السياسة الشرعية باب جليل القدر من
أبواب الفقه في الإسلام، لاشتماله على أحكام تتعلق بقيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية
والدنيوية، وانطلاقاً من أهمية هذا الباب وتأثيره في وضع الأمة وأحوالها فقد تصدى للتصنيف
فيه نخبة من العلماء الرواد، نذكر منهم الإمام ابن تيمية في كتابه ( السياسة الشرعية
في إصلاح الراعي والرعية ) والإمام أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي
في كتابه ( الأحكام السلطانية ) وابن قيم الجوزية في كتابه ( الطرق الحكمية في السياسة
الشرعية) هذا عدا جملة واسعة من مباحث السياسة الشرعية التي وجدت مكانها ومكانتها في
بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث .
ولا شك بأن خطر هذا الباب عظيم، لما ينتج عن
الغلط فيه من نتائج قد تعود على الأمة بكوارث مدمرة، كما أشار ابن القيم في كتابه المذكور
فقال رحمه الله : (وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط
فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، پوجعلوا الشريعة
قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق
معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها .. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت
من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث
الله به رسوله وأنزل به كتابه)
ومع تقديرنا لما اشتملت عليه الكتب المشار إليها
وغيرها مما يتعلق بالسياسة الشرعية فإننا نلاحظ أن ذلك كله قد كتب في ظل سلطة سياسية
قاهرة أنتجتها ظروف "الفتنة الكبرى" وما تلاها، ومن ثم ينبغي أن نقرأ ما
كتبوه في إطار تلك الظروف التاريخية المُشْكلة، وعندئذ نجد أن ما كتبوه وما قرروه من
أحكام يندرج تحت عنوان ( إنقاذ ما يمكن إنقاذه ) فقد رأى أولئك الرواد ضرورة المحافظة
على وحدة الأمة ولو جاء ذلك على حساب الشرعية السياسية التي أهدرتها ظروف الفتنة، وجعلت
بعض الساسة يتخذون من دعوى درء الفتنة حجة لتأسيس سلطة قاهرة لا تحفل بالشرعية السياسية
التي بسطت آثارها السلبية على تاريخنا السياسي كله وما زال !!
وهذا ما يجعل الأولوية اليوم ليس تجديد فقه
"السياسة الشرعية" كما يدعو إليه اليوم بعض الباحثين، وإنما إعادة تأسيس
"شرعية سياسية" مازالت مهدرة منذ الفتنة الكبرى إلى يومنا الحاضر، أو بتعبير
آخر نحن اليوم بحاجة ماسّة لإعادة بناء القيم السياسية الأساسية (العدالة، الحرية،
حقوق الإنسان، المواطنة ..) من منظور فقهي علمي ينبع من معين الإسلام لا من خارجه كما
فعل جُلّ الذين تصدوا في عصرنا إلى هذه المسألة، وإن لنا في تراثنا الفقهي الكثير مما
يتعلق بهذه القيم التي - للأسف الشديد - بقيت
مجرد أجنة في بطون كتب الفقه تحت تأثير السلطة السياسية القاهرة، ولم يسمح لها باستكمال
النمو والولادة، لأسباب عدة أبرزها " الفتنة الكبرى" التي هددت وحدة الأمة،
وهددت بتوقف الدعوة ونشر الإسلام، وهذا ما وضع الفقهاء في موقف حرج، إذ رأوا أن الأمة
أصبحت أمام استحقاقات ثلاثة يتعذر الوفاء بها جميعاً في وقت واحد، هي :
١- استعادة شرعية السلطة .
٢- المحافظة على وحدة الأمة .
٣- مواصلة نشر الدعوة .
وأمام هذا الموقف الصعب، ذهب الفقهاء
إلى الأخذ بقاعدة ( الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ) فمالوا إلى التضحية بشرعية السلطة
حرصاً على وحدة الأمة ومواصلة نشر الإسلام وقطع دابر الفتنة، وهذا التوجه الفقهي نلمسه
بوضوح في كل ما كتبوه في باب السياسة الشرعية !!
لكن .. إذا ما كان للفقهاء - في تلك
الفترة العصيبة وتحت وطأة تلك الظروف الملتبسة - عذرهم في ما ذهبوا إليه، فلا يصح أن
تبقى هذه قاعدة مطردة إلى اليوم، فيكفي ما دفعته الأمة من ضريبة باهظة حتى اليوم لقاء
تفريطها بالشرعية السياسية بحجة درء الفتنة وجمع كلمة الأمة .. وأين هي كلمة الأمة
اليوم؟! بل أين هي الأمة نفسها اليوم ؟!!
ومن هنا نرى أن الجهود كلها ينبغي
أن تتجه اليوم نحو بناء شرعية سياسية تعيد وضع الأمور في نصابها ، وتنهي الانتهاكات
الرهيبة التي مازالت الأنظمة الغاشمة ترتكبها في حق الأمة بذريعة المحافظة على وحدة
الكلمة ومنع تقسيم الوطن !!؟
( وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين )
د . أحمد محمد
كنعان
kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق