هاجر.... ولكن هجرته لم تكن فصلا من تاريخ غابر,,,
إنها في العمق درس نحتاجه كل يوم، وهو في قناعتي الدرس الأول للسوري التائه في هذا
الزمن الشريد...
كانت الهجرة خامس المحاولات التي خاضها الرسول
الكريم من أجل إقامة الدولة ...
المحاولة الأولى كانت في مكة وتلقتها قريش بصدود
كبير وكرست بطشها وغرورها لمحاربة الرسالة والرسول، وبعد سنوات قليلة تبين أن لا
أفق على الإطلاق لبناء دولة مدنية تفصل بين الكهنة وبين الحياة على أرض مكة،
فالكهنة كانوا أقوى بطشاً وأكثر مرتفقاً وحين فهموا مشروعه بعمق قالوا أخرجوهم من
قريتكم إنهم أناس يتطهرون.
والمحاولة الثانية كانت في الحبشة، وأرسل إليها
طليعة رجاله جعفر بن أبي طالب وعثمان بن عفان، وسرعان ما تبين أن الحبشة تصلح أرض
لجوء ولا تصلح أرض قيام الرسالة، وذلك لغربة اللغة واللسان والإنسان فيها، وقامت
الحبشة بإيواء اللاجئين ولكنها لم تكن جاهزة لاحتضان مشروع رسالي يغير من طبيعة
الحياة الكهنوتية العميقة في الحبشة.
أما
المحاولة الثالثة فقد كانت في الطائف وقد ذهب الرسول بنفسه ليمهد الطريق لهجرة واقعية
من الوادي إلى الجبل، فالكهنة في الطائف ليس لديهم ذلك النفوذ الذي يمتلكه كهنة
مكة، وكان الرسول يملك من كاريزما الاقناع وحجية البيان ما لايملكه أحد، ولطالما
حلم أن يكون هواء الطائف العليل هو ما يداعب
وجهه حين ينصرف من صلاة الفجر والعشاء بعيداً عن صحراء مكة اللاهبة، وأن تكون الأفئدة
والقلوب في الطائف أكثر رقة لخطاب السماء وحداء الوحي، ولكنه جوبه بصدود مريع وتواطأ الثقفيون على صده
وضربه بالحجارة حتى سال الدم من رأسه إلى أخمص قدميه، وحين اكتمل مشهد الظلم
والقهر امتحنته السماء بأن يلعنهم ويدمر فوقهم ولكنه قال اللهم اغفر لقومي فإنهم
لا يعلمون...
وأما المحاولة الرابعة فقد كانت في الحيرة حيث تقيم
قبائل عربية عريقة على أطراف الحضارة الساسانية وكان بإمكانها أن تحتضن مشروع
الرسالة والرسول، ولطالما تمنى الرسول أن يرحل هناك حيث يقترب من المشهد الحضاري الدولي
ويقدم مشروعه من أفق بصير عند تخوم الحضارات الأولى حيث بلد أبيه إبراهيم في أور..
ولكن تراجعت الآمال في اللحظة الأخيرة وقال له مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة: إن
هذا الأمر الذي تدعو إليه لهو الأمر الذي تكرهه الملوك....
كانت يثرب هي إذن الوجهة الخامسة للهجرة، وقد تكللت
بالنجاح بعد عامين اثنين من البرامج التنويرية الديمقراطية المستمرة التي خاضها في
يثرب فتى قريش الدبلوماسي الرائع مصعب بن عمير، وهكذا أصبح في المدينة أغلبية
ديمقراطية كافية اختارت سلمياً استقبال الرسول الكريم والعمل معه على بناء الدولة
الجديدة.
وعلى الرغم من وصوله إلى المدينة بعد رحلة الهجرة
الطويلة ولكنه أوى إلى قباء على تخوم يثرب ورسم بعناية فائقة مشهد دخوله
الديمقراطي إلى المدينة بدون قطرة دم، وبمهرجان احتفالي فريد غنت فيه صبايا
المدينة أشهر أغنية غنتها الحناجر خلال التاريخ كله وهي طلع البدر علينا من ثنيات
الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع.
لقد أراد أن يكرس صورة الانتصار الإسلامي وروداً
وخدوداً وسنابل، وليس سيوفاً وصراها وقنابل، ينصر بالفرح والحبور وليس بالرعب
والقبور.
ما يهمني في ذلك هو أن خمس محاولات خاضها الرسول الكريم
للتغيير في مواجهة قوى الأصنام والأوثان والآلهة العتيقة والربا الجاهلي وتجارة
الفحشاء ومصالح الكهنة.. ورغم إصرارهم على مواجهته بالحديد والنار، وحشدهم لأربعين
سيفاً بهدف ضرب رأسه ضربة واحدة تفرق دمه في القبائل .. ولكنه لم يستخدم في
مواجتهم سكين مطبح!! ولم يقم بإراقة قطرة دم واحدة من خصومه الذين مارسوا ضده وضد
رسالته وضد أصحابه كل أنواع الرذائل!!..
فقط للمقارنة بين ما مارسته الميليشيا الداعشية
التي رفعت شعار خلافة على منهاج النبوة، وبدأت مشروعها بالتفجير والذبح والرعب، من
مانهاتن إلى سبايدر إلى الشعيطات وكان تصرخ عند كل ذبح جديد: خلافة على منهاح النبوة!!
لم تدخل داعش مدينة أو قرية إلا هرب أهلها هائمين
في الأرض أفواجاً، يلتحفون السماء ويفترشون العراء، وخرج الناس من دين الله
أفواجاً دون أن يفهموا ما الذي تريده الخلافة السوداء التي تقول إنها قادمة على
منهاج النبوة.
لم يسجل في المدينة نازح واحد، على الرغم من التحول
الدراماتيكي الذي حققته الدولة الإسلامية في العادات والطبائع والعقود
والالتزامات، وحين دخل الرسول الى المدينة ظل فيها اليهودي والمسيحي والوثني، يرقبون
ما تصنعه الأغلبية المبتهجة بمشروعها الجديد دون أن يفرض عليهم أي لون من الإكراه،
ودون أن يواجهوا هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفرض عليهم شعائر الإسلام، ومنحهم
الرسول خلال أسابيع اتفاقيات حقيقية تحمي وجودهم في المدينة يهوداً أو أصحاب
أوثان، لا يطلب منهم في الجوهر أكثر من احترام حق الأغلبية في بناء دولتها وفرض
احترامها في جزيرة العرب.
من أصل انتين وعشرين قبيلة يهودية تنتمي إلى بني
عوف شملها اتفاق المدينة فإن ثلاث قبائل فقط نكثت العهد واتصلت بأعداء المدينة وقد
واجهت مصيراً محتوماً وفق خيانتها ونقضها للعقود وهي قينقاع والنضير وقريظة، ولكن
عشرين قبيلة أخرى ظلنت في المدينة تعيش مع الأغلبية المسلمة، وتحترم صورة المجتمع
الجديد في رؤية ديمقراطية كريمة.
ولعل من أبرز الصور أن الرسول مات ودرعه مرهونة عند
يهودي، الأمر الذي يعني أن اليهود استمروا في المدينة يعيشون في ظروف معقولة
واستمر بعضهم في وضع اقتصادي قوي لدرجة أنه يقرض رئيس الدولة!!
إن أهم ما ينبغي تخليده هو أن الدولة في المدينة
قامت بالفعل من خلال قيم ديمقراطية في ذلك الزمان، ولم يملك المشركون ولا اليهود
ولا المنافقون أن يعترضوا على هذه الحقيقة التي كرست تفوقا ديمقراطياً واضحاً
للرسول وأصحابه، ولم يستخدم في هذا الصعود كله أي قطرة دم، ولم يستخدم في قيام هذه
الدولة أي سلاح على الإطلاق، ولم يكن في طليعة رجاله أي انتحاري ولا انغماسي ولا
مجاهد، لقد تم ذلك كله بعمل سلمي أبيض.
وبعد أن
قامت الدولة الجديدة بشروطها وظروفها الصحيحة فإن الواجب كان يفرض تماماً تأسيس
جيش وطني لحماية الناس، وينبغي أن نقول دون أي تردد: إن الدولة هي من جاء بالجيش
وليس الجيش هو الذي جاء بالدولة..
إنها مفارقات متقابلة ترسم للثوار صورة قيام الدولة الرشيدة التي هي على منهاج
النبوة دون عنف ودون دماء.
أدرك تماماً أن الثورة التي يخوضها اليوم شباب
أحرار ضد الظلم والظالم هي كفاح من نوع آخر، يتعاون فيه كل المظلومين للخلاص،
وهدفه الجوهري هو الحرية والخلاص ورفع الظلم ورد الصائل، وهذا اللون من الكفاح
يشترك فيه المجاهد المسلم مع المناضل
اليساري والثائر العلماني، حيث يتعاون الكل في ردع الظالم ووقف شره.
أما الكفاح لبناء الدولة وفرض نموذجها الإسلامي
الذي نريد فإن علينا اتباع النبي الكريم في تحقيق هذا الهدف النبيل بالوسائل
الديمقراطية السلمية دون سواها، وحين نفشل فإننا مأمورون أن نفعل كما فعل الرسول
الكريم في البلاد التي رفضت ديمقراطياً أن تستجيب لرسالته، وأن يقول لهم كما قال
لأهل مكة والطائف يوم اختارت الأكثرية فيها رفض الرسالة والرسول: اللهم اهد قومي
فإنهم لا يعلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق