاسب الأمريكية بما فيها
السرقات التي تتم في الحديقة الخلفية من خزائن الشعوب الاتكالية لا تكفي أبداً، بل
علينا أن نكون واضحين تماماً وأن نقدم مع كل جهد نبذله في هذا العالم فاتورة كاملة
من البزنس لا مكان فيها لخرافات الصدقة أو الإحسان.
لم أكن أتوقع أن أكتب في الدفاع عن العولمة، خاصة
أنني التزمت فيها مدرسة المعلم #طيب_تيزينيالذي كان يتحدث عنها بعبارته
الشهيرة إنها تبتلع الإنسان قيماً ثم تتقيؤه سلعاً، ولكن يبدو أننا لم نكن واعين
لجوانب أخرى في العولمة تتصل بالمساواة والتعاون الدولي والتكامل بين الشعوب وهي
التي ذرها اليوم ترامب في مهب الريح بدعوته للأنانية الأمريكية، للسوبرمان
الأمريكي الجديد الذي لا يريد مهاجرين ولا لاجئين ولا ضعفاء ولاغرباء، ولا يجد في
برنامجه أي تعاون في هذا السبيل إلا عن طريق عقود البزنس اللئيمة التي يكون فيه
للأمريكيين حصة الأسد ويتحمل فيها الآخرون بالكامل سائر النفقات التشغيلية
والمخاطر المتوقعة والالتزامات المستقبلية وفق أشد برامج الابتزاز صرامة وكيدية.
العولمة التي بشر بها الرؤساء الأمريكيون في العقود
الأخيرة والتي اعتبرناها تغولاً أمريكاً ضد الإنسان وإلزاماً للبشرية بالنمط
الأمريكي وكتب عنها مثقفونا وفلاسفتنا ومفكرونا مجلدات في التحذير منها، وتم عقد
مؤتمرات لا تنتهي في طول العالم العربي والاسلامي تحت عنوان مخاطر العولمة وشرورها
… تبدو اليوم في خطاب ترامب سخفاً من كلام الأقدمين ونفاقاً من زعماء يسوقون
أنفسهم برداء الأخلاق الكاذبة، وفي خطاباته الساخرة من الشعوب الضعيفة ومن
ثقافاتها وحروبها وأزماتها ومعاناتها ونازحيها ولاجئيها فإنه يصرح اليوم بوضوح أن
العولمة تكلف الأمريكيين فاتورة باهظة لا مبرر لها وأن علينا أن نبدأ عصر الأنانية
وأن نعلن نهاية عصر العولمة.
يقدم ترامب طريقته في التعامل مع الضعفاء على حلبة
المضارعة ويشاهدها العالم كله بياناً عملياً حين بطش ترامب بخصمه الأبله المليونير
ماكمان مدير عروض الرو الذي دخل معه في رهان طائش حول المصارعين الغاضبين لاشلي
وأوماغا، يقضي أن يحلق الأول للثاني إذا فاز بطله، وحين أعلن فوز لاشلي وجد ماكمان
نفسه على حلبة المصارعة موثقاً بشبيحة ترامب من ضباع المصارعة الأمريكية، في مشهد
لا يليق إلا بزعران الهومليس، وكان نصيبه كيلاً جارفاً من الإهانات والإذلال
وانتهى بجز شعره بالكامل بالموس في الحلبة على يد المرشح الأمريكي للرئاسة دونالد
ترامب!
لا يتدخل القانون الأمريكي في هذه الحالة حيث العقد
شريعة المتعاقدين، ولكن تتدخل عادة القيم الإنسانية وشهامة الرجال وتقاليد المروءة
في فض انتقام لئيم كهذا، ولكن يبدو أن شيئاً من هذه القيم لا تمر عادة في الوادي
الذي يسلكه ترامب، وشاهد الملايين الموس في يمينه وهو يحلق لخصمه المليونير على الصفر
على حلبة المصارعة في إشارة قوية وواضحة تختصر مسؤولية أمريكا تحاه الشعوب التي
تحاول أن تفرض حضوراً ما في المشهد الدولي على حساب المصالح الأمريكية.
والسؤال الآن هل تعكس نتيجة الانتخابات بالفعل
العقل الأمريكي الأناني المتغطرس؟ وهل كان الزعماء الأمريكيون ثعالب ماكرة ترتدي
الفراء الناعم ولكنها تمارس سلوك الذئب حين تغفل عين الرقيب؟
لقد راهن خصوم ترامب على خسارته وفشله واعتبر
أوباما أن خطابه مهين للأمريكيين لأنه يجعلهم بلا قلوب، وانصرف مع فريقه
الديمقراطي وكثير من الجمهوريين أيضاً للحديث عن خسارة حتمية لترامب على أساس
انتهاكه للقيم التي يؤمن بها الشعب الأمريكي العظيم.
ولكن النتائج كانت صادمة تماماً وعلى الرغم من
الاستطلاعات التي لم تتردد منذ ستة أشهر في تأكيد تقدم هيلاري كلينتون فإن الرجل
قلب الطاولة على الجميع وأعلن وصوله إلى البيت الأبيض على متن فلسفة ترامبية نيتشوية
فيختوية هتلرية تؤمن بالقوة والمصالح، ولا تتسع سطورها للأخلاق والتعاون الإنساني.
هل كنا نبيع الأوهام حين تحدثنا عن الحضارة الحديثة
بأنها حضارة إنسانية تؤمن بالإخاء الإنساني وحقوق الإنسان؟
وهل كنا نكذب على الناس حين قلنا لهم إن الفائض
الحضاري ينتج فائضاً أخلاقيا؟
وما مصير الإرهاصات التي قدمناها حول نضج الإنسانية
واقتراب اكتمال النموذج الإنساني ونهاية التاريخ؟
تبدو سياسات ترامب متسارعة في الاتجاه المعاكس
ويبدو الرجل صاحب مشروع مناهض بالكامل لسياسات التعاون الدولي والإخاء الإنساني،
ولا تبدو الإنسانية ذات قيمة مؤثرة في سياساته الموعودة فالرجل مثلاً مستعد
للتعاون مع الروس فقط على اقتسام المصالح والنفوذ، ولم ترد في كل تصريحاته عمداً
ولا سهواً أنه في وارد مساءلتهم عن جرائمهم في حقوق الإنسان، أو احتلالهم العسكري
للدولة الضعيفة التائهة، بل عكس إعجابه بسلوك بوتن ومهارته في بزنس السياسة ونجاحه
في بورصة الوطن السوري المهشم، ولم يظهر أي إشارة إلى أن بوتن يمارس الاحتلال
والعنصرية والقهر بأسلوب يتناقض كلياً مع المثل الأمريكية وقيم الدستور الأمريكي،
وإعلان حقوق الإنسان.
هل دخلت الإنسانية نفق الأنانية من جديد وهل أصبح
عصر العولمة جزءاً من الماضي؟ وهل دخل العالم عصر الأنانية المطلقة؟
وهل كانت العولمة بالفعل مشروع إخاء إنساني نبيل
ظلمناه حين اعتبرناه مشروع هيمنة وسيطرة؟
أفضل سبيل لمواجهة هذه الصدمة الفكرية الضارية أن
نقول إن زعران أمريكا هم الذين انتخبوا ترامب!! وأن الرجل الذي حقق شعبيته بين
المصارعين وشبيحتهم وزعرانهم لا يملك أي احترام على مستوى النخب الأمريكية الواعية
التي لا تزال تؤمن بالإنسان.
يا ويلاه… زعران أمريكا !! إننا نتكلم عن أغلبية
الشعب الأمريكي الذين اختاروا خطاب الأنانية والانفعال ورفضوا السيدة المهذبة المتوازنة
هيلاري كلينتون، واستجابوا لزعيق المصارعين وصخب البورصات وضجيج الدولاب الانتخابي
واختاروا عن قرار وإرادة رجل الذهب والغضب والنفط والسخط ليكون زعيمهم إلى مرحلة
جديدة من قيادة العالم.
إنني أفقد براهيني شيئاً فشيئاً أن الإنسانية ماضية
إلى كمال حضاري، ولم يبق لي إلا الإيمان الميتافيزيقي وحده، وبقية من فطرة أتلمسها
في القلب، بأن الله خلق العالم من أجل مشروع ناجح ومن المستحيل أن ينتهي الأمر إلى
انتصار الانفعال على العقل، أو الغضب على الحكمة، أو الأنانية على الإنسانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق