بسم الله الرحمن الرحيم
حين
نتحدّث عن حقوق الإنسان في سورية، لا نعرف من أين نبدأ، وإلى أين
سننتهي!..فالإنسان نفسه في سورية غير معتَرفٍ به، في ظل نظام الطغيان والاستبداد،
الذي قفز إلى السلطة بانقلابٍ عسكريٍّ، منذ أكثر من خمسين عاماً. فقد كان انقلاب
البعث في الثامن من آذار عام 1963م كارثةً حقيقيةً ما تزال سورية تعاني منها حتى
اليوم، إذ دخلت البلاد في نفق حكم الحزب الواحد المتسلّط القمعيّ، فقُمِعَ الإنسان
السوريّ على نحوٍ لم يسبق له مثيل في تاريخه، وأُدخِلَت سورية في مرحلة تدمير
البنية التحتية الأساسية للمجتمع، عبر صراعاتٍ طبقيةٍ اتخذت فيما بعد الصبغة
الطائفية الواضحة، حين فتح حزبُ البعث البابَ على مصراعيه أمام الأقليات الطائفية
(لاسيما العلوية)، لتمسك بزمام الأمور ومفاصل القوّة الحقيقية والسلطة في البلاد،
وبدأت تظهر الحالة العدائية الحزبية للشعب السوريّ، لاسيما تجاه الأكثرية الكاثرة
منه، عبر مَنهجٍ تدميريٍ ثابتٍ تمتعت به كل الحكومات البعثية والطائفية المتعاقبة.
نعم، لقد كان
قَفْزُ حزب البعث إلى السلطة نقطةَ انعطافٍ خطيرةً في تاريخ سورية، فقد عمد إلى
مصادرة الحريات العامة، وإلى حَلّ الأحزاب السياسية، وإغلاق الصحف والمجلات ومنابر
الرأي، وفَرْض الأحكام العُرفية، واحتكار وسائل الإعلام، وإلغاء كل دَوْرٍ
للمعارضة السياسية!.. لقد بدأ في سورية –منذ ذلك الوقت- حُكمٌ فرديّ استبداديّ مَقيت،
عطّل كل أشكال الحياة السياسية في البلاد، ولَاحَقَ الأحرارَ وأصحابَ الرأي
المخالف وطاردهم، وأعلن قوائمَ طويلةً للإقصاء المدنيّ، كان ضحاياه مئات رجال
الفكر والدين والسياسة، وتشبّث بالشعارات والأدبيّات الاستبدادية الفاسدة، وتبنّى عقيدة
(العنف الثوريّ) لتصفية خصومه المخالفين له في الرأي، ولم يَنجُ من عواقب هذا
السلوك الفاشيّ حتى رجال البعث أنفسهم، عبر التصفيات المصلحية التي جرت بينهم،
والانقلابات العسكرية التي وقعت من قِبَل بعضهم على بعضهم الآخر، على حساب الوطن والشعب!..
*
* *
وبقفزِ (حافظ
أسد) إلى السلطة عبر انقلابه العسكريّ عام 1970م، تعزّز التسلّط الطائفيّ على
البلاد، إلى أن أحكم الطائفيون حلقات الخناق على الشعب السوريّ، عبر الإقصاء
وارتكاب المجازر في المحافظات السورية، كمجازر حماة وحمص وسجن تدمر وحلب وإدلب
واللاذقية وجسر الشغور.. وغيرها، واعتُقِل عشرات الآلاف من أحرار سورية وحرائرها،
وأُخْفِي قسرياً آلاف السوريين والفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين، ومورسَ القتل
والتعذيب والإعدام في أبشع صُوَره، وأُقصي المعارضون للنظام الاستبداديّ بشكلٍ
كامل، وقُمِع الناس، وحوربوا في أرزاقهم ووظائفهم، وسُحِق -بموجب قانون الطوارئ
والأحكام العُرفية- مئاتُ الآلاف من السوريين، واستأثر الطائفيون بكل شيءٍ في
البلاد.. إلى أن حوّلَ حافظُ أسد الجمهوريةَ إلى جمهوريةٍ وراثية، فورّث الحكمَ
إلى ابنه بشار، تحت سطوة أجهزة المخابرات والجيش الطائفيّ الاستبداديّ، فسار بشار
على خُطا أبيه الدكتاتور، إلى أن سَاقَ البلادَ إلى الحال المأساوية الكارثية التي
نشهدها ويشهدها العالَمُ كله اليوم، في أبشع صورةٍ وأشدّها إيلاماً في التاريخ، لانتهاكات
حقوق الإنسان السوريّ!..
*
* *
لقد كان (الإعلانُ العالميّ لحقوق الإنسان)
الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ العاشر من كانون الأول لعام 1948م،
أهمَّ الوثائق والمواثيق التي أسّست لإحياء الحقوق الإنسانية، وصَوْنها، وفَرْض
الإجراءات العقابية على منتهكيها، فقد اتفقت دول العالَم على العمل بالموادّ
الثلاثين لهذا الإعلان. ويمكننا القول: إنّ ما جرى ويَجري في سورية، وما ارتكبه
ويرتكبه الحُكم الاستبداديّ الطغيانيّ طوال أكثر من نصف قرن، يُعتَبر من أشد
انتهاكات حقوق الإنسان في العالَم منذ مئات السنين، بل في تاريخ سورية منذ فجر هذا
التاريخ، وإنّ إلقاء نظرةٍ سريعةٍ على مواد هذا (الإعلان العالميّ)، يُظهِر بوضوحٍ
صارخ، أنّ النظام السوريّ انتهك وينتهك هذا الميثاق بأبشع ما ابتكره طغاة الأرض من
أدوات الاضطهاد والاستبداد، منذ قرون!..
لقد أكّد (الإعلان
العالميّ لحقوق الإنسان)، على الآتي:
1- ما يتعلّق بالحريات:
صَوْن الحرية الشخصية والقانونية، ومَنْعُ التعذيب والعقوبات المـُذِلَّة، وحماية
حرية الرأي والفكر وحرية المشاركة في الاجتماعات والجمعيات المسالمة، وحماية
الملكية الشخصية والحياة الخاصة والشرف.
2- ما يتعلّق
بالمقاضاة وتطبيق القانون: مَنْعُ الاعتقال أو الحبس أو النفي
استبداداً، وصَوْنُ حَق التقاضي النزيه علناً، والتزام القانون ومبادئه في التجريم
والمعاقَبَة.
3- ما يتعلّق
بالحياة الاجتماعية: المساواة بين المواطنين أمام القانون،
ونبذ التمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو الدين أو المذهب السياسيّ، وحِفظُ
حقوق الأمن الاجتماعيّ، والتمتّع بالجنسية وحقوقها، وحَقِّ الناس بتولي المناصب
والاشتراك في الحياة العامة، وحَق التنقّل والسفر.
4- ما يتعلّق
بالعدالة الاجتماعية وحَق المواطَنَة: حماية حَق
العمل والراحة والتعليم، وحفظ الحقوق في مستوى العيش الكريم، وحرية الإسهام في
الحياة المجتمعية الثقافية والفنية والأدبية.
5- ما يتعلّق
بحق الأسرة: صَوْنُ حرمة العائلة، وحماية حق الزواج وحقوق
المرأة في الحياة والأمن والحرية الشخصية، وحماية حقوق الطفولة والأمومة.
يؤلمنا القول:
إنّ الحقوق الإنسانية التي أقرّها (الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان)، التي ذكرناها
آنفاً، كلها منتَهَكَة في سورية منذ عشرات السنين، إلى الدرجة التي يمكننا القول
فيها: إنّ الشعب السوريّ يعيش حياة العبودية المكتملة الأركان، منذ أكثر من نصف
قرن، وهو الدافع الرئيس، الذي دفع السوريين للثورة على هذا النظام الطاغي الباغي
الاستبدادي الإجرامي.
*
* *
لقد تطوّرت
انتهاكات حقوق الإنسان في ظل النظام السوريّ الحاكم الفاسد، أثناء ثورة الحرية
والكرامة (منذ آذار 2011م)، إلى درجاتٍ مُرعبةٍ شاملة، هزّت العالَم والضمائر في
المنطقة وأقاصي الأرض، لشدة إجرامها المتمثل في إهلاك الزرع والضرع، ومثالاً على
ذلك، نورد إحصائيةً تقديرية مُجمَلَةً لـِمَا استطاعت (الشبكة السورية لحقوق
الإنسان) أن توثِّقَه خلال حوالي خمس سنواتٍ من عمر الثورة السورية (من شهر
آذار 2011م إلى شهر آذار 2015م)، مع التنويه إلى أنّ الأرقام الحقيقية أكبر بكثيرٍ
من الأرقام التي أمكن توثيقها حسب المعايير الدولية الصارمة:
1- الضحايا البالغون
المدنيون: (183827) شخصاً.
2- الضحايا
الأطفال: (19594) طفلاً.
3- الضحايا
النساء: (19427) امرأة وشابّة.
4- المعتقلون
تعسّفياً: (124596) شخصاً، منهم: (10873) طفلاً، و(8642) امرأة.
5- الضحايا
بسبب التعذيب: (12486) شخصاً، منهم: (159) طفلاً، و(38) امرأة.
6- اللاجئون
إلى خارج سورية: (6.9) مليون.
7- النازحون
داخل سورية: (6.5) مليون.
علماً أنّ
توثيق مراكز أبحاثٍ وإحصاءٍ سورية وعالمية، يفيد أنّ عدد الضحايا تجاوز الـ (600)
ألف، وعدد الإصابات الحربية تجاوز المليونين، وعدد المعتقلين تجاوز الـ (500) ألف،
وعدد الضحايا بسبب التعذيب قد تجاوز الـ (100) ألف.
فضلاً عن
تدمير حوالي (سبعة) ملايين منزل، و(مئة) ألف مسجدٍ وكنيسةٍ ومشفىً ومدرسةٍ ومخبزٍ
ومؤسسةٍ صناعيةٍ وتجارية، وذلك كله يشكِّل ما نسبته (70%) من سورية، وكذلك تدمير
البنية التحتية للبلاد بنسبة (50%).
*
* *
لقد صنّفت
(المحكمةُ الجنائيةُ الدوليةُ) الجرائمَ ضد الإنسانية في عشرة أبواب، منها:
القتل العمد،
والإبادة الجماعية، وإبعاد السكان ونقلهم قسرياً، والسجن أو الحرمان بما يخالف
القانون الدوليّ، والتعذيب، والاغتصاب أو العنف الجنسي، والاضطهاد لأسبابٍ سياسيةٍ
أو عرقيةٍ أو قوميةٍ أو ثقافيةٍ أو دينية، والإخفاء القسريّ للأشخاص، وتعمّد إلحاق
الأذى البدني أو العقليّ بالناس.
كما صُنِّفَت
(جرائمُ الحرب) في نظام (المحكمة الجنائية الدولية)، انسجاماً مع اتفاقيات جنيف
المؤرَّخَة في 12 من آب لعام 1949م.. صُنِّفَت في أبوابٍ كثيرة، من أهمها:
القتل العمد،
والتعذيب، وإلحاق الأذى الشديد بالصحة والبدن، وإلحاق التدمير الشديد بالممتلكات
أو الاستيلاء عليها، وإرغام الأسرى على الخدمة في صفوف القوات المعادية، واحتجاز
الرهائن، والإبعاد أو النقل غير المشروعَيْن، والحبس غير المشروع، وشَنّ الهجمات
العسكرية ضد المدنيين والمواقع والمنشآت المدنية، والهجوم على موظّفين أو منشآتٍ
أو مواد أو مَركباتٍ مخصَّصةٍ لمهام الإغاثة أو المساعدة الإنسانية، ومهاجمة أو
قصف المدن أو القرى أو المساكن أو المباني العزلاء، وتَعَمُّد مهاجمة المباني
المخصَّصَة للأغراض الدينية أو التعليمية أو العلمية أو الخيرية أو الفنية أو
الآثار التاريخية أو المستشفيات أو المنشآت الطبية أو أماكن تجمّع المرضى والجرحى،
والإعلان أنه لن يبقى أحد على قيد الحياة إن لم يستسلم، ونهب الأماكن والبلدات
التي يُستَوْلى عليها عسكرياً، واستخدام الغازات والسوائل والمواد السامة والأسلحة
والقذائف والأجهزة المحَرَّمَة بالقانون الدوليّ، وتعمّد تجويع المدنيين أو عرقلة
الإمدادات الإغاثية.
لعلّ المتأمّل
بهذا التصنيف لـ (الجرائم ضد الإنسانية) و(جرائم الحرب)، والمتابع لما يرتكبه
النظام السوريّ، وحلفاؤه الروس والإيرانيون والميليشيات التابعة لهم، بحق الشعب
السوريّ.. يستطيع أن يصلَ إلى اقتناعٍ تامٍ راسخ، أنّ هؤلاء الجناة المذكورين، يرتكبون
كلَّ أنواع (الجرائم ضد الإنسانية) و(جرائم الحرب) ضد الشعب السوريّ، على اختلاف
أنواعها وأشكالها وأصنافها.
*
* *
إنّ
الانتهاكات الخطيرة العميقة لحقوق الإنسان السوريّ طوال أكثر من خمسين سنة، لاسيما
في السنوات الست للثورة السورية، وعزوف المجتمع الدوليّ عن وَضعِ حدٍّ لها، لاسيما
الدول المعنية بالحفاظ على السلم العالميّ.. يُعتَبَر عاراً وفضيحةً مجلجلةً،
وتواطؤاً فاضحاً لهذا المجتمع الدوليّ، وشراكةً مكتملة الأركان في انتهاك حقوق
الإنسان، بأبشع الصُّوَر وأشدّها إجراماً، وهذا يستوجب أن لا يُساقَ بشار وبوتين
وخامنئي وسليماني وروحاني وأزلامهم المجرمين، إلى المحاكم العادلة.. فحسب، بل أن
يُساقَ إليها أيضاً، كلُّ قائدٍ أو رئيسٍ مَعنيٍّ بالحفاظ على السلم الدوليّ، ولم
يحرِّك ساكناً لإحقاق الحق واحترام القانون الدوليّ، أو لمـَنع المجرم من التمادي
في ارتكاب أبشع الجرائم في التاريخ البشريّ.
إنّ استمرار
إطلاق أيدي المجرمين البشاريين والروس والإيرانيين وأذنابهم، في انتهاكاتهم
الفظيعة لحقوق الإنسان السوريّ، سيؤسِّس لمرحلةٍ خطيرةٍ من التطرّف الذي لم تعهده
البشرية في تاريخها، والذي ستأكل نارُهُ فيما تأكل، بلدانَ قادة العالَم المعنيين بتحقيق
السلم العالميّ، الساكتين أو المتواطئين أو المتعاجزين عن قمع هذه الانتهاكات، وفق
القانون الدوليّ الذي وضعوه للتعامل البشريّ، تلك الانتهاكات التي تُمارَس ضد شعبٍ
أعزل ثار على الظلم والقمع والاستبداد والاضطهاد، لتحقيق حريته وكرامته.
يوم الثلاثاء
في 6 من كانون الأول 2016م
*
* *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق